کيف نؤمن بأنه قد وجد؟
قالوا: کيف نؤمن بأنّ المهدي قد وجد؟ وهب أنّ فرضيّة القائد المنتظر ممکنة بکلّ ما تستبطنه من عمر طويل وإمامة مبکّرة وغيبة صامتة، فإنّ الامکان لا يکفي للاقتناع بوجوده فعلاً. فکيف نؤمن فعلاً بوجود المهدي؟ وهل تکفي بضع روايات تنقل في بطون الکتب عن الرسول الاعظم (صلي الله عليه وآله) للاقتناع الکامل بالامام الثاني عشر؟ علي الرغم ممّـا في هذا الافتراض من غرابة، وخروج عن المألوف، بل کيف يمکن أن نثبت أنّ للمهدي وجوداً تأريخياً حقّاً، وليس مجرّد افتراض توفّرت ظروف نفسية لتثبيته في نفوس عدد کبير من الناس؟
والجواب: أنّ فکرة المهدي بوصفه القائد المنتظر لتغيير العالم إلي الافضل، قد جاءت في أحاديث الرسول الاعظم (صلي الله عليه وآله) عموماً وفي روايات أئمة أهل البيت (عليهم السلام) خصوصاً، وأکّدت في نصوص کثيرة بدرجة لا يمکن أن يرقي إليها الشکّ، وقد اُحصي أربعمائة حديث عن النبيّ (صلي الله عليه وآله) من طرق إخواننا أهل السنّة [1] ، کما اُحصي مجموع الاخبار الواردة في الامام المهدي (عليه السلام) من طرق الشيعة والسنّة فکان أکثر من ستّة آلاف رواية [2] ، وهذا رقم إحصائي کبير لا يتوفّر نظيره في کثير من قضايا الاسلام البديهية التي لا يشکّ فيها مسلم عادة.
وأمّا تجسيد هذه الفکرة في الامام الثاني عشر عليه الصلاة والسلام، فهذا
[ صفحه 572]
ما توجد مبرّرات کافية وواضحة للاقتناع به.
ويمکن تلخيص هذه المبرّرات في دليلين: أحدهما إسلامي، والاخر علمي.
فبالدليل الاسلامي نثبت وجود القائد المنتظر، وبالدليل العلمي نبرهن علي أنّ المهدي (عليه السلام) ليس مجرّد اُسطورة وافتراض، بل هو حقيقة ثبت وجودها بالتجربة التأريخية.
أمّا الدليل الاسلامي، فيتمثّل في مئات الروايات الواردة عن رسول الله (صلي الله عليه وآله) والائمة من أهل البيت (عليهم السلام)، والتي تدلّ علي تعيين المهدي (عليه السلام) وکونه من أهل البيت ومن ولد فاطمة (عليها السلام)، ومن ذرية الحسين (عليه السلام)، وأ نّه التاسع من ولد الحسين (عليه السلام)، وأنّ الخلفاء اثنا عشر، فإنّ هذه الروايات تحدّد تلک الفکرة العامة وتشخيصها في الامام الثاني عشر من أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، وهي روايات بلغت درجة کبيره من الکثرة والانتشار علي الرغم من تحفّظ الائمة (عليهم السلام) واحتياطهم في طرح ذلک علي المستوي العام، وقايةً للخلف الصالح (عليه السلام) من الاغتيال أو الاجهاز السريع علي حياته.
وليست الکثرة العددية للروايات هي الاساس الوحيد لقبولها، بل هناک إضافة إلي ذلک مزايا وقرائن تبرهن علي صحّتها، فالحديث النبوي الشريف عن الائمة أو الخلفاء أو الاُمراء بعده وأ نّهم اثني عشر إماماً أو خليفة أو أميراً - علي اختلاف متن الحديث في طرقه المختلفة - قد أحصي بعض المؤلفين رواياته فبلغت أکثر من مائتين وسبعين رواية، مأخوذة من أشهر کتب الحديث عند الشيعة والسنّة بما في ذلک البخاري ومسلم والترمذي وأبي داود ومسند احمد ومستدرک الحاکم علي الصحيحين.
ويلاحظ هنا أنّ البخاري الذي نقل هذا الحديث، کان معاصراً للامام الجواد
[ صفحه 573]
والامامين الهادي والعسکري وفي ذلک مغزي کبير، لا نّه يبرهن علي أنّ هذا الحديث قد سجّل عن النبيّ (صلي الله عليه وآله) قبل أن يتحقّق مضمونه، وتکتمل فکرة الائمة الاثني عشر فعلاً، وهذا يعني أ نّه لا يوجد أيّ مجال للشکّ في أن يکون نقل الحديث متأثّراً بالواقع الامامي الاثني عشري وانعکاساً له، لانّ الاحاديث المزيّفة التي تنسب إلي النبيّ (صلي الله عليه وآله)، وهي انعکاسات أو تبريرات لواقع متأخّر زمنياً، لا تسبق في ظهورها وتسجيلها في کتب الحديث ذلک الواقع الذي تشکّل انعکاساً له.
فما دمنا قد ملکنا الدليل المادّي علي أنّ الحديث المذکور سبق التسلسل التأريخي للائمة الاثني عشر، وضبط في کتب الحديث قبل تکامل الواقع الامامي الاثني عشري، أمکننا أن نتأکّد من أنّ هذا الحديث ليس انعکاساً لواقع، وإنّما هو تعبير عن حقيقة ربانية نطق بها من لا ينطق عن هوي، فقال: «إنّ الخلفاء بعدي اثنا عشر» وجاء الواقع الامامي الاثني عشري ابتداءً من الامام عليّ (عليه السلام) وانتهاءً بالمهدي (عليه السلام) ليکون التطبيق الوحيد المعقول لذلک الحديث النبوي الشريف.
وأمّا الدليل العلمي، فهو يتکوّن من تجربة عاشتها اُمّة من الناس فترة امتدّت سبعين سنة تقريباً، وهي فترة الغيبة الصغري، ولتوضيح ذلک نمهّد بإعطاء فکرة موجزة عن الغيبة الصغري.
إنّ الغيبة الصغري تعبّر عن المرحلة الاُولي من إمامة القائد المنتظر عليه الصلاة والسلام، فقد قدّر لهذا الامام منذ تسلّمه للامامة أن يستتر عن المسرح العام، ويظلّ بعيداً باسمه عن الاحداث، وإن کان قريباً منها بقلبه وعقله، وقد لوحظ أنّ هذه الغيبة إذا جاءت مفاجئة حقّقت صدمة کبيرة للقواعد الشعبية للامامة في الاُمّة الاسلامية، لانّ هذه القواعد کانت معتادة علي الاتصال بالامام في کلّ عصر والتفاعل معه والرجوع إليه في حلّ المشاکل المتنوّعة، فإذا غاب الامام
[ صفحه 574]
عن شيعته فجأة، وشعروا بالانقطاع عن قيادتهم الروحية والفکرية، سبّبت هذه الغيبة المفاجئة الاحساس بفراغ دفعي هائل، قد يعصف بالکيان کلّه ويشتّت شمله، فکان لا بدّ من تمهيد لهذه الغيبة لکي تألفها هذه القواعد بالتدريج وتکيّف نفسها شيئاً فشيئاً علي أساسها، وکان هذا التمهيد هو الغيبة الصغري التي اختفي فيها الامام المهدي (عليه السلام) عن المسرح العام، غير أ نّه کان دائم الصلة بقواعده وشيعته عن طريق وکلائه ونوّابه والثقات من أصحابه الذين يشکّلون همزة الوصل بينه وبين الناس المؤمنين بخطّه الامامي.
وقد أشغل مرکز النيابة عن الامام في هذه الفترة أربعة ممّن أجمعت تلک القواعد علي تقواهم وورعهم ونزاهتهم التي عاشوا ضمنها وهم کما يلي:
1- عثمان بن سعيد العمري.
2- محمّد بن عثمان بن سعيد العمري.
3- أبو القاسم الحسين بن روح.
4- أبو الحسن عليّ بن محمّد السمري.
وقد مارس هؤلاء الاربعة مهام النيابة بالترتيب المذکور، وکلّما مات أحدهم خلفه الاخر الذي يليه بتعيين من الامام المهدي (عليه السلام).
وکان النائب يتّصل بالشيعة ويحمل أسئلتهم إلي الامام، ويعرض مشاکلهم عليه، ويحمل إليهم أجوبته شفهية أحياناً وتحريرية في کثير من الاحيان، وقد وجدت الجماهير التي فقدت رؤية إمامها العزاء والسلوة في هذه المراسلات والاتصالات غير المباشرة، ولاحظت أنّ کلّ التوقيعات والرسائل کانت ترد من الامام المهدي (عليه السلام) بخطّ واحد وسليقة واحدة طيلة نيابة النوّاب الاربعة التي استمرّت حوالي سبعين عاماً.
[ صفحه 575]
وکان السمري هو آخر النوّاب، فقد أعلن عن انتهاء مرحلة الغيبة الصغري التي تتميّز بنوّاب معيّنين، وابتداء الغيبة الکبري التي لا يوجد فيها أشخاص معيّنون بالذات للوساطة بين الامام القائد والشيعة، وقد عبّر التحوّل من الغيبة الصغري إلي الغيبة الکبري عن تحقيق الغيبة الصغري لاهدافها وانتهاء مهمّتها، لا نّها حصّنت الشيعة بهذه العملية التدريجية عن الصدمة والشعور بالفراغ الهائل بسبب غيبة الامام (عليه السلام)، واستطاعت أن تکيّف وضع الشيعة علي أساس الغيبة، وتعدّهم بالتدريج لتقبّل فکرة النيابة العامّة عن الامام.
وبهذا تحوّلت النيابة من أفراد منصوصين إلي خطّ عام، وهو خطّ المجتهد العادل البصير باُمور الدنيا والدين تبعاً لتحوّل الغيبة الصغري إلي غيبة کبري.
والان بإمکانک أن تقدّر الموقف في ضوء ما تقدّم، لکي تدرک بوضوح أنّ المهدي (عليه السلام) حقيقة عاشتها اُمّة من الناس، وعبّر عنها السفراء والنوّاب طيلة سبعين عاماً من خلال تعاملهم مع الاخرين، ولم يلحظ عليهم أحد کلّ هذه المدّة تلاعباً في الکلام أو تحايلاً في التصرّف أو تهافتاً في النقل. فهل تتصوّر - بربّک - أنّ بإمکان اُکذوبة أن تعيش سبعين عاماً، ويمارسها أربعة علي سبيل الترتيب کلّهم يتّفقون عليها، ويظلّون يتعاملون علي أساسها وکأ نّها قضيّة يعيشونها بأنفسهم ويرونها بأعينهم دون أن يبدر منهم أيّ شيء يثير الشکّ، ودون أن يکون بين الاربعة علاقة خاصّة متميّزة تتيح لهم نحواً من التواطؤ، ويکسبون من خلال ما يتّصف به سلوکهم من واقعية ثقة الجميع وإيمانهم بواقعية القضيّة التي يدّعون أ نّهم يحمونها ويعيشون معها؟!
لقد قيل قديماً أنّ حبل الکذب قصير، ومنطق الحياة يثبت أيضاً أنّ من المستحيل عملياً بحساب الاحتمالات أن تعيش اُکذوبة بهذا الشکل وکلّ هذه المدّة،
[ صفحه 576]
وضمن کلّ تلک العلاقات والاخذ والعطاء، ثمّ تکسب ثقة جميع من حولها.
وهکذا نعرف أنّ ظاهرة الغيبة الصغري يمکن أن تعتبر بمثابة تجربة علمية لاثبات ما لها من واقع موضوعي والتسليم بالامام القائد بولادته وحياته وغيبته وإعلانه العامّ عن الغيبة الکبري التي استتر بموجبها عن المسرح ولم يکشف نفسه لاحد [3] .
پاورقي
[1] يلاحظ کتاب (المهدي) للسيّد حسن الصدر قدّس الله روحه الزکيّة.
[2] يلاحظ کتاب منتخب الاثر في الامام الثاني عشر / للشيخ لطف الله الصافي.
[3] بحث حول المهدي (عليه السلام) / الشهيد الصدر: 32 ـ 38.