استدلال الشيخ المفيد بالحديث علي إمامة الحجّة
قال الشيخ المفيد (رحمه الله): سأل سائل فقال: أخبروني عمّـا رُوِيَ عن النبيّ (صلي الله عليه وآله) أ نّه قال: «من مات وهو لا يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية» هل هو ثابت صحيح أم هو معتلّ سقيم؟
قيل له: بل هو خبر صحيح يشهد له إجماع أهل الاثار ويقوّي معناه صريح القرآن، حيث يقول جلّ اسمه: (يَوْمَ نَدْعُو کُلَّ اُنَاس بِإمَامِهِمْ فَمَنْ اُوْتِيَ کِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَاُوْلَئِکَ يَقْرَأونَ کِتَابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً). [1] وقوله تعالي: (فَکَيْفَ إذَا جِئْنَا مِنْ کُلِّ اُمَّة بِشَهِيد وَجِئْنَا بِکَ عَلَي هَؤْلاءِ شَهِيداً) [2] ، وآي کثيرة من القرآن.
فإن قال: فإذا کان الخبر صحيحاً، کيف يصحّ قولکم في غيبة إمام هذا الزمان وتغيّبه واستتاره علي الکلّ وعدم علمهم بمکانه؟
قيل له: لا مضادّة بين المعرفة بالامام وبين جميع ما ذکرت من أحواله، لانّ العلم بوجوده في العالم لا يفتقر إلي العلم بمشاهدته لمعرفتنا ما لا يصحّ إدراکه بشيء من الحواسّ، فضلاً عمّن يجوز إدراکه وإحاطة العلم بما لا مکان له، فضلاً عمّن يخفي مکانه والظفر بمعرفة المعدوم والماضي والمنتظر، فضلاً عن المستخفي المستتر.
وقد بشّر الله تعالي الانبياء المتقدّمين بنبيّنا محمّد (صلي الله عليه وآله) قبل وجوده في العالم فقال سبحانه: (وَإذْ أخَذَ اللهُ مِيْثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُکُمْ مِنْ کِتَاب وَحِکْمَة ثُمَّ جَاءَکُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَکُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهَ) يعني رسول الله (صلي الله عليه وآله) (قالَ ءأقْرَرْتُمْ وَأخَذْتُمْ عَلَي ذَلِکُمْ إصْرِي) يعني عهدي (قالُوا أقرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأنا مَعَکُمْ
[ صفحه 258]
مِنَ الَّشاهِدِين) [3] ، قال جلّ اسمه: (النَّبِيَّ الاُمِّيَّ الَّذي يَجِدونَهُ مَکْتوباً عِنْدَهُمْ في التَّوْراةِ وَالانْجيل) [4] .
فکان نبيّنا عليه وآله السلام مکتوباً مذکوراً في کتب الله الاُولي، وقد أوجب علي الاُمم الماضية معرفته والاقرار به وانتظاره، وهو (عليه السلام) وديعة في صلب آبائه لم يخرج إلي الوجود.
ونحن اليوم عارفون بالقيامة والبعث والحساب، وهو معدوم غير موجود، وقد عرفنا آدم ونوحاً وإبراهيم وموسي وعيسي (عليهم السلام) ولم نشاهدهم ولا شاهدنا من أخبر عن مشاهدتهم، ونعرف جبرئيل وميکائيل وإسرافيل وملک الموت (عليهم السلام) ولسنا نعرف لهم شخصاً، ولا نعرف لهم مکاناً، فقد فرض الله علينا معرفتهم والاقرار بهم، وإن کنّا لا نجد إلي الوصول إليهم سبيلاً، ونعلم أنّ فرض المعرفة لشخص في نفسه من المصالح ممّـا لا يتعلّق لوجود مشاهدة المعروف ولا يعرف مستقرّه ولا الوصول إليه في مکانه، وهذا بيّن لمن تدبّره.
فإن قال: فما ينفعنا من معرفته مع عدم الانتفاع به من الوجه الذي ذکرنا؟
قيل له: نفس معرفتنا بوجوده وإمامته وعصمته وکماله نفع لنا في اکتساب الثواب، وانتظارنا لظهوره عبادة نستدفع بها عظيم العقاب، ونؤدّي بها فرضاً ألزمناه ربّنا المالک للرقاب، کما کانت المعرفة بمن عددناه من الانبياء والملائکة من أجل النفع لنا في مصالحنا، واکتسابنا المثوبة في آجلنا وإن لم يصحّ المعرفة لهم علي کلّ حال، وکما أنّ معرفة الاُمم الماضية نبيّنا قبل وجوده، مع أ نّها کانت من أوکد
[ صفحه 259]
فرائضهم لاجل منافعهم، ومعرفة الباري جلّ اسمه أصل الفرائض کلّها، وهو أعظم من أن يدرک بشيء من الحواس.
فإن قال: إذا کان الامام عندکم غائباً، ومکانه مجهولاً، فکيف يصنع المسترشد؟ وعلي ماذا يعتمد الممتحن فيما ينزل به من حادث لا يعرف له حکماً؟ وإلي من يرجع المتنازعون، لا سيّما والامام إنّما نصب لما وصفناه؟
قيل له: هذا السؤال مستأنف لا نسبة له بما تقدّم، ولا وصلة بينه وبينه، وقد مضي السؤال الاوّل في معني الخبر وفرض المعرفة وجوابه علي انتظام، ونحن نجيب عن هذا المستأنف بموجز لا يخلّ بمعني التمام فنقول وبالله التوفيق: إنّما الامام نصب لاشياء کثيرة:
أحدها: الفصل بين المختلفين.
الثاني: بيان الحکم للمسترشدين.
ولم ينصب لهذين دون غيرهما من مصالح الدنيا والدين، غير أ نّه إنّما يجب عليه القيام فيما نصب له مع التمکّن من ذلک والاختيار، وليس يجب عليه شيء لا يستطيعه، ولا يلزمه فعل الايثار مع الاضطرار، ولم يؤت الامام في التقيّة من قبل الله عزّ وجلّ، ولا من جهة نفسه وأوليائه المؤمنين، وإنّما اُتي ذلک من قبل الظالمين الذين أباحوا دمه ودفعوا نسبه، وأنکروا حقّه، وحملوا الجمهور علي عداوته ومناصبة القائلين بإمامته، وکانت البليّة فيما يضيع من الاحکام، ويتعطّل من الحدود، ويفوت من الصلاح، متعلّقة بالظالمين، وإمام الانام بريء منها وجميع المؤمنين.
فأمّا الممتحن بحادث يحتاج إلي علم الحکم فيه، فقد وجب عليه أن يرجع في ذلک إلي العلماء من شيعة الامام، وليعلم ذلک من جهتهم بما استودعوه من أئمة الهدي
[ صفحه 260]
المتقدّمين، وإن عدم ذلک - والعياذ بالله - ولم يکن فيه حکم منصوص علي حال، فيعلم أ نّه علي حکم العقل، لا نّه لو أراد الله أن يتعبّد فيه بحکم سمعي لفعل ذلک، ولو فعله لسهل السبيل إليه.
وکذلک القول في المتنازعين، يجب عليهم ردّ ما اختلفوا فيه إلي الکتاب والسنّة عن رسول الله (صلي الله عليه وآله) من جهة خلفائه الراشدين من عترته الطاهرين، ويستعينوا في معرفة ذلک بعلماء الشيعة وفقهائهم، وإن کان - والعياذ بالله - لم يوجد فيما اختلفوا فيه نص علي حکم سمعي، فليعلم أنّ ذلک ممّـا کان في العقول ومفهوم أحکام العقول، مثل: أنّ من غصب إنساناً شيئاً، فعليه ردّه بعينه إن کانت عينه قائمة، فإن لم تکن عينه قائمة کان عليه تعويضه منه بمثله، فإن لم يوجد له مثل کان أن يرضي خصمه بما تزول معه ظلامته، فإن لم يستطع ذلک، أو لم يفعله مختاراً، کان في ذمّته إلي يوم القيامة.
وإن کان جان جني علي غيره جناية لا يمکن تلافيها کانت في ذمّته، وکان المجني عليه ممتحناً بالصبر إلي أن ينصفه الله تعالي يوم الحساب، فإن کان الحادث ممّـا لا يعلم بالسمع إباحته من خطره، فإنّه علي الاباحة إلاّ أن يقوم دليل سمعي علي خطره.
وهذا الذي وصفناه إنّما جاز للمکلّف الاعتماد عليه والرجوع إليه عند الضرورة بفقد الامام المرشد، ولو کان الامام ظاهراً ما وسعه غير الردّ إليه، والعمل علي قوله، وهذا کقول خصومنا کافة: إنّ علي الناس في نوازلهم بعد النبيّ (صلي الله عليه وآله) أن يجتهدوا فيها عند فقدهم النص عليها، ولا يجوز لهم الاجتهاد واستعمال الرأي بحضرة النبيّ (صلي الله عليه وآله).
فإن قال: فإذا کانت عبادتکم تتمّ بما وصفتموه مع غيبة الامام، فقد استغنيتم
[ صفحه 261]
عن الامام؟
قيل له: ليس الامر کما ظننت في ذلک، لانّ الحاجة إلي الشيء قد تکون قائمة مع فقد ما يسدّها، ولولا ذلک ما کان الفقير محتاجاً إلي المال مع فقده، ولا المريض محتاجاً إلي الدواء وإن بَعُدَ وجوده، والجاهل محتاجاً إلي العلم وإن عدم الطريق إليه، والمتحيّر محتاجاً إلي الدليل وإن لم يظفر به.
ولو لزمنا ما ادّعيتموه وتوهّمتموه، للزم جميع المسلمين أن يقولوا: إنّ الناس کانوا في حال غيبة النبيّ (صلي الله عليه وآله) للهجرة وفي الغار أغنياء عنه، وکذلک کانت حالهم في وقت استتاره بشعب أبي طالب (عليه السلام)، وکان قوم موسي (عليه السلام) أغنياء عنه في حال غيبته عنهم لميقات ربّه، وکذلک أصحاب يونس (عليه السلام) أغنياء عنه لمّـا ذهب مغضباً والتقمه الحوت وهو مليم، وهذا ممّـا لا يذهب إليه مسلم ولا ملّي. فيعلم بذلک بطلان ما ظنّه الخصوم وتوهّموه علي الظنّة والرجوم [5] .
پاورقي
[1] الاسراء: 71.
[2] النساء: 41.
[3] آل عمران: 81.
[4] الاعراف: 157.
[5] الرسالة الاُولي في الغيبة / المفيد: 11 ـ 16.