البشارات السماوية بالامام المهدي
إنّ اعتقاد أهل الکتاب بظهور المنقذ في آخر الزمان لا يبعد أن يکون من تبشير أديانهم بمهدي أهل البيت (عليهم السلام) کتبشيرها بنبوّة نبيّنا (صلي الله عليه وآله وسلم) إلاّ أ نّهم أخفوا ذلک عناداً وتکبّراً إلاّ من آمن منهم بالله واتّقي [1] .
ويدلّ علي ذلک وجود ما يشير في أسفار التوراة إلي ظهور المهدي في آخر الزمان، کما في النص الذي نقله الکاتب أبو محمّد الاردني من (سفر أرميا) وإليک
[ صفحه 80]
نصه: «اصعدي أ يّتها الخيل وهيّجي المرکبات، ولتخرج الابطال: کوش وقوط القابضان المجنّ، واللوديّون القابضون القوس، فهذا اليوم للسيّد ربّ الجنود، يوم نقمة للانتقام من مبغضيه، فيأکل السيف ويشبع... لانّ للسيّد ربّ الجنود ذبيحة في أرض الشمال عند نهر الفرات».
وهناک ما هو أوضح من هذا بکثير جدّاً، فقد قال الاُستاذ سعيد أيوب في کتابه (المسيح الدجّال): «ويقول کعب: مکتوب في أسفار الانبياء: المهدي ما في عمله عيب»، ثمّ علّق علي هذا النص بقوله: «وأشهد أ نّني وجدته کذلک في کتب أهل الکتاب».
لقد تتبّع أهل الکتاب أخبار المهدي کما تتبّعوا أخبار جدّه (صلي الله عليه وآله وسلم)، فدلّت أخبار سفر الرؤيا إلي امرأة يخرج من صلبها اثنا عشر رجلاً، ثمّ أشار إلي امرأة اُخري، أي: التي تلد الرجل الاخير الذي هو من صُلب جدّته، وقال السفر: إنّ هذه المرأة الاخيرة ستحيط بها المخاطر، ورمز للمخاطر باسم (التنّين) وقال: (والتنّين وقف أمام المرأة العتيدة حتّي تلد يبتلع ولدها متي ولدت)، سفر الرؤيا 12/ 3، أي: أنّ السلطة کانت تريد قتل هذا الغلام، ولکن بعد ولادة الطفل يقول بارکلي Barkly في تفسيره: «عندما هجمت عليها المخاطر اختطف الله ولدها وحفظه».
والنص (واختطف الله ولدها) سفر الرؤيا 12/ 5، أي: أنّ الله غيّب هذا الطفل کما يقول بارکلي.
وذکر السفر أنّ غيبة الغلام ستکون ألفاً ومئتين وستّين يوماً، وهي مدّة لها رموزها عند أهل الکتاب، ثمّ قال بارکلي عن نسل المرأة عموماً: إنّ التنين سيعمل حرباً شرسة مع نسل المرأة کما قال السفر: (فغضب التنّين علي المرأة، وذهب ليصنع
[ صفحه 81]
حرباً مع باقي نسلها الذين يحفظون وصايا الله) سفر الرؤيا 12/ 13».
وهذا وإن لم يصحّ لمسلم الاحتجاج به، لما مُنيت به کتب العهدين من تحريف وتبديل، إلاّ أ نّه يدلّ بوضوح علي معرفة أهل الکتاب بالمهدي، ثمّ اختلافهم فيما بعد في تشخصيه، إذ ليس کلّ ما جاء به الاسلام قد تفرّد به عن الاديان السابقة، فکثير من الاُمور الکلّية التي جاء بها الاسلام کانت في الشرائع السابقة قبله.
قال الشاطبي: «وکثير من الايات اُخبر فيها بأحکام کلّية کانت في الشرائع المتقدّمة وهي في شريعتنا، ولا فرق بينهما».
وإذا تقرّر هذا فلا يَضُرُّ اعتقاد المسلم بصحّة ما بشّر به النبيّ (صلي الله عليه وآله وسلم) من ظهور رجل من أهل بيته في آخر الزمان، أن يکون هذا المعتقد موجوداً عند أهل الکتاب (اليهود والنصاري) أو عند غيرهم ممّن سبق الاسلام، ولا يخرج هذا المعتقد عن إطاره الاسلامي بعد أن بشّر به النبيّ (صلي الله عليه وآله وسلم) وبعد الايمان بأ نّه (صلي الله عليه وآله وسلم) (ما يَنْطِقُ عَنِ الهَوي إنْ هُوَ إلاّ وَحْيٌ يوحي).
وأمّا عن اعتقادات الشعوب المختلفة بأصل هذه الفکرة کما مرّ، فيمکن تفسيرها علي أساس أنّ فکرة ظهور المنقذ لا تتعارض مع فطرة الانسان وطموحاته وتطلّعاته، ولو فکّر الانسان قليلاً في اشتراک معظم الشعوب بأصل الفکرة لادرک أنّ وراء هذا الکون حکمة بالغة في التدبير، يستمدّ الانسان من خلالها قوّته في الصمود إزاء ما يري من انحراف وظلم وطغيان، ولا يُترک فريسة يأسه دون أن يزوّد بخيوط الامل والرجاء بأنّ العدل لا بدّ له أن يسود.
وأمّا عن اختلاف أهل الاديان السابقة والشعوب في تشخيص اسم المنقذ المنتظر، فلا علاقة له في إنکار ما بشّر به النبيّ (صلي الله عليه وآله وسلم)، وليس هناک ما يدعو إلي بيان فساد تشخيصهم لاسم المنقذ، ما دام الاسلام قد تصدّي بنفسه لهذه المهمّة فبيّن
[ صفحه 82]
اسمه، وحسبه، ونسبه، وأوصافه، وسيرته، وعلامات ظهوره، وطريقة حکمه، حتّي تواترت بذلک الاخبار واستفاضت بکثرة رواتها من طرق أهل السنّة، کما صرّح بذلک أعلامهم وحفّاظهم وفقهاؤهم ومحدّثوهم، وقد روي تلک الاخبار عن النبيّ (صلي الله عليه وآله وسلم) ما يزيد علي خمسين صحابياً.
وأمّا عن اختلاف المسلمين فيما بينهم من حيث تشخيص اسم المهدي کما هو معلوم بين أهل السنّة والشيعة، فليس فيه أدني حجّة للمستشرقين وأذنابهم، بل هو - علي العکس - من الادلّة القاطعة عليه، لا نّه من قبيل الاختلاف في تفاصيل شيء متحقّق الوجود، کاختلافهم في القرآن الکريم بين القول بقِدَمه وحدوثه من الله تعالي، مع اتفاقهم علي تکفير منکره، وقس عليه سائر اختلافاتهم الاُخري في تفاصيل بعض العقائد دون اُصولها [2] .
فالايمان بوجود مصلح ومنقذ للبشريّة لم تکن مسألة تنفرد بها الشيعة الامامية، بل إنّ جميع المذاهب والاديان تؤمن بذلک، فاليهودية تؤمن بوجود منقذ ومخلّص يظهر في «جبل صهيون» وقد جاءت في «سفر أشعيا» الاشارة إلي هذا المعني:
ستخرج من القدس بقيّة من «جبل صهيون».
غيرةُ ربّ الجنود ستصنع هذا.
وکما ورد التأکيد علي هذا المعني في «سفر زکريا»:
ابتهجي کثيراً يا بنت صهيون.
هو ذا ملکک سيأتي إليکِ.
[ صفحه 83]
عادل ومنصور.
فالايمان بمنقذ للبشريّة مسألة لا غبار عليها مهما حاول الفکر اليهودي - الصهيوني تشويه ولبس الحقائق المتعلّقة بظهور هذا المنقذ، لانّ ذلک نابع من الطبيعة الصهيونية المعاندة للحقّ والمحبّة للذات والاستعلاء وعدم الاعتراف بالشعوب الاُخري.
پاورقي
[1] راجع المزيد من النصوص التي تدلّ علي البشارات السماوية بالامام المهدي (عليه السلام) في الديانات المتقدّمة علي الاسلام، في کتاب إلزام الناصب 1: 115 ـ 162.
[2] المهدي المنتظر في الفکر الاسلامي: 12 ـ 15.