بازگشت

انتظار الفرج


إنّ انتظار اليوم الموعود، هو الغرض الاساسي من إيجاد البشريّة... وقد خطّط الله تعالي لايجاده منذ فجر الخليقة، ولا زال هذا التخطيط سارياً إلي حين تحقّق نتيجته النهائية وغرضه الاصيل.

وقد کان انتظار البشر لليوم الموعود، موجوداً، منذ أن بلّغ الانبياء السابقون (عليهم السلام) البشرية عن وجوده... إلاّ أنّ الانتظار اکتسب صيغاً متعدّدة بتعدّد أزمنة تطوّر البشريّة نحو ذلک الغد المنشود، فإنّ البشرية قد مرّت - بهذا الاعتبار - بمراحل:

المرحلة الاُولي

فترة ما قبل الاسلام، وقد کان الناس خلالها يفهمون من کلّ نبيّ يبلغهم عن اليوم الموعود، أمرين مقترنين:

أوّلهما: الاهمال من التأريخ وإيکاله إلي إرادة الله تعالي محضاً.

وثانيهما: أنّ هذا النبيّ الذي يبلّغهم عنه، ليس هو القائد المذخور لهذه المهمّة، وإنّما سيوجد في المستقبل البعيد شخص آخر يکون مضطلعاً بها، وقائداً للبشرية من خلالها.

إذن، فالانتظار لم يکن حاملاً لنفس المفهوم الذي يحمله في عصر الغيبة الکبري... فبينما نري أنّ صيغته الاخيرة هي: توقّع حدوث اليوم الموعود في کلّ



[ صفحه 549]



حين، علي ما سبق... نري أنّ صيغته يومئذ کانت تتضمّن العلم بعدم حدوثه السريع، والاکتفاء بالاعتقاد بأنّ هذا ممّـا سيحدث جزماً في المستقبل البعيد.

والناس في تلک العهود، وإن لم يکونوا ملتفتين إلي سرّ ذلک، إلاّ أ نّنا عرفنا باطلاعنا علي تفاصيل التخطيط الالهي. حيث عرفنا أنّ کلا شرطي اليوم الموعود، لم يکونا متوفّرين في تلک الفترة، فلم تکن البشرية علي مستوي فهم الاُطروحة العادلة الکاملة من ناحية، ولم تکن علي مستوي الاخلاص وقوّة الارادة المطلوب توفّرها في قيادة اليوم الموعود.

المرحلة الثانية

فترة ما بعد الاسلام إلي بدء الغيبة الصغري... حيث کانت البشرية قد تلقّت عن الله عزّ وجلّ اُطروحتها العادلة الکاملة، وبذلک توفّر أحد الشرطين السابقين.

إلاّ أنّ معني الانتظار لم يکن يختلف - مع ذلک - اختلافاً جوهرياً عمّـا سبق، بمعني أنّ الامل في ذلک الحين لم يکن منعقداً علي حدوث اليوم الموعود بغتة وفي أيّ وقت، بل کان المفهوم هو تحقّقه في المستقبل البعيد أيضاً، غاية الفرق عن المرحلة السابقة، هو إحراز المسلمين: أنّ اليوم الموعود سوف يکون طبقاً لاُطروحتهم ودينهم، دون غيره.

وهذا واضح جدّاً، لو لاحظنا طرق التبليغ عن ذلک اليوم من قبل النبيّ (صلي الله عليه وآله) والائمة المعصومين (عليهم السلام) بعده، أمّا بالنسبة إلي النبيّ (صلي الله عليه وآله) فيکفينا إخباراته عن المهدي (عليه السلام) وأ نّه من ولده وعترته، وأ نّه من ذرّية فاطمة (عليها السلام)، وأ نّه يظهر فيملا الارض قسطاً وعدلاً، وأ نّه من ولد الحسين (عليه السلام) وأنّ صفته کذا وکذا... إذن فقائد اليوم الموعود ليس هو شخص النبيّ (صلي الله عليه وآله) ولن يقوم النبيّ (صلي الله عليه وآله) بهذه المهمّة الکبري



[ صفحه 550]



خلال حياته، فالانتظار في عهد النبيّ (صلي الله عليه وآله) کان مقترناً بعدم حدوثه الفوري في ذلک الحين.

ويبقي الانتظار في عصر الائمة (عليهم السلام) يحمل نفس المفهوم، فقد بشّر الائمة (عليهم السلام) بالمهدي الموعود علي أ نّه لا يکون خلال حياتهم، ونفوا عن أنفسهم أن يکون أحداً منهم هو المهدي.

ــ عن أيوب بن نوح، قال: قلت لابي الحسن الرضا (عليه السلام): إنّا نرجو أن تکون صاحب هذا الامر، وأن يسوقه الله إليک عفواً بغير سيف، فقد بويع لک، وقد ضُرِبت الدراهم باسمک؟

فقال (عليه السلام): ما منّا أحدٌ اختلفت الکتب إليه، واُشير إليه بالاصابع، وسُئل عن المسائل، وحملت إليه الاموال، إلاّ اغتيل أو مات علي فراشه، حتّي يبعث الله لهذا الامر غلاماً منّا خفيّ المولد والمنشأ غير خفيّ في نفسه [1] .

ــ وعن عبد الله بن عطاء، قال: قلت لابي جعفر (عليه السلام): إنّ شيعتک بالعراق کثيرة، ووالله ما في بيتک مثلک، فکيف لا تخرج؟

فقال: يا عبد الله بن عطاء، قد أخذت تفرش اُذنيک للنوکي [2] ، أي والله ما أنا صاحبکم.

قلت: فمن صاحبنا؟ فقال: انظروا من غيّب عن الناس ولادته، فذلک صاحبکم، إنّه ليس منّا أحد يشار إليه بالاصابع ويمضغ بالالسن إلاّ مات غيظاً أو حتف أنفه [3] .



[ صفحه 551]



وفي حديث آخر عنه (عليه السلام) مثله وفي آخره: إلاّ مات قتيلاً أو حتف أنفه. قلت: وما حتف أنفه؟ فقال: يموت بغيظه علي فراشه حتّي يبعث الله من لا يؤبه لولادته. قلت: ومن لا يؤبه لولادته؟ فقال: انظر من لا يدري الناس أ نّه ولد أم لا، فذلک صاحبکم [4] .

يضاف إلي ذلک أنّ الاخبار الدالّة علي علامات الظهور وشروطه، لم تتحقّق في عصر الائمّة (عليهم السلام) السابقين للمهدي (عليه السلام) کالصيحة والخسف والسفياني وغيرها، ومعلوم أ نّه إذا لم توجد هذه العلامات، لا يظهر المهدي (عليه السلام).

إذن فالمسلمون في زمن النبيّ (صلي الله عليه وآله) والائمّة (عليهم السلام) لم يکونوا ينتظرون ظهور المهدي (عليه السلام) علي الفور، وإنّهم قد بُلّغوا بشکل أکيد وشديد بظهوره في مستقبل الزمان، وإن سمعنا بعض التوقّع في زمان الائمّة (عليهم السلام) من قبل أصحابهم کما قدّمنا في الاحاديث الانفة، وکما مرّ بنا في أخبار التمحيص، فمنشؤه إبهام فکرة المهدي في أذهانهم وجهلهم لتفاصيلها، وقد انتفي ذلک في هذه المرحلة بعد ما صدر من الايضاحات والتفاصيل عن هذه العقيدة ممّـا له الاثر في جلاء الفکرة وارتفاع الابهام تدريجيّاً في مفهوم الانتظار.

المرحلة الثالثة

وهي التي تهمّنا هنا، وهي مرحلة الغيبة، فقد عرفنا بنحو القطع من هو المهدي، وعرفنا أ نّه سيظهر بإذن الله إذا تحقّقت الشروط والعلامات، وإذا کنّا بمستويً عال من الاخلاص والاستقامة وقوّة الارادة المطلوب توفّرها في قيادة اليوم الموعود، فنحن إذن نتوقّع في الغيبة الکبري الظهور ونترقّبه في أيّ وقت.



[ صفحه 552]



إنّ المفهوم الاسلامي الواعي الصحيح للانتظار، هو التوقّع الدائم لتنفيذ الغرض الالهي الکبير، وحصول اليوم الموعود الذي تعيش فيه البشرية العدل الکامل بقيادة وإشراف الامام المهدي (عليه السلام).

وهذا المعني مفهوم إسلامي عام تشترک فيه المذاهب الکبري في الاسلام، إذ بعد إحراز هذا الغرض الکبير وتواتر أخبار المهدي عن رسول الاسلام (صلي الله عليه وآله) بنحو يحصل اليقين بمدلولها وينقطع العذر عن إنکاره أمام الله عزّ وجلّ، وبعد العلم بإناطة تنفيذ ذلک الغرض بإرادة الله تعالي وحده، من دون أن يکون لغيره رأي في ذلک. إذن فمن المحتمل في کلّ يوم أن يقوم المهدي (عليه السلام) بحرکته الکبري لتطبيق ذلک الغرض، لوضوح احتمال تعلّق إرادة الله تعالي به في أيّ وقت.

لا ينبغي أن تختلف في ذلک الاُطروحة الامامية لفهم المهدي (عليه السلام) عن غيرها... إذ علي تلک الاُطروحة، يأذن الله تعالي له بالظهور بعد الاختفاء، وأمّا بناءً علي الاُطروحة الاُخري القائلة: بأنّ المهدي (عليه السلام) يولد في مستقبل الدهر ويقوم بالسيف، فلاحتمال أن يکون الان مولوداً، ويوشک أن يأمره الله تعالي بالظهور. وهذا الاحتمال قائم في کلّ وقت أيضاً.

بل إنّ لمعني الانتظار مفهوم أعمّ من الاسلام وأقدم، أمّا قِدَمه فلما ذکرناه من تبشير الانبياء باليوم الموعود، فالبشرية کانت ولا زالت تنتظره، وإن تحرّفت شخصية القائد وعنوانه، وستبقي تنتظره ما دام في الدنيا ظلم وجور، وأمّا عمومه، فباعتبار التزام سائر أهل الاديان السماوية به، مع غضّ النظر عن الاسم.

وهذا بنفسه، ممّـا يجعل المسؤولية في عهدة کلّ مؤمن بهذه الاديان، وخاصّة المسلم منهم، في أن يهذّب نفسه ويکملها ويصعّد درجة إخلاصه وقوّة إرادته، لکي يوفّر لنفسه ولاخوانه في البشرية شرط الظهور في اليوم الموعود.



[ صفحه 553]



فلا يکون الفرد علي مستوي الانتظار المطلوب، إلاّ بتوفّر عناصر ثلاثة مقترنة: عقائدية ونفسية وسلوکيّة. ولولاها لا يبقي للانتظار أيّ معني إيماني صحيح، سوي التعسّف النفسي المبني علي المنطق القائل: إذهب أنت وربّک فقاتلا، إنّا ها هنا قاعدون...

فمن حيث الجانب العقائدي، لا بدّ من الاعتقاد بتعلّق الغرض الالهي بإصلاح البشريّة جميعاً، وتنفيذ العدل المطلق فيها في مستقبل الدهر، وأنّ ما تعلّق به الغرض الالهي والوعد الربّاني في القرآن لا يمکن أن يتخلّف.

والاعتقاد بأنّ القائد المظفّر الرائد في ذلک اليوم الموعود، هو الامام المهدي (عليه السلام)، کما تواترت بذلک الاخبار عند الفريقين، بل بلغت ما فوق حدّ التواتر، وقد علمنا أنّ ذلک ضروريّ الثبوت.

والاعتقاد بأنّ المهدي القائد هو محمّد بن الحسن العسکري (عليه السلام)... الامر الذي قامت ضرورة المذهب الامامي، وقامت عليه الاعداد الضخمة من أخبارهم. ووافقهم عليه جملة من مفکّري العامّة وعلمائهم کابن عربي في الفتوحات المکّية، والقندوزي في ينابيع المودّة، والحمويني في فرائد السمطين، والکنجي في البيان... وغيرهم [5] .

أمّا من الجانب النفسي للانتظار، فلا بدّ من الاستعداد الکامل لتطبيق الاُطروحة العادلة الکاملة عليه، کواحد من البشر، علي أقلّ تقدير، إن لم يکن من الدعاة إليها والمضحّين في سبيلها، وتوقّع البدء بتطبيق الاُطروحة العادلة الکاملة، أو بزوغ فجر الظهور في أيّ وقت... لما قلناه من أ نّه منوط بإرادة الله تعالي، بشکل



[ صفحه 554]



لا يمکن لغيره التعيين أو التوقيت. ومن المحتمل أن يشاء الله تعالي ذلک في أيّ وقت مضافاً إلي الاخبار الدالّة علي حصوله فجأة.

والجانب السلوکي للانتظار يتمثّل بالالتزام الکامل بتطبيق الاحکام الالهية السارية في کلّ عصر، علي سائر علاقات الفرد وأفعاله وأقواله، حتّي يکون متّبعاً للحقّ الکامل والهدي الصحيح، فيکتسب الارادة القويّة والاخلاص الحقيقي الذي يؤهّله للتشرّف بتحمّل طرف من مسؤوليات اليوم الموعود.

وهذا السلوک ضروري وملزم لکلّ من يؤمن باليوم الموعود، علي أيّ من المستويات السابقة، فضلاً عن مجموعها، وبخاصّة المسلمين الذين قام البرهان لديهم بأنّ المهدي (عليه السلام) يطبّق اُطروحته العادلة الکاملة متمثّلة في أحکام دينهم الحنيف.

وأمّا المسلم الامامي الذي يعلم بأنّ قائده معاصر معه، يراقب أعماله ويعرف أقواله، ويأسف لسوء تصرّفه... فهو مضافاً إلي وجوب إعداد نفسه لليوم الموعود، يجب أن يکون علي مستوي المسؤولية في حاضره أيضاً، وفي کلّ أيام حياته، لکي لا يکون عاصياً لقائده متمرّداً علي تعاليمه، وهذا الاحساس نفسه، يسرع بالفرد إلي النتيجة المطلوبة، وهو النجاح في التمحيص، والاعداد لليوم الموعود.

وإذا کان الفرد علي هذا المستوي الرفيع، استطاع أن يحرز الخير، علي مستويات أربعة:

1 - إحراز الخير لنفسه في دنياه وآخرته. أمّا في آخرته، فباعتبار رضا الله عزّ وجلّ، وأمّا في دنياه، فباعتبار أمرين:

أحدهما: السلوک العادل الذي يتّخذه الفرد والمعاملة الصالحة والعلاقات



[ صفحه 555]



الجيّدة التي يعامل بها الاخرين.

وثانيهما: أ نّه يصبح علي مستوي المسؤولية لتحمّل مواجهة القيادة في اليوم الموعود، إذا بزغ فجره.

2 - إحراز الخير لاُمّته، باعتبار أ نّه إذ يعدّ نفسه الاعداد الصالح، فإنّه يشارک في تهيئة شرط اليوم الموعود، بمقدار تکليفه وقدرته، فيکون قد تسبّب إلي الخير کلّ الخير لاُمّته.

3 - إحراز الخير، لا لاُمّته فحسب، بل للبشرية جمعاء، فإنّ الخير الناتج من إيجاد شرط الظهور، عامّ لکلّ البشر، والمشارکة في إيجاده مشارکة في إيجاد العدل الکامل السائد في اليوم الموعود.

وهذه المستويات الثلاثة، ممّـا يقتضيه العقائد الاسلامية العامّة المشترکة بين سائر المذاهب... بل ممّـا يقتضيه الاعتراف باليوم الموعود، في أيّ دين من الاديان.

4 - إنّ الفرد بمساهمته في إيجاد شرط الظهور، يساهم في إرضاء إمامه المهدي (عليه السلام) وجلب الراحة إليه... بالنسبة إلي الشعور بزيادة المؤمنين وقلّة العاصين، والمشارکة الحقيقيّة في الاعداد للهدف الکبير، وهذا المستوي خاصّ بالاُطروحة الامامية لفهم المهدي (عليه السلام).

فهذه هي الجهات الاساسيّة التي يجب أن يتّخذها الفرد، لکي يکون علي المستوي الاسلامي المطلوب للانتظار.


پاورقي

[1] الغيبة للنعماني: 112.

[2] أي تسمع ما يقول الحمقي.

[3] الغيبة للنعماني: 111.

[4] الغيبة للنعماني: 111.

[5] راجع الفصل المتقدّم من هذا الکتاب.