بازگشت

جواب السيد الشهيد الصدر الاول


وأجاب السيّد الشهيد محمّد باقر الصدر (رحمه الله) حول مسألة طول عمر الامام المهدي (عليه السلام) من جهة الامکان العملي والعلمي والفلسفي، وهو جواب متين نورده من بحثه حول المهدي (عليه السلام) المنشور في مقدّمة کتاب (البرهان في علامات مهدي آخر الزمان) للمتّقي الهندي صاحب کنز العمّـال.

قال (رحمه الله): کيف تأتّي للمهدي هذا العمر الطويل؟



[ صفحه 533]



وبکلمة اُخري هل بالامکان أن يعيش الانسان قروناً کثيرة کما هو المفترض في هذا القائد المنتظر لتغيير العالم، الذي يبلغ عمره الشريف فعلاً أکثر من ألف ومائة وأربعين سنة، أي حوالي (14) مرّة من عمر الانسان الاعتيادي الذي يمرّ بکلّ المراحل الاعتيادية من الطفولة إلي الشيخوخة؟

وکلمة الامکان هنا تعني أحد ثلاثة معان: الامکان العملي، والامکان العلمي، والامکان المنطقي أو الفلسفي. وأقصد بالامکان العملي، أن يکون الشيء ممکناً علي نحو يتاح لي أو لک أو لانسان آخر فعلاً أن يحقّقه، فالسفر عبر المحيط، والوصول إلي قاع البحر، والصعود إلي القمر، أشياء أصبح لها إمکان عملي فعلاً. فهناک من يمارس هذه الاشياء فعلاً بشکل وآخر.

وأقصد بالامکان العلمي، أنّ هناک أشياء قد لا يکون بالامکان عملياً لي أو لک، أن نمارسها فعلاً بوسائل المدنية المعاصرة، ولکن لا يوجد لدي العلم ولا تشير اتجاهاته المتحرّکة إلي ما يبرّر رفض إمکان هذه الاشياء ووقوعها وفقاً لظروف ووسائل خاصّة، فصعود الانسان إلي کوکب الزهرة لا يوجد في العلم ما يرفض وقوعه، بل إنّ اتجاهاته القائمة فعلاً تشير إلي إمکان ذلک، وإن لم يکن الصعود فعلاً ميسوراً لي أو لک، لانّ الفارق بين الصعود إلي الزهرة والصعود إلي القمر ليس إلاّ فارق درجة، ولا يمثّل الصعود إلي الزهرة إلاّ مرحلة تذليل الصعاب الاضافية التي تنشأ من کون المسافة أبعد، فالصعود إلي الزهرة ممکن علمياً، وإن لم يکن ممکناً عملياً فعلاً.

وعلي العکس من ذلک الصعود إلي قرص الشمس في کبد السماء فإنّه غير ممکن علمياً، بمعني أنّ العلم لا أمل له في وقوع ذلک إذ لا يتصوّر علمياً وتجريبياً إمکانية صنع ذلک الدرع الواقي من الاحتراق بحرارة الشمس، التي تمثّل اُتوناً هائلاً



[ صفحه 534]



مستعراً بأعلي درجة تخطر علي بال إنسان.

وأقصد بالامکان المنطقي أو الفلسفي أن لا يوجد لدي العقل وفق ما يدرکه من قوانين قبلية - أي سابقة علي التجربة - ما يبرّر رفض الشيء والحکم باستحالته.

فوجود ثلاث برتقالات تنقسم بالتساوي وبدون کسر إلي نصفين ليس له إمکان منطقي، لانّ العقل يدرک - قبل أن يمارس أيّ تجربة - أنّ الثلاثة عدد فردي وليس زوجاً، فلا يمکن أن تنقسم بالتساوي، لانّ انقسامها بالتساوي يعني کونها زوجاً فتکون فرداً وزوجاً في وقت واحد وهذا تناقض، والتناقض مستحيل منطقياً. ولکن دخول الانسان في النار دون أن يحترق وصعوده للشمس دون أن تحرقه الشمس بحرارتها ليس مستحيلاً من الناحية المنطقية، إذ لا تناقض في افتراض أنّ الحرارة لا تتسرّب من الجسم الاکثر حرارة إلي الجسم الاقلّ حرارة، وإنّما هو مخالف للتجربة التي أثبتت تسرّب الحرارة من الجسم الاکثر حرارة إلي الجسم الاقلّ حرارة إلي أن يتساوي الجسمان في الحرارة.

وهکذا نعرف أنّ الامکان المنطقي أوسع دائرة من الامکان العلمي، وهذا أوسع دائرة من الامکان العملي.

ولا شکّ في أنّ امتداد عمر الانسان آلاف السنين ممکن منطقياً، لانّ ذلک ليس مستحيلاً من وجهة نظر عقلية تجريدية، ولا يوجد في افتراض من هذا القبيل أيّ تناقض، لانّ الحياة کمفهوم لا تستبطن الموت السريع ولا نقاش في ذلک.

کما لا شکّ أيضاً ولا نقاش في أنّ هذا العمر الطويل ليس ممکناً إمکاناً عملياً علي نحو الامکانات العملية للنزول إلي قاع البحر أو الصعود إلي القمر، ذلک لانّ



[ صفحه 535]



العلم بوسائله وأدواته الحاضرة فعلاً، والمتاحة من خلال التجربة البشرية المعاصرة، لا تستطيع أن تمدّد عمر الانسان مئات السنين، ولهذا نجد أنّ أکثر الناس حرصاً علي الحياة وقدرةً علي تسخير إمکانات العلم، لا يتاح لها من العمر إلاّ بقدر ما هو مألوف.

وأمّا الامکان العلمي فلا يوجد علمياً اليوم ما يبرّر رفض ذلک من الناحية النظرية، وهذا بحث يتّصل في الحقيقة بنوعية التفسير الفسلجي لظاهرة الشيخوخة والهرم لدي الانسان، فهل تعبّر هذه الظاهرة عن قانون طبيعي يفرض علي أنسجة جسم الانسان وخلاياه بعد أن تبلغ قمّة نموّها أن تتصلّب بالتدريج وتصبح أقلّ کفاءة للاستمرار في العمل، إلي أن تتعطّل في لحظة معيّنة، حتّي لو عزلناها عن تأثير أيّ عامل خارجي، أو أنّ هذا التصلّب وهذا التناقص في کفاءة الانسجة والخلايا الجسمية، للقيام بأدوارها الفسيولوجية نتيجة صراع مع عوامل خارجية کالميکروبات أو التسمّم الذي يتسرّب إلي الجسم من خلال ما يتناوله من غذاء مکثّف، أو ما يقوم به من عمل مکثّف، أو أيّ عامل آخر؟

وهذا سؤال يطرحه العلم اليوم علي نفسه، وهو جادّ في الاجابة عليه، ولا يزال للسؤال أکثر من جواب علي الصعيد العلمي. فإذا أخذنا بوجهة النظر العلمية التي تتّجه إلي تفسير الشيخوخة والضعف الهرمي، بوصفه نتيجة صراع واحتکاک مع مؤثّرات خارجية معيّنة، فهذا يعني أنّ بالامکان نظرياً، إذا عزلت الانسجة التي يتکوّن منها جسم الانسان علي تلک المؤثّرات المعيّنة أن تمتدّ بها الحياة وتتجاوز ظاهرة الشيخوخة، وتتغلّب عليها نهائياً.

وإذا أخذنا بوجهة النظر الاُخري التي تميل إلي افتراض الشيخوخة قانوناً طبيعياً للخلايا والانسجة الحيّة نفسها، بمعني أ نّها تحمل في أحشائها بذرة فنائها



[ صفحه 536]



المحتوم، مروراً بمرحلة الهرم والشيخوخة وانتهاءً بالموت.

وإذا أخذنا بوجهة النظر هذه، فليس معني هذا عدم افتراض أيّ مرونة في هذا القانون الطبيعي، بل هو علي افتراض وجوده قانون مرن، لا نّنا نجد في حياتنا الاعتيادية ولانّ العلماء يشاهدون في مختبراتهم العلمية أنّ الشيخوخة کظاهرة فسيولوجية لا زمنية، قد تأتي مبکّرة، وقد تتأخّر ولا تظهر إلاّ في فترة متأخّرة، حتّي أنّ الرجل قد يکون طاعناً في السنّ ولکنّه يملک أعضاء ليّنة، ولا تبدو عليه أعراض الشيخوخة کما نصّ علي ذلک الاطباء. بل إنّ العلماء استطاعوا عملياً أن يستفيدوا من مرونة ذلک القانون الطبيعي المفترض، فأطالوا عمر بعض الحيوانات مئات المرّات بالنسبة إلي أعمارها الطبيعية، وذلک بخلق ظروف وعوامل تؤجّل فاعلية قانون الشيخوخة.

وبهذا يثبت علمياً أنّ تأجيل هذا القانون بخلق ظروف وعوامل معيّنة أمر ممکن علمياً، ولئن لم يتح للعلم أن يمارس فعلاً هذا التأجيل بالنسبة إلي کائن معقّد معيّن کالانسان. فليس ذلک إلاّ لفارق درجة بين صعوبة هذه الممارسة بالنسبة إلي الانسان وصعوبتها بالنسبة إلي أحياء اُخري.

وهذا يعني أنّ العلم من الناحية النظرية وبقدر ما تشير إليه اتجاهاته المتحرّکة لا يوجد فيه أبداً ما يرفض إمکانية إطالة عمر الانسان سواءً فسّرنا الشيخوخة بوصفها نتاج صراع واحتکاک مع مؤثّرات خارجية، أو نتاج قانون طبيعي للخليّة الحيّة نفسها يسير بها نحو الفناء.

ويتلخّص من ذلک: أنّ طول عمر الانسان وبقاءه قروناً متعدّدة أمر ممکن منطقياً وممکن علمياً، ولکنّه لا يزال غير ممکن عملياً، إلاّ أنّ اتجاه العلم سائر في طريق تحقيق هذا الامکان عبر طريق طويل.



[ صفحه 537]



وعلي هذا الضوء نتناول عمر المهدي عليه الصلاة والسلام وما اُحيط به من استفهام أو استغراب.

ونلاحظ أ نّه بعد أن ثبت إمکان هذا العمر الطويل منطقياً وعلمياً، وثبت أنّ العلم سائر في طريق تحويل الامکان النظري إلي إمکان عملي تدريجاً، لا يبقي للاستغراب محتوي إلاّ استبعاد أن يسبق المهدي العلم نفسه، فيتحوّل الامکان النظري إلي إمکان عملي في شخصه قبل أن يصل العلم في تطوّره إلي مستوي القدرة الفعليّة علي هذا التحويل، فهو نظير من يسبق العلم في اکتشاف دواء ذات السحايا أو دواء السرطان.

وإذا کانت المسألة هي أ نّه کيف سبق الاسلام - الذي صمّم عمر هذا القائد المنتظر - حرکة العلم في مجال هذا التحويل؟

فالجواب: أ نّه ليس ذلک هو المجال الوحيد الذي سبق فيه الاسلام حرکة العلم، أوَ ليست الشريعة الاسلامية ککلّ قد سبقت حرکة العلم والتطوّر الطبيعي للفکر الانساني قروناً عديدة؟ أوَ لم تنادِ بشعارات طرحت خططاً للتطبيق لم ينضج الانسان للتوصّل إليها في حرکته المستقلّة إلاّ بعد مئات السنين؟ أوَ لم تأتِ بتشريعات في غاية الحکمة لم يستطع الانسان أن يدرک أسرارها ووجه الحکمة فيها إلاّ قبل برهة وجيزة من الزمن؟ أوَ لم تکشف رسالة السماء أسراراً من الکون لم تکن تخطر علي بال إنسان، ثمّ جاء العلم ليثبتها ويدعمها؟!

فإذا کنّا نؤمن بهذا کلّه فلماذا نستکثر علي مرسل هذه الرسالة سبحانه وتعالي أن يسبق العلم في تصميم عمر المهدي (عليه السلام)؟ وأنا هنا لم أتکلّم إلاّ عن مظاهر السبق التي نستطيع أن نحسّها نحن بصورة مباشرة، ويمکن أن نضيف إلي ذلک مظاهر السبق التي تحدّثنا بها رسالة السماء نفسها.



[ صفحه 538]



ومثال ذلک أ نّها تخبرنا بأنّ النبيّ (صلي الله عليه وآله) قد اُسري به ليلاً من المسجد الحرام إلي المسجد الاقصي. وهذا الاسراء، إذا أردنا أن نفهمه في إطار القوانين الطبيعية فهو يعبّر عن الاستفادة من القوانين الطبيعية بشکل لم يتح للعلم أن يحقّقه إلاّ بعد مئات السنين، فنفس الخبرة الربانية التي أتاحت للرسول (صلي الله عليه وآله) التحرّک السريع قبل أن يتاح للعلم تحقيق ذلک، أتاحت لاخر خلفائه المنصوصين العمر المديد قبل أن يتاح للعلم تحقيق ذلک.

نعم، هذا العمر المديد الذي منحه الله تعالي للمنقذ المنتظر يبدو غريباً في حدود المألوف حتّي اليوم في حياة الناس وفي ما اُنجِز فعلاً من تجارب العلماء. ولکن أوَ ليس الدور التغييري الحاسم الذي اُعدّ له هذا المنقذ غريباً في حدود المألوف في حياة الناس وما مرّت بهم من تطوّرات التأريخ؟ أوَ ليس قد اُنيط به تغيير العالم، وإعادة بنائه الحضاري من جديد علي أساس الحقّ والعدل؟ فلماذا نستغرب إذا اتّسم التحضير لهذا الدور الکبير ببعض الظواهر الغريبة والخارجة عن المألوف کطول عمر المنقذ المنتظر؟ فإنّ غرابة هذه الظواهر وخروجها عن المألوف، مهما کان شديداً، لا يفوق بحال غرابة نفس الدور العظيم الذي يجب علي اليوم الموعود إنجازه.

فإذا کنّا نستسيغ ذلک الدور الفريد تأريخياً علي الرغم من أ نّه لا يوجد دور مناظر له في تأريخ الانسان، فلماذا لا نستسيغ ذلک العمر المديد الذي لا نجد عمراً مناظراً له في حياتنا المألوفة؟

ولا أدري هل هي صدفة أن يقوم شخصان فقط بتفريغ الحضارة الانسانية من محتواها الفاسد وبنائها من جديد، فيکون لکلّ منهما عمر مديد يزيد علي أعمارنا الاعتيادية أضعافاً مضاعفة؟



[ صفحه 539]



أحدهما مارس دوره في ماضي البشرية، وهو نوح (عليه السلام)، الذي نصّ القرآن الکريم علي أ نّه مکث في قومه ألف عام إلاّ خمسين سنة، وقدّر له من خلال الطوفان أن يبني العالم من جديد؟

والاخر يمارس دوره في مستقبل البشرية، وهو المهدي (عليه السلام)، الذي مکث في قومه حتّي الان أکثر من ألف عام، وسيقدّر له في اليوم الموعود أن يبني العالم من جديد، فلماذا نقبل نوح (عليه السلام) الذي ناهز ألف عام علي أقلّ تقدير ولا نقبل المهدي (عليه السلام)؟