بازگشت

المعجزة والعمر الطويل


لقد عرفنا حتّي الان أنّ العمر الطويل ممکن علمياً، ولکن لنفترض أ نّه غير ممکن علمياً، وأنّ قانون الشيخوخة والهرم قانون صارم، لا يمکن للبشرية اليوم ولا علي خطّها الطويل أن تتغلّب عليه، وتغيّر من ظروفه وشروطه، فماذا يعني ذلک؟

إنّه يعني أنّ إطالة عمر الانسان - کنوح أو کالمهدي - قروناً متعدّدة، هي علي خلاف القوانين الطبيعية التي أثبتها العلم بوسائل التجربة والاستقراء الحديثة، وبذلک تصبح هذه الحالة معجزة عطّلت قانوناً طبيعياً في حالة معيّنة للحفاظ علي حياة الشخص الذي اُنيط به الحفاظ علي رسالة السماء.

وليست هذه المعجزة فريدة من نوعها، أو غريبة علي عقيدة المسلم، المستمدّة من نصّ القرآن والسنّة، فليس قانون الشيخوخة والهرم أشدّ صرامة من قانون انتقال الحرارة من الجسم الاکثر حرارة إلي الجسم الاقلّ حرارة حتّي يتساويا، وقد عطّل هذا القانون لحماية حياة إبراهيم (عليه السلام) حين کان الاُسلوب



[ صفحه 540]



الوحيد للحفاظ عليه تعطيل ذلک القانون، فقيل للنار حين اُلقي فيها إبراهيم: (قُلْنَا يَا نَارُ کُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَي إبْرَاهِيمَ) [1] ، فخرج منها کما دخل سليماً لم يصبه أذيً، إلي کثير من القوانين الطبيعية التي عطّلت لحماية أشخاص من الانبياء وحجج الله علي الارض، ففلق البحر لموسي (عليه السلام)، وشُبّه للرومان أ نّهم قبضوا علي عيسي (عليه السلام)، ولم يکونوا قد قبضوا عليه، وخرج النبيّ محمّد (صلي الله عليه وآله) من داره وهي محفوفة بحشود قريش التي ظلّت ساعات تتربّص به لتهجم عليه، فستره الله تعالي عن عيونهم وهو يمشي بينهم.

کلّ هذه الحالات تمثّل قوانين طبيعية عطّلت لحماية شخص، کانت الحکمة الربانية تقتضي الحفاظ علي حياته، فليکن قانون الشيخوخة والهرم من تلک القوانين.

وقد يمکن أن نخرج من ذلک بمفهوم عام، وهو أ نّه کلّما توقّف الحفاظ علي حياة حجّة الله في الارض علي تعطيل قانون طبيعي، وکانت إدامة حياة ذلک الشخص ضرورية لانجاز مهمّته التي اُعدّ لها، تدخّلت العناية الربانية في تعطيل ذلک القانون لانجاز ذلک، وعلي العکس إذا کان الشخص قد انتهت مهمّته التي اُعدّ لها ربانياً، فإنّه سيلقي حتفه ويموت أو يستشهد وفقاً لما تقرّره القوانين الطبيعية.

ونواجه عادة بمناسبة هذا المفهوم العام السؤال التالي: کيف يمکن أن يتعطّل القانون؟ وکيف تنفصم العلاقة الضرورية التي تقوم بين الظواهر الطبيعية؟ وهل هذه إلاّ مناقضة للعلم الذي اکتشف ذلک القانون الطبيعي، وحدّد هذه العلاقة



[ صفحه 541]



الضرورية علي اُسس تجريبية واستقرائية؟

والجواب: أنّ العلم نفسه قد أجاب علي هذا السؤال بالتنازل عن فکرة الضرورة في القانون الطبيعي. وتوضيح ذلک: أنّ القوانين الطبيعية يکتشفها العلم علي أساس التجربة والملاحظة المنتظمة، فحين يطّرد وقوع ظاهرة طبيعية عقيب ظاهرة اُخري، يستدلّ بهذا الاطّراد علي قانون طبيعي، وهو أ نّه کلّما وجدت الظاهرة الاُولي وجدت الظاهرة الثانية عقيبها، غير أنّ العلم لا يفترض في هذا القانون الطبيعي علاقة ضرورية بين الظاهرتين نابعة من صميم هذه الظاهرة وذاتها، وصميم تلک وذاتها، لانّ الضرورة حالة غيبية، لا يمکن للتجربة ووسائل البحث الاستقرائي والعلمي إثباتها، ولهذا فإنّ منطق العلم الحديث، يؤکّد أنّ القانون الطبيعي - کما يعرفه العلم - لا يتحدّث عن علاقة ضرورية، بل عن اقتران مستمرّ بين ظاهرتين، فإذا جاءت المعجزة وفصلت إحدي الظاهرتين عن الاُخري في قانون طبيعي لم يکن ذلک فصماً لعلاقة ضرورية بين الظاهرتين.

والحقيقة أنّ المعجزة بمفهومها الديني، قد أصبحت في ضوء المنطق العلمي الحديث مفهومة بدرجة أکبر ممّـا کانت عليه في ظلّ وجهة النظر الکلاسيکية إلي علاقات السببية، فقد کانت وجهة النظر القديمة تفترض أنّ کلّ ظاهرتين اطّرد اقتران إحداهما بالاُخري، فالعلاقة بينهما علاقة ضرورة، والضرورة تعني أنّ من المستحيل أن تنفصل إحدي الظاهرتين عن الاُخري، ولکن هذه العلاقة تحوّلت في منطق العلم الحديث إلي قانون الاقتران أو التتابع المطّرد بين الظاهرتين دون افتراض تلک الضرورة الغيبية.

وبهذا تصبح المعجزة حالة استثنائية لهذا الاطراد في الاقتران أو التتابع دون أن تصطدم بضرورة أو تؤدّي إلي استحالة.



[ صفحه 542]



وأمّا علي ضوء الاُسس المنطقية للاستقراء، فنحن نتّفق مع وجهة النظر العلمية الحديثة في أنّ الاستقراء لا يبرهن علي علاقة الضرورة بين الظاهرتين، ولکنّا نري أ نّه يدلّ علي وجود تفسير مشترک لاطراد التقارن أو التعاقب بين الظاهرتين باستمرار، وهذا التفسير المشترک کما يمکن صياغته علي أساس افتراض الضرورة الذاتية، کذلک يمکن صياغته علي أساس افتراض حکمة دعت منظّم الکون إلي ربط ظواهر معيّنة بظواهر اُخري باستمرار، وهذه الحکمة نفسها تدعو أحياناً إلي الاستثناء فتحدث المعجزة.


پاورقي

[1] الانبياء: 69.