بازگشت

عالمية الاعتقاد بالمهدي والبشارات السماويّة


ليس المهدي (عليه السلام) تجسيداً لعقيدة إسلاميّة ذات طابع ديني فحسب، بل هو عنوان لطموح اتّجهت إليه البشريّة بمختلف أديانها ومذاهبها، وصياغة لالهام فطري، أدرک الناس من خلاله - علي الرغم من تنوّع عقائدهم ووسائلهم إلي الغيب - أنّ للانسانيّة يوماً موعوداً علي الارض، تحقّق فيه رسالات السماء بمغزاها الکبير، وهدفها النهائي، وتجد فيه المسيرة المکدودة للانسان علي مرّ التأريخ استقرارها واطمئنانها، بعد عناء طويل، لتـُملا الارض قسطاً وعدلاً بعدما ملئت ظلماً وجوراً.

بل لم يقتصر الشعور بهذا اليوم الغيبي والمستقبل المنتظر علي المؤمنين دينياً بالغيب، بل امتدّ إلي غيرهم أيضاً وانعکس حتّي علي أشدّ الايديولوجيات والاتجاهات العقائديّة رفضاً للغيب والغيبيات، کالمادّية الجدليّة التي فسّرت التأريخ علي أساس التناقضات، وآمنت بيوم موعود، تصفّي فيه کلّ تلک التناقضات، وسيسود فيه الوئام والسلام. وهکذا نجد أنّ التجربة النفسيّة لهذا الشعور التي مارستها الانسانيّة علي مرّ الزمان، من أوسع التجارب النفسيّة اطمئناناً وأکثرها أملاً بين المجتمع الانساني.



[ صفحه 74]



وحينما يدعم الدين هذا الشعور النفسي العامّ، ويؤکّد أنّ الارض في نهاية المطاف ستملا قسطاً وعدلاً بعد أن ملئت ظلماً وجوراً، يعطي لذلک الشعور قيمته الموضوعيّة ويحوّله إلي إيمان حاسم بمستقبل المسيرة الانسانيّة. وهذا الايمان ليس مجرّد مصدر للسلوة والعزاء فحسب، بل مصدر عطاء وقوّة وأمل، فهو مصدر عطاء، لانّ الايمان بالمهدي إيماناً برفض الظلم والجور حتّي يسود الدنيا کلّها العدل، وهو مصدر قوّة ودفع لا ينضب، لا نّه بصيص نور وأمل يقاوم اليأس في نفس الانسان، ويحافظ علي الامل المشتعل في الصدور مهما ادلهمّت الخطوب وتعمّق الظلم، لانّ اليوم الموعود، يثبت أنّ بإمکان العدل أن يسود ويواجه عالماً مليئاً بالظلم والجور فيزعزع ما فيه من أرکان الظلم، ويقيم بناءه من جديد کصرح شامخ، وأنّ الظلم مهما تجبّر وامتدّ في أرجاء العالم وسيطر علي مقدّراته، فهو حالة غير طبيعية، ولا بدّ أن ينهزم. وتلک الهزيمة الکبري المحتومة للظلم وهو في قمّة جبروته، تضع الامل کبيراً أمام کلّ فرد مظلوم، وکلّ اُمّة مظلومة في القدرة علي تغيير الميزان وإعادة البناء مجدّداً.

وإذا کانت فکرة المهدي (عليه السلام) أقدم من الاسلام وأوسع منه، فإنّ معالمها التفصيليّة التي حدّدها الاسلام جاءت أکثر إشباعاً لکلّ الطموحات التي انشدّت إلي هذه الفکرة منذ فجر التأريخ الديني، وأغني عطاءً وأقوي إثارةً لاحاسيس المظلومين والمعذّبين علي مرّ التأريخ وذلک لانّ الاسلام حوّل الفکرة من غيب إلي واقع، ومن مستقبل إلي حاضر، ومن التطلّع إلي منقذ تتمخّض عنه الدنيا في المستقبل البعيد المجهول، إلي الايمان بوجود المنقذ فعلاً، وتطلّعه مع المتطلّعين إلي اليوم الموعود، واکتمال کلّ الظروف التي تسمح له بممارسة دوره الفعّال العظيم، فلم يعد المهدي (عليه السلام) فکرة ننتظر ولادتها، ونبوءة نتطلّع إلي مصداقيّتها، بل واقعاً قائماً



[ صفحه 75]



ننتظر فاعليّته وإنساناً معيّناً يعيش بيننا ويرانا ولا نراه، ويعيش مع آمالنا وآلامنا، ويشارکنا أحزاننا وأفراحنا، ويشهد کلّ ما تزخر به الساحة علي وجه الارض من عذاب المعذّبين وبؤس البائسين وظلم الظالمين، سواءً کان ذلک من قريب أو بعيد، وينتظر بلهفة اللحظة التي يتاح له فيها أن يمدّ يده إلي کلّ مظلوم وکلّ محروم، وکلّ بائس ليقطع دابر الظالمين.

وقد قدّر لهذا القائد العظيم المنتظر أن لا يعلن عن نفسه، ولا يکشف للاخرين حياته علي الرغم من أ نّه يعيش معهم انتظاراً للّحظة الموعودة لانقاذهم.

ومن الواضح أنّ الفکرة بهذه المعالم الاسلاميّة، تقرّب الهوّة الغيبيّة بين المظلومين - کلّ المظلومين - والمنقذ المنتظر، وتجعل الجسر بينهم وبينه في شعورهم النفسي قصيراً مهما طال الانتظار.

ونحن حينما يراد منّا أن نؤمن بفکرة المهدي، بوصفها تعبيراً عن إنسان حيّ محدّد يعيش فعلاً کما نعيش ويترقّب کما نترقّب، يراد الايماء إلينا بأنّ فکرة الرفض المطلق لکلّ ظلم وجور التي يمثّلها المهدي، تجسّدت فعلاً في القائد الرافض المنتظر، الذي سيظهر وليس في عنقه بيعة لظالم کما في الحديث، وأنّ الايمان به إيمانٌ بهذا الرفض الحيّ القائم فعلاً ومواکبةٌ له.

وقد ورد في الاحاديث الحثّ المتواصل علي انتظار الفرج، ومطالبة المؤمنين بالمهدي أن يکونوا بانتظاره، وفي ذلک تحقيق لتلک الرابطة الروحيّة، والصلة الوجدانيّة بينهم وبين القائد الرافض، وکلّ ما يرمز إليه من قيم، وهي رابطة وصلة ليس بالامکان إيجادها ما لم يکن المهدي قد تجسّد فعلاً في إنسان حيّ معاصر.

وهکذا نلاحظ أنّ هذا التجسيد أعطي الفکرة زخماً جديداً، وجعل منها مصدر عطاء وقوّة بدرجة أکبر، إضافة إلي ما يجد أيّ إنسان رافض من سلوة



[ صفحه 76]



وعزاء وتخفيف لما يقاسيه من آلام الظلم والحرمان، حين يحسّ أنّ إمامه وقائده يشارکه هذه الالام ويتحسّس بها فعلاً بحکم کونه إنساناً معاصراً، يعيش معه وليس مجرّد فکرة مستقبليّة [1] .


پاورقي

[1] بحث حول المهدي للشهيد السيّد محمّد باقر الصدر (رضي الله عنه) منشور في مقدّمة کتاب البرهان للمتّقي الهندي، من الصفحة 5 ـ 8.