بازگشت

لماذا لم يظهر القائد اذن؟


قالوا: لماذا لم يظهر القائد إذن طيلة هذه المدّة؟ وإذا کان قد أعدّ نفسه للعمل الاجتماعي، فما الذي منعه عن الظهور علي المسرح في فترة الغيبة الصغري، أو في أعقابها، بدلاً عن تحويلها إلي غيبة کبري، حيث کانت ظروف العمل الاجتماعي والتغييري، وقتئذ أبسط وأيسر، وکانت صلته الفعلية بالناس من خلال تنظيمات الغيبة الصغري تتيح له أن يجمع صفوفه ويبدأ عمله بداية قويّة، ولم تکن القوي الحاکمة من حوله قد بلغت الدرجة الهائله من القدرة والقوّة التي بلغتها الانسانية بعد ذلک من خلال التطوّر العلمي والصناعي؟

والجواب: أنّ کلّ عملية تغيير اجتماعي يرتبط نجاحها بشروط وظروف موضوعية، لا يتأتّي لها أن تحقّق هدفها إلاّ عندما تتوفّر تلک الشروط والظروف.

وتتميّز عملية التغيير الاجتماعي التي تفجّرها السماء علي الارض بأ نّها لا ترتبط في جانبها الرسالي بالظروف الموضوعية، لانّ الرسالة التي تعتمدها عملية



[ صفحه 577]



التغيير هنا ربّانية، ومن صنع السماء، لا من صنع الظروف الموضوعية، ولکنّها في جانبها التنفيذي تعتمد الظروف الموضوعية، ويرتبط نجاحها وتوقيتها بتلک الظروف.

ومن أجل ذلک انتظرت السماء مرور خمسة قرون من الجاهلية حتّي أنزلت آخر رسالاتها علي يد النبيّ محمّد (صلي الله عليه وآله)، لانّ الارتباط بالظروف الموضوعية للتنفيذ کان يفرض تأخّرها علي الرغم من حاجة العالم إليها منذ فترة طويلة قبل ذلک.

والظروف الموضوعية التي لها أثر في الجانب التنفيذي من عملية التغيير، منها ما يشکّل المناخ المناسب والجوّ العامّ للتغيير المستهدف، ومنها ما يشکّل بعض التفاصيل التي تتطلّبها حرکة التغيير من خلال منعطفاتها التفصيلية، فبالنسبة إلي عملية التغيير التي قادها مثلاً لينين في روسيا بنجاح، کانت ترتبط بعامل من قبيل قيام الحرب العالمية الاُولي وتضعضع القيصرية، وهذا ما يساهم في إيجاد المناخ المناسب لعملية التغيير، وکانت ترتبط بعوامل اُخري جزئية ومحدودة من قبيل سلامة لينين مثلاً في سفره الذي تسلّل فيه إلي داخل روسيا وقاد الثورة، إذ لو کان قد اتّفق له أيّ حاديث يعيقه لکان من المحتمل أن تفقد الثورة بذلک قدرتها علي الظهور السريع علي المسرح.

وقد جرت سنّة الله تعالي التي لا تجد لها تحويلاً في عمليات التغيير الرباني علي التقيّد من الناحية التنفيذية بالظروف الموضوعية التي تحقّق المناخ المناسب والجوّ العامّ لانجاح عملية التغيير، ومن هنا لم يأت الاسلام إلاّ بعد فترة من الرسل وفراغ مرير استمرّ قروناً من الزمن.

فعلي الرغم من قدرة الله سبحانه وتعالي علي تذليل کلّ العقبات والصعاب في



[ صفحه 578]



وجه الرسالة الربّانية وخلق المناخ المناسب لها خلقاً بالاعجاز، لم يشأ أن يستعمل هذا الاُسلوب، لانّ الامتحان والابتلاء والمعاناة التي من خلالها يتکامل الانسان يفرض علي العمل التغييري الرباني أن يکون طبيعياً وموضوعياً من هذه الناحية.

وهذا لا يمنع عن تدخّل الله سبحانه وتعالي أحياناً فيما يخصّ بعض التفاصيل التي لا تکون المناخ المناسب، وإنّما قد يتطلّبها أحياناً التحرّک ضمن ذلک المناخ المناسب، ومن ذلک الامدادات والعنايات الغيبية التي يمنحها الله تعالي لاوليائه في لحظات حرجة، فيحمي بها الرسالة، وإذا بنار نمرود تصبح برداً وسلاماً علي إبراهيم، وإذا بيد اليهودي الغادر التي ارتفعت بالسيف علي رأس النبيّ (صلي الله عليه وآله) تشلّ وتفقد قدرتها علي الحرکة، وإذا بعاصفة قويّة تجتاح مخيّمات الکفر والمشرکين الذين أحدقوا بالمدينة في يوم الخندق وتبعث في نفوسهم الرعب.

إلاّ أنّ هذا کلّه لا يعدو التفاصيل، وتقديم العون في لحظات حاسمة بعد أن کان الجوّ المناسب والمناخ الملائم لعملية التغيير علي العموم قد تکون بالصورة الطبيعية ووفقاً للظروف الموضوعية.

وعلي هذا الضوء ندرس موقف الامام المهدي (عليه السلام) لنجد أنّ عملية التغيير التي أعدّ لها ترتبط من الناحية التنفيذية کأيّ عملية تغيير اجتماعي اُخري بظروف موضوعية تساهم في توفير المناخ لها، ومن هنا کان من الطبيعي أن توقّت وفقاً لذلک.

ومن المعلوم أنّ المهدي (عليه السلام) لم يکن قد أعدّ نفسه لعمل اجتماعي محدود، ولا لعملية تغيير تقتصر علي هذا الجزء من العالم أو ذاک، لانّ رسالته التي ادّخر لها من قبل الله سبحانه وتعالي هي تغيير العالم تغييراً شاملاً، وإخراج البشرية کلّ البشرية من ظلمات الجور إلي نور العدل، وعملية التغيير الکبري هذه لا يکفي في



[ صفحه 579]



ممارستها مجرّد وصول الرسالة والقائد الصالح، وإلاّ لتمّت شروطها في عصر النبوّة بالذات، وإنّما تتطلّب مناخاً عالمياً مناسباً وجوّاً عامّاً مساعداً يحقّق الظروف الموضوعية المطلوبة لعملية التغيير العالمية.

فمن الناحية البشرية يعتبر شعور إنسان الحضارة بالنفاد عاملاً أساسياً في خلق ذلک المناخ المناسب لتقبّل رسالة العدل الجديدة، وهذا الشعور بالنفاد يتکوّن ويترسّخ من خلال التجارب الحضارية المتنوّعة التي يخرج منها إنسان الحضارة مثقلاً بسلبيات ما بني، مدرکاً حاجته إلي العون، ملتفتاً بفطرته إلي الغيب أو إلي المجهول.

ومن الناحية المادية يمکن أن تکون شروط الحياة المادية الحديثة أقدر من شروط الحياة القديمة في عصر کعصر الغيبة الصغري علي إنجاز الرسالة علي صعيد العالم کلّه، وذلک بما تحقّقه من تقريب المسافات، والقدرة الکبيرة علي التفاعل بين شعوب الارض، وتوفير الادوات والوسائل التي يحتاجها جهاز مرکزي لممارسة توعية شعوب العالم وتثقيفها علي أساس الرسالة الجديدة.

وأمّا ما اُشير إليه في السؤال من تنامي القوي والاداة العسکرية التي يواجهها القائد في اليوم الموعود کلّما أجّل ظهوره، فهذا صحيح. ولکن ماذا ينفع نموّ الشکل المادّي للقوّة مع الهزيمة النفسية من الداخل، وانهيار البناء الروحي للانسان الذي يملک کلّ تلک القوي والادوات؟ وکم من مرّة في التأريخ انهار بناء حضاري شامخ بأوّل لمسة غازية، لا نّه کان منهاراً قبل ذلک، وفاقداً الثقة بوجوده والقناعة بکيانه والاطمئنان إلي واقعه [1] .



[ صفحه 580]




پاورقي

[1] بحث حول المهدي (عليه السلام) / الشهيد الصدر: 38 ـ 42.