من تشرف برؤية الامام الحجة
لقد اتّفق أعلام الامامية علي وقوع رؤية الامام صاحب الزمان (عليه السلام) في حياة أبيه الامام العسکري (عليه السلام) وبعد ذلک حتّي نهاية الغيبة الصغري، أي في الفترة الواقعة بين سنة 255 هـ وهي السنة التي ولد فيها الامام الحجّة (عليه السلام) وبين سنة 329 هـ وهي السنة التي مات فيها أبو الحسن علي بن محمّد السمري آخر السفراء، وبعدها حلّت الغيبة الکبري.
ونقل المشايخ المتقدّمون أحاديث کثيرة سمّوا فيها الاشخاص الذين تشرّفوا برؤية الامام المهدي (عليه السلام) خلال الفترة الواقعة قبل الغيبة الکبري، ومن جملة هؤلاء المشايخ الشيخ الکليني المتوفّي 329 هـ والذي أدرک الغيبة الصغري بتمامها تقريباً، والشيخ الصدوق المتوفّي سنة 381 هـ وقد أدرک نحو عشرين عاماً من الغيبة الصغري، والشيخ المفيد المتوفّي سنة 413 هـ، والشيخ الطوسي المتوفّي سنة 460 هـ وغيرهم.
وقد تحقّق من مجمل رواياتهم أنّ الامام العسکري (عليه السلام) قد مکّن خلّص أصحابه من رؤية ولده الامام المهدي (عليه السلام) وحذّرهم من الاختلاف بعده، ففي مرّة واحدة تقدّم إليه جماعة من أصحابه وفيهم علي بن بلال ومحمّد بن معاوية بن حکيم
[ صفحه 128]
والحسن بن أيوب بن نوح وعثمان بن سعيد العمري وغيرهم نحو أربعين رجلاً، فسألوه عن الامام بعده، فأخرج الامام الحجّة (عليه السلام) إليهم، وقال لهم: هذا إمامکم من بعدي وخليفتي عليکم، أطيعوه ولا تتفرّقوا من بعدي فتهلکوا في أديانکم [1] .
ورآه يوم وفاة أبيه (عليه السلام) احمد بن عبد الله الهاشمي، وهو من ولد العباس، مع تسعة وثلاثين رجلاً منهم إبراهيم بن محمّد التبريزي [2] .
ورآه جماعة من الشيعة بمکّة عند المستجار وکانوا زهاء ثلاثين رجلاً منهم محمّد بن القاسم العلوي العقيقي والمحمودي وعلاّن الکليني وأبو الهيثم الديناري وأبو جعفر الاحول الهمداني وغيرهم [3] .
ورآه وفد قم والجبال وکان فيهم أبو العباس محمّد بن جعفر القمي الحميري، وشاهدوا معاجزه ووقفوا علي دلائله [4] .
وعدّد الشيخ الصدوق في حديث واحد ثمانية وستين رجلاً ممّن رأوه ووقفوا علي معجزاته من الوکلاء وغيرهم مع ذکر بلدانهم [5] ، والملاحظ من خلال بيانه لبلدانهم أنّ رؤية الامام الحجّة (عليه السلام) لم تقتصر علي الاصحاب الذين في سامراء وبغداد والمناطق القريبة منهما، بل شملت مختلف أطراف وديار الاسلام، ولا ريب أنّ الامام العسکري (عليه السلام) قد عمد إلي بيان ذلک علي يد الخلّص من أصحابه کي تتمّ الحجّة
[ صفحه 129]
علي الناس في مختلف بلدان الاسلام، ولا يخفي أنّ الانکار والمکابرة بعد بيان الحجّة والمشاهدة العينيّة هما طريقان يؤدّيان إلي الضلال والخسران والموت علي سنن الجاهليّة.
ومن البلدان التي ذکرها الشيخ الصدوق في روايته المتقدّمة: بغداد، والکوفة، والاهواز، وقم، والري، وآذربيجان، ونيسابور، وهمدان، والدينور، وإصفهان، والصيمرة، وقزوين، وفاقتر (قابس - أو قائين)، وشهرزور، وفارس، ومرو، واليمن، ومصر، ونصيبين.
وعدّد صاحب (منتخب الاثر) ثلاثمائة وأربعة رجال ممّن رأوا الامام الحجّة (عليه السلام) واطّلعوا علي معجزاته وتشرّفوا بحضوره [6] .
وأفرد السيّد هاشم البحراني (رحمه الله) کتاباً في ذلک أسماه (تبصرة الولي فيمن رأي القائم المهدي) وذکر فيه جماعة کثيرة ممّن فاز برؤية الامام صاحب الزمان (عليه السلام) في حياة أبيه وفي الغيبة الصغري.
وعليه فإنّ رؤية الامام صاحب الزمان (عليه السلام) متحقّقة خلال الفترة الواقعة بين سنة (255) و (329 هـ) أي ما قبل الغيبة الکبري.
أمّا في الغيبة الکبري فقد اختلفت الاقوال والروايات الدالّة علي الرؤية أو المانعة منها، فقد روي الشيخ الصدوق بالاسناد عن عبيد بن زرارة، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: يفقد الناس إمامهم، فيشهد الموسم، فيراهم ولا يرونه [7] .
وروي النعماني بالاسناد عن زرارة، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: إنّ
[ صفحه 130]
للقائم غيبتين، يرجع في أحدهما، والاُخري لا يدري أين هو، يشهد المواسم، يري الناس ولا يرونه [8] .
فهذان الحديثان يدلاّن علي عدم إمکان تحقّق الرؤية في زمان الغيبة الکبري، وهي الفترة الواقعة بين سنة 329 هـ إلي وقتنا الحاضر، ويعزّزهما حديث آخر رواه أبو الفضل الطبرسي في (إعلام الوري) وأبو منصور الطبرسي في (الاحتجاج) عن أبي محمّد الحسن بن احمد المکتب أ نّه قال: کنت بمدينة السلام في السنة التي توفّي فيها علي بن محمّد السمري، فحضرته قبل وفاته بأيام، فخرج وأخرج إلي الناس توقيعاً نسخته: بسم الله الرحمن الرحيم، يا عليّ بن محمّد السمري، أعظم الله أجر إخوانک فيک، فإنّک ميّت ما بينک وبين ستّة أيام، فاجمع أمرک، ولا توصي إلي أحد يقوم مقامک بعد وفاتک، فقد وقعت الغيبة التامّة، فلا ظهور إلاّ أن يأذن الله تعالي ذکره، وذلک بعد طول الامد وقسوة القلوب، وامتلاء الارض جوراً، وسيأتي شيعتي من يدّعي المشاهدة، ألا فمن يدّعي المشاهدة قبل خروج السفياني والصيحة فهو کذّاب مفتر، ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله العليّ العظيم [9] .
قال المحدّث النوري (رحمه الله): إنّه خبر واحد مرسل غير موجب علماً، فلا يعارض تلک الوقائع والقصص التي يحصل القطع عن مجموعها، بل ومن بعضها المتضمّن لکرامات ومفاخر لا يمکن صدورها من غيره (عليه السلام)، فکيف يجوز الاعراض عنها لوجود خبر ضعيف [10] .
[ صفحه 131]
وقد تأوّل العلاّمة المجلسي المشاهدة الواردة في التوقيع بقوله: لعلّه محمول علي من يدّعي المشاهدة مع النيابة وإيصال الاخبار من جانبه (عليه السلام) إلي الشيعة، علي مثال السفراء، لئلاّ ينافي الاخبار التي مضت وستأتي فيمن رآه (عليه السلام) والله يعلم [11] .
ويمکن أن يراد من الحديثين المتقدّمين أنّ عامّة الناس لا يرونه وهو (عليه السلام) يراهم، أمّا الخاصّة من الموالين والمخلصين فإنّه يراهم ويرونه، والله العالم بحقائق الاحوال.
وهناک طائفة من الاخبار تدلّ علي إمکان تحقّق الرؤية دون المعرفة، منها ما رواه الشيخ الصدوق بالاسناد عن محمّد بن عثمان العمري (رضي الله عنه) أ نّه قال: والله إنّ صاحب هذا الامر ليحضر الموسم کلّ سنة فيري الناس ويعرفهم، ويرونه ولا يعرفونه [12] .
ويمکن الجمع بين الاخبار في هذا الباب بحمل عدم المعرفة علي عامّة الناس کما تقدّم، أمّا خاصّة مواليه في دينه وخلّص شيعته فإنّهم يرونه ويعرفونه، ويدلّ عليه ما رواه الشيخ النعماني والکليني بالاسناد عن ابن محبوب، عن اسحاق بن عمّـار، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): للقائم غيبتان، إحداهما قصيرة، والاُخري طويلة، الاُولي لا يعلم بمکانه فيها إلاّ خاصّة شيعته، والاُخري لا يعلم بمکانه فيها إلاّ خاصّة مواليه في دينه [13] .
[ صفحه 132]
فواضح من هذا الحديث أنّ الرؤية في الغيبة الکبري خاصّة للموالين في الدين، کما أنّ الرؤية في الغيبة الصغري کانت مقصورة علي خاصّة شيعته، من السفراء والوکلاء وغيرهم ممّن سنذکرهم في هذا الفصل.
وقد أيّد رؤيته (عليه السلام) في زمان الغيبة الکبري طائفة من الاعلام المعروفين من صلحاء هذه الطائفة.
قال الشيخ المفيد (رحمه الله): قد کانت الاخبار عمّن تقدّم من أئمة آل محمّد (عليهم السلام) متناصرة بأ نّه لا بدّ للقائم المنتظر من غيبتين، إحداهما أطول من الاُخري، يعرِف خبره الخاصّ في القصري، ولا يعرف العامّ له مستقرّاً في الطولي، إلاّ من تولّي خدمته من ثقات أوليائه، ولم ينقطع عنه إلي الاشتغال بغيره [14] .
وقال الطبري في (الدلائل): وأقام مولانا (صلوات الله عليه) بعد مضيّ احمد بن اسحاق الاشعري بسرّ من رأي مدّة، ثمّ غاب لما روي في الغيبة من الاخبار عن السادة (عليهم السلام) مع أ نّه مشاهد في المواطن الشريفة الکريمة العالية، والمقامات العظيمة، وقد دلّت الاثار علي صحّة مشاهدته (عليه السلام) [15] .
وقال السيّد تاج الدين بن علي بن احمد الحسيني العاملي في (التتمّة): وقد اختلف في رؤيته بعد الغيبة الثانية، فذهب بعضٌ إلي أ نّه لا يُري، ونقل عنه (عليه السلام) أ نّه قال: «من يراني بعد غيبتي هذه فقد کذب»، ونقل عن کثير من الصلحاء والاخيار أ نّهم رأوه وسمعوا منه [16] .
[ صفحه 133]
وذکر العلاّمة المجلسي (رحمه الله) بعض الحکايات الدالّة علي هذا المعني سمعها عمّن قرب من زمانه أو عاصره [17] ، وعقد صاحب منتخب الاثر باباً تحت عنوان (في من رآه في الغيبة الکبري) أورد فيه (13) حکاية [18] ، وذکر الاربلي قصّتين قرب عهدهما من زمانه، حدّثه بهما جماعة من ثقات إخوانه حسب تعبيره [19] .
ونقل السيّد تاج الدين الحسيني حکايةً تدلّ علي هذا المعني عن بعض من يثق بهم من معاصريه [20] .
وأفرد المحدّث النوري کتاباً في ذلک أسماه (جنّة المأوي في ذکر من فاز بلقاء الحجّة (عليه السلام) في الغيبة الکبري) [21] وأورد فيه (59) حکاية تدلّ علي هذا المعني.
وسنأتي في المبحث الثاني من هذا الفصل علي ذکر جماعة ممّن ادّعوا المشاهدة في الغيبة الکبري، وستري أنّ فيهم طائفةً من وجوه وثقات الاماميّة الموالين والمشهورين.
وجعلنا هذا الفصل في مبحثين:
المبحث الاوّل: من فاز برؤية الامام الحجّة (عليه السلام) قبل الغيبة الکبري (255 - 329 هـ).
المبحث الثاني: من فاز برؤية الامام الحجّة (عليه السلام) خلال الغيبة الکبري بعد
[ صفحه 134]
سنة (329 هـ إلي وقتنا الحاضر).
وننبّه هنا إلي أ نّنا قد ذکرنا قسماً ممّـا يدلّ علي هذا المعني في الفصل الاوّل (ملامح من شخصيّته (عليه السلام)) وفي الفصل الرابع الخاصّ بالنصّ عليه (عليه السلام) والفصل الثامن الخاصّ بالغيبة الصغري والکبري، والفصل العاشر الخاصّ بمعاجزه (عليه السلام) والفصل الحادي عشر الخاصّ بالتوقيعات الصادرة عنه وفي ذکر وکلائه وسفرائه (عليه السلام).
وشيء آخر هو أ نّه ليس غرضنا في هذا الفصل استيفاء جميع ما روي في هذا المعني، سيّما في مجال المبحث الثاني، حيث إنّنا اختصرنا بعض الحکايات أو أضربنا عن ذکرها لطولها مرشدين القارئ إلي مصادرها، ذلک لانّ الروايات والاخبار والحکايات في ذلک ممّـا يطول بذکر جميعها الکتاب، غير أ نّنا سنذکر نتفاً من ذلک ليکون برهاناً ساطعاً ودليلاً قاطعاً علي إثبات وجود إمام الزمان (عليه السلام)، وقد قال رسول الله (صلي الله عليه وآله): «من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتةً جاهليّة»، فليس طريق العناد واللجاج إلاّ إلي الضلال والخسران والعياذ بالله.
[ صفحه 135]
پاورقي
[1] غيبة الطوسي: 217، کمال الدين: 435 2، بحار الانوار 52: 25 / 19.
[2] غيبة الشيخ الطوسي: 155 ـ 156.
[3] غيبة الشيخ الطوسي: 156، کمال الدين: 470 / 24.
[4] کمال الدين: 476 / 26.
[5] کمال الدين: 442 / 16.
[6] منتخب الاثر: 378 ـ 381.
[7] کمال الدين: 440 / 7، بحار الانوار 52: 151 / 2.
[8] بحار الانوار 52: 156 / 16.
[9] إعلام الوري: 445، الاحتجاج: 478، بحار الانوار 52: 151 / 1.
[10] جنّة المأوي: 318، وقد أجاب المحدّث النوري عن هذا الحديث بستّة وجوه، فراجع.
[11] بحار الانوار 52: 151.
[12] کمال الدين: 440، بحار الانوار 52: 152 / 4.
[13] بحار الانوار 52: 155 / 11.
[14] الفصول العشرة في الغيبة: 82.
[15] دلائل الامامة: 503.
[16] التتمّة في تواريخ الائمة (عليهم السلام): 150.
[17] بحار الانوار 52: 174.
[18] منتخب الاثر: 13.
[19] کشف الغمّة 3: 296.
[20] التتمّة: 150.
[21] مطبوع في آخر الجزء (53) من (بحار الانوار) للعلاّمة المجلسي.