لماذا هذا الحرص علي إطالة عمره
ونتناول الان السؤال الذي يقول: لماذا کلّ هذا الحرص من الله سبحانه وتعالي علي هذا الانسان بالذات، فتعطّل من أجله القوانين الطبيعية لاطالة عمره؟ ولماذا لا تترک قيادة اليوم الموعود لشخص يتمخّض عنه المستقبل، وتنضجه إرهاصات اليوم الموعود فيبرز علي الساحة ويمارس دوره المنتظر.
وبکلمة اُخري: ما هي فائدة هذه الغيبة الطويلة، وما المبرّر لها؟
وکثير من الناس يسألون هذا السؤال وهم لا يريدون أن يسمعوا جواباً غيبياً، فنحن نؤمن بأنّ الائمة الاثني عشر مجموعة فريدة لا يمکن التعويض عن أيّ واحد منهم، غير أنّ هؤلاء المتسائلين يطالبون بتفسير اجتماعي للموقف، علي ضوء الحقائق المحسوسة لعملية التغيير الکبري نفسها والمتطلّبات المفهومة لليوم الموعود.
وعلي هذا الاساس نقطع النظر مؤقّتاً عن الخصائص التي نؤمن بتوفّرها، في هؤلاء الائمة المعصومين ونطرح السؤال التالي:
[ صفحه 543]
إنّنا بالنسبة إلي عملية التغيير المرتقبة في اليوم الموعود، بقدر ما تکون مفهومة علي ضوء سنن الحياة وتجاربها، هل يمکن أن نعتبر هذا العمر الطويل لقائدها المدّخر، عاملاً من عوامل إنجاحها وتمکّنه من ممارستها وقيادتها بدرجة أکبر؟
ونجيب علي ذلک بالايجاب، وذلک لعدّة أسباب منها ما يلي:
إنّ عملية التغيير الکبري تتطلّب وضعاً نفسياً فريداً في القائد الممارس لها مشحوناً بالشعور بالتفوّق والاحساس بضآلة الکيانات الشامخة، التي اُعدّ للقضاء عليها، ولتحويلها حضارياً إلي عالم جديد، فبقدر ما يعمر قلب القائد المغيّر من شعور بتفاهة الحضارة التي يصارعها وإحساس واضح بأ نّها مجرّد نقطة علي الخطّ الطويل لحضارة الانسان، يصبح أکثر قدرة من الناحية النفسية علي مواجهتها والصمود في وجهها ومواصلة العمل ضدّها حتّي النصر.
ومن الواضح أنّ الحجم المطلوب من هذا الشعور النفسي يتناسب مع حجم التغيير نفسه، وما يراد القضاء عليه من حضارة وکيان، فکلّما کانت المواجهة لکيان أکبر ولحضارة أرسخ وأشمخ، تطلّبت زخماً أکبر من هذا الشعور النفسي المفعم.
ولمّـا کانت رسالة اليوم الموعود تغيير عالم مليء بالظلم بالجور، تغييراً شاملاً بکلّ قيمه الحضارية وکياناته المتنوّعة، فمن الطبيعي أن تفتّش هذه الرسالة عن شخص أکبر في شعوره النفسي من ذلک العالم کلّه، عن شخص ليس من مواليد ذلک العالم الذين نشأوا في ظلّ تلک الحضارة التي يراد تقويضها واستبدالها بحضارة العدل والحقّ، لانّ من ينشأ في ظلّ حضارة راسخة، تعمر الدنيا بسلطانها وقيمها وأفکارها، يعيش في نفسه الشعور بالهيبة تجاهها لا نّه ولد وهي قائمة، ونشأ صغيراً
[ صفحه 544]
وهي جبّارة، وفتح عينيه علي الدنيا فلم يجد سوي أوجهها المختلفة، وخلافاً لذلک شخص يتوغّل في التأريخ، عاش الدنيا قبل أن ترَ تلک الحضارة النور، ورأي الحضارات الکبيرة سادت العالم الواحدة تلو الاُخري، ثمّ تداعت وانهارت، رأي ذلک بعينيه ولم يقرأه في کتاب تأريخ، ثمّ رأي الحضارة التي يقدّر لها أن تکون الفصل الاخير من قصّة الانسان قبل اليوم الموعود، رآها وهي بذور صغيرة لا تکاد تتبيّن، ثمّ شاهدها وقد اتّخذت مواقعها في أحشاء المجتمع البشري تتربّص الفرصة لکي تنمو وتظهر، ثمّ عاصرها وقد بدأت تنمو وتزحف وتصاب بالنکسة تارة، ويحالفها التوفيق تارةً اُخري، ثمّ واکبها وهي تزدهر وتتعملق وتسيطر بالتدريج علي مقدّرات عالم بکامله.
فإنّ شخصاً من هذا القبيل عاش کلّ هذه المراحل بفطنة وانتباه کاملين، ينظر إلي هذا العملاق - الذي يريد أن يصارعه - من زاوية ذلک الامتداد التأريخي الطويل الذي عاشه بحسّه لا في بطون کتب التأريخ فحسب، ينظر إليه لا بوصفه قدراً محتوماً، ولا کما کان ينظر (جان کاک روسو) إلي الملکية في فرنسا، فقد جاء عنه أ نّه کان يرعبه مجرّد أن يتصوّر فرنسا بدون ملک، علي الرغم من کونه من الدعاة الکبار فکرياً وفلسفياً إلي تطوير الوضع السياسي القائم وقتئذ، لانّ (روسو) هذا نشأ في ظلّ الملکية وتنفّس هواءها طيلة حياته.
وأمّا هذا الشخص المتوغّل في التأريخ، فله هيبة التأريخ وقوّة التأريخ والشعور المفعم بأنّ ما حوله من کيان وحضارة، وليد يوم من أيام التأريخ، تهيّأت له الاسباب فوُجِد، وستتهيّأ الاسباب فيزول، فلا يبقي منه شيء، کما لم يکن يوجد منه شيء بالامس القريب أو البعيد، وأنّ الاعمار التأريخية للحضارات والکيانات مهما طالت، فهي ليست إلاّ أياماً قصيرة في عمر التأريخ الطويل.
[ صفحه 545]
هل قرأت سورة الکهف؟ وهل قرأت عن اُولئک الفتية الذين آمنوا بربّهم وزادهم الله هدي؟ وواجهوا کياناً وثنياً حاکماً، لا يرحم ولا يتردّد في خنق أيّ بذرة من بذور التوحيد والارتفاع عن وحدة الشرک، فضاقت نفوسهم، ودبّ إليها اليأس، وسدّت منافذ الامل أمام أعينهم، ولجأوا إلي الکهف يطلبون من الله حلاً لمشکلتهم بعد أن أعيتهم الحلول، وکبر في نفوسهم أن يظلّ الباطل يحکم ويظلم ويقهر الحقّ ويصفّي کلّ من يخفق قلبه للحقّ، هل تعلم ماذا صنع الله تعالي بهم؟
إنّه أنامهم ثلاثمائة سنة وتسع سنين في ذلک الکهف، ثمّ بعثهم من نومهم، ودفع بهم إلي مسرح الحياة، بعد أن کان ذلک الکيان الذي بهرهم بقوّته وظلمه، قد تداعي وسقط، وأصبح تأريخاً لا يرعب أحداً ولا يحرّک ساکناً، کلّ ذلک لکي يشهد هؤلاء الفتية مصرع ذلک الباطل الذي کبر عليهم امتداده وقوّته واستمراره، ويروا انتهاء أمره بأعينهم ويتصاغر الباطل في نفوسهم.
ولئن تحقّقت لاصحاب الکهف هذه الرؤية الواضحة بکلّ ما تحمل من زخم وشموخ نفسيين من خلال ذلک الحدث الفريد الذي مدّد حياتهم ثلاثمائة سنة، فإنّ الشيء نفسه يتحقّق للقائد المنتظر من خلال عمره المديد الذي يتيح له أن يشهد العملاق وهو قزم والشجرة الباسقة وهي بذرة، والاعصار وهو مجرّد نسمة.
أضف إلي ذلک: أنّ التجربة التي تتيحها مواکبة تلک الحضارات المتعاقبة والمواجهة المباشرة لحرکتها وتطوّراتها، لها أثر کبير في الاعداد الفکري وتعميق الخبرة القيادية لليوم الموعود، لا نّها تضع الشخص المدّخر أمام ممارسات کثيرة للاخرين بکلّ ما فيها من نقاط الضعف والقوّة، ومن ألوان الخطأ والصواب،
[ صفحه 546]
وتعطي لهذا الشخص قدرة أکبر علي تقييم الظواهر الاجتماعية بالوعي الکامل علي أسبابها، وکلّ ملابساتها التأريخية.
ثمّ إنّ عملية التغيير المدّخرة للقائد المنتظر تقوم علي أساس رسالة معيّنة، هي رسالة الاسلام، ومن الطبيعي أن تتطلّب العملية في هذه الحالة قائداً قريباً من مصادر الاسلام الاُولي، قد بنيت شخصيته بناءً کاملاً بصورة مستقلة ومنفصلة عن مؤثرات الحضارة التي يقدّر لليوم الموعود أن يحاربها، وخلافاً لذلک الشخص الذي يولد وينشأ في کنف هذه الحضارة، وتتفتّح أفکاره ومشاعره في إطارها، فإنّه لا يتخلّص غالباً من رواسب تلک الحضارة ومرتکزاتها، وإن قاد حملة تغييرية ضدّها، فلکي يضمن عدم تأثّر القائد المدّخر بالحضارة التي اُعِدّ لاستبدالها، لا بدّ أن تکون شخصيّته قد بنيت بناءً کاملاً في مرحلة حضارية سابقة، هي أقرب ما تکون في الروح العامّة، ومن ناحية المبدأ إلي الحالة الحضارية التي يتّجه اليوم الموعود إلي تحقيقها بقيادته [1] .
پاورقي
[1] بحث حول المهدي (عليه السلام) / الشهيد الصدر: 11 ـ 26.