بازگشت

ما الحکمة من غيابه؟


لم يستتر شخص الامام الحجّة (عليه السلام) عن أبصار معاصريه إلاّ بتقدير من الله العزيز، والله تعالي لا يُسأل عمّـا يفعل وهم يُسألون، فلامر ما لا تدرکه عقولنا ببداهة، کانت الغيبة، وکانت عن إرادة حکيم لا شکّ أنّ في تقديره حکمة لا تنالها الافهام القاصرة، وسينکشف سرّها يوم الظهور المبارک.

روي الشيخ الصدوق بالاسناد عن عبد الله بن الفضل الهاشمي، قال: سمعت الصادق جعفر بن محمّد (عليه السلام) يقول: إنّ لصاحب هذا الامر غيبة لا بدّ منها، يرتاب فيها کلّ مبطل.

فقلت: ولم جعلت فداک؟

قال: لامر لم يؤذن لنا في کشفه.

قلت: فما وجه الحکمة في غيبته؟

قال: وجه الحکمة في غيبات من تقدّمه من حجج الله تعالي ذکره، إنّ وجه الحکمة في ذلک لا ينکشف إلاّ بعد ظهوره، کما لا ينکشف وجه الحکمة لما أتاه الخضر من خرق السفينة وقتل الغلام وإقامة الجدار لموسي (عليه السلام) إلاّ وقت افتراقهما.

يا بن الفضل، إنّ هذا الامر أمرٌ من أمر الله تعالي، وسرّ من سرّ الله، وغيب من غيب الله، ومتي علمنا أ نّه عزّ وجلّ حکيم صدّقنا بأنّ أفعاله وأقواله کلّها حکمة، وإن کان وجهها غير منکشف لنا [1] .

إذن علينا أن نتعبّد بالاعتقاد بغيبة الامام (عليه السلام) کما نتعبّد ونسلّم لکثير من



[ صفحه 507]



المسائل الشرعيّة دون أن نعرف بالتحديد ما هي العلّة منها وما هو سببها، وذلک لا نّنا اُمرنا بذلک من الصادق الامين محمّد المصطفي (صلي الله عليه وآله)، أو نوّه به کتاب الله العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

وقد ورد في توقيع عن الامام المهدي (عليه السلام) قال: فاغلقوا باب السؤال عمّـا لا يعنيکم، ولا تکلّفوا علم ما قد کفيتم، وأکثروا الدعاء بتعجيل الفرج، فإنّ ذلک فرجکم [2] .

وعليه لا يمکن البتّ في هذا الامر، نعم يمکن إيراد بعض الاسباب الواردة في الاحاديث الواصلة إلينا من أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) وکما يلي:

1 - قد دلّت بعض الاخبار علي أ نّه (عليه السلام) حينما يقوم ليس في عنقه بيعة لاحد، وعليه فلا بدّ من استتاره کي يتحرّر عن البيعة لاحد.

عن إبراهيم بن عمر اليماني، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، أ نّه قال: يقوم القائم وليس في عنقه بيعة لاحد [3] .

عن هشام بن سالم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) أ نّه قال: يقوم القائم وليس لاحد في عنقه عقد ولا عهد ولا بيعة [4] .

وورد عن الامام المهدي (عليه السلام) في توقيعه إلي إسحاق بن يعقوب، قال: وأمّا علّة ما وقع من الغيبة فإنّ الله عزّ وجلّ يقول: (يا أ يُّها الَّذينَ آمَنوا لا تَسْألوا عَنْ أشْياءَ إنْ تُبْدَ لَکُمْ تَسؤکُم) [5] ، إنّه لم يکن أحد من آبائي إلاّ وقد وقعت في عنقه



[ صفحه 508]



بيعة لطاغية زمانه، وإنّي أخرج حين أخرج ولا بيعة لاحد من الطواغيت في عنقي [6] .

2 - ودلّت بعض الروايات علي أ نّه لا بدّ من النظر في مسيرة الانبياء والمرسلين، فقد استتر نبيّنا محمّد (صلي الله عليه وآله) في شعب أبي طالب عدّة سنوات خوفاً من طواغيت قريش ومردتها، وکان يحميه عمّه أبو طالب، شيخ الابطح وسيّد الهاشميين، واستتر (صلي الله عليه وآله) قبلها في غار حرّاء، محافظة علي نفسه ورسالته، وهرباً ممّن کان يؤذيه في عبادته، ويقف في سبيل دعوته، وذلک حين قلّة المؤمنين بدعوته وفقدان الانصار، وکذلک فسّرت غيبة ولده المهدي (عليه السلام).

روي زرارة عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام)، أ نّه قال: إنّ للقائم غيبة قبل أن يقوم، قلت: ولِمَ ذلک؟ قال: إنّه يخاف، وأومأ بيده إلي بطنه، يعني القتل.

وفي رواية اُخري عنه (عليه السلام)، قال: يخاف علي نفسه الذبح [7] .

وعن المفضل بن عمر، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، أ نّه قال: إنّ لصاحب هذا الامر غيبة يقول فيها: (فَفَرَرْتُ مِنْکُمْ لَمَّـا خِفْتُکُمْ فَوَهَبَ لي رَبِّي حُکْماً) [8] .

وقد استتر إدريس (عليه السلام) عشرين سنة خوفاً من اُمّته الضالّة التي رفضت دعوة الحقّ وناصبته العداء، وقال موسي (عليه السلام) لقومه: (فَفَرَرْتُ مِنْکُمْ لَمَّـا خِفْتُکُمْ فَوَهَبَ لي رَبِّي حُکْماً وَجَعَلَني مِنَ المُرْسَلين). [9] وعليه فإنّ کلّ غيبة مهما طالت أو



[ صفحه 509]



قصرت، هي بسبب الخوف من الظالمين، وليس هو خوفاً عادياً من مواجة القتل، بل هو خوف علي حجّة الله الذي اصطفاه ربّه لاقامة دعائم الحقّ والعدل، وادّخره ليمحق الظلم ويقيم العدل حين تتمّ الموازين التي قدّرها ربّه لظهوره، وحين تقتضي الحکمة تأديب الطواغيت من الخلق.

ثمّ إنّ حال الامام المهدي (عليه السلام) تختلف عن حال آبائه (عليه السلام)، فمع أنّ السلطة کانت تضيق عليهم لتدفعهم عن مراتبهم ولتدفع الخطر عن ملکها، لکنّها کانت تترک متنفّساً لشيعتهم وتغضّ الطرف عن الاجتماع إليهم والاستماع منهم، ولو بشکل محدود، لتمتصّ ما عند شيعتهم من النقمة والسخط، أمّا الحال مع الامام الثاني عشر (عليه السلام) فتختلف کثيراً، ذلک لا نّهم يعلمون أنّ القائم (عليه السلام) هو المرصود لمعاملة الظالمين بلا هوادة ولا مهادنة، لاحياء ما اندرس من معالم القرآن والسنّة والعقيدة، والحاکمون کانوا له بالمرصاد منذ ولادته وقبل ذلک، وقد کانت محاصرة رجال السلطة لدار أبيه أثناء الحمل به، وبثّوا الارصاد والعيون وراءه لاغتياله قبل أن يبصر النور، حتّي إنّهم حين فشلوا في الکشف عنه، قبضوا علي نساء أبيه وجواريه، وحبسوهنّ أکثر من سنة بأمل أن تضع من کانت منهنّ حبلي، وروي أنّ اُمّه لمّـا سئلت عن المولود أنکرته، وادّعت حملاً بها لتغطّي علي حال الصبي، فأودعت في غياهب السجن، ولولا أنّ الله تعالي قد شغل السلطة، في ذلک العهد بثورة البصرة وصاحب الزنج، لمّـا أفلتت من أيديهم بعد ادّعائها الحمل المتوهّم [10] .

فثمّة اختلاف واضح بين حال الامام المهدي (عليه السلام) وحال آبائه (عليهم السلام)، فالامام المهدي (عليه السلام) مقدّر له إزالة الظلم والاستبداد، وإقامة دولة الحقّ والعدل،



[ صفحه 510]



وکان موقف آبائه (عليه السلام) سيّما بعد وقعة کربلاء المؤلمة، منحصراً بالامر بالمعروف والنهي عن المنکر، في إطار واجباتهم الرسالية التي تتضمّن تأصيل العقيدة الاسلاميّة الحقّة، وشرح الکتاب وتبيانه، وإقامة السنّة، ومع ذلک لم يسلموا من سجون الظالمين حتّي قضوا (سلام الله عليهم) بين مقتول ومسموم، فکيف إذا ظهر الامام المهدي (عليه السلام) وهم يعلمون أ نّه القائم بالسيف لازالة قواعد الظلم واستئصال الظالمين؟ فلا سبيل له (عليه السلام) إلاّ أن يتواري کما شاء له الله، وأن يعدّ العدّة ويتحيّن الفرصة والاذن من الله تعالي بالخروج، ليخرج بسيف عدل يقطع رقاب الظالمين.

3 - ولا يخفي أنّ غيبة الامام المهدي (عليه السلام) هي اختبار للمسلمين وتمحيص للمؤمنين، ومصيبة المسلمين في غيبته (عليه السلام) تکون دافعاً وواعزاً للتوجّه نحو الله تبارک وتعالي والانقطاع إليه لنصرة الحقّ وإصلاح المجتمع وتعجيل الفرج، وفي هذا ما فيه من تکميل للنفوس وتهذيب لصفات الکمال وإصلاح الغرائز فيها لتسير في مدارج الکمال.

اعتراض و جواب

وقد يقال: لم لا يخرج ويحول الله تعالي بينه وبين من يريدون قتله ما زال في عين الله وکنفه؟ وما زال مسلّحاً بعناية الله، فإنّ الاُمور تستقيم له بالقوّة، ويصير الناس بخروجه علي خير ممّـا هم عليه الان؟

نقول: والجواب عن ذلک واضح، ذلک أنّ الله تعالي جعل الناس في دار امتحان وتمحيص، وجعلهم مکلّفين، بعد أن بيّن لهم صراط الحقّ علي لسان أنبيائه وحججه، وخروجه (عليه السلام) علي الطريقة المثارة في السؤال، أمرٌ يتنافي مع تکليفنا



[ صفحه 511]



وتکليفه، إذ تصبح المسألة مسألة إله يواقع الناس في ساحة حرب ليکونوا مؤمنين رغم اُنوفهم، ولقد کان بين الناس الغابرين والحاضرين کثير من الاشرار الذين هم في دار امتحان، فمن آمن منهم بأوامر الله ونواهيه نجا، ومن استمرّ علي سيرته هلک، فهل يا تري لو خرج الامام (عليه السلام) يجد له أنصاراً صالحين بيننا اليوم، أم سنقول له: إذهب أنت وربّک فقاتلا إنّا ها هنا قاعدون؟ فتصبح المسألة مسألة جبر وتدخّل إلهي لنصرته لارغام الناس علي الاسلام! ولا دخل فيها للانسان المکلّف بأن يختار لنفسه صفّ الاخيار أو صفّ الاشرار.

ومعلوم أنّ الله تعالي أقدر علي إبادة الظالمين من الامام في أيّ وقت شاء، لکنّه تعالي أمهلهم وترک لهم سبيل اختيار مصائرهم في دار الدنيا، حتّي يخرج لهم إماماً منقذاً، وهو أقدر علي هدايتهم أو علي البطش بهم، ذلک أنّ الله جلّ وعلا لا يعاجل بالعقوبة، ولا يقال له: لم وکيف ومتي، هو سبحانه يمهل العباد رأفةً بهم، ويبعث إليهم من يهديهم وينذرهم، ويستعمل معهم جميع الوسائل التي تصلح شأنهم، ولا يفعل إلاّ ما فيه الرحمة واللطف، فلا ينبغي أن تطرح عليه الحلول، فأمره بغيبة الامام (عليه السلام) کأمره بظهوره، وکلّ أمر منهما واحد من جملة ألطافه بالناس، والناس علي کلّ حال في قبضته، لا يخرجون عن سلطانه، ولا يهربون من فوق أرضه، ولا من تحت سمائه (فَمَهِّلِ الکافِرينَ أمْهِلْهُمْ رُوَيْداً) [11] .

اعتراض آخر

وقد يقال: لِمَ لَمْ يبق ظاهراً، ويعتزل الحکم الدنيوي کآبائه، ويأمر بالقسط



[ صفحه 512]



والعدل، ويصلح ما شاءت له ظروف الاصلاح في ظلّ تأييد الله وتسديده، إلي أن يسير بالانسانية إلي طريق الهدي ولو في مدي ألف عام؟

نقول: هکذا کان شأن آبائه (عليهم السلام) جميعاً، ولم يمت واحد منهم إلاّ بالقتل أو السمّ، ولم يستکمل واحد منهم عمره طبيعياً لسلامة بنيانهم وصفاء طينة أجسادهم الشريفة، وقد سبق في علم الله تعالي أ نّه لا بدّ من خروجه بالسيف بعد أن يستحکم الظلم من أعمال أهل الفساد، وقد رصده الله تعالي لامره هذا، فتکليفه غير تکليف آبائه (عليهم السلام) الذين ماتوا بالقتل والسمّ لا نّهم أمروا بالقسط والعدل.

اعتراض آخر

وقد يقال: لماذا کان موجوداً ولا يسعي للحکم وردّ الانسانية عن العمه والحيرة والظلم؟

نقول: هو إشکال جري بحقّ آبائه (عليهم السلام) أيضاً، فإنّهما کانوا ظاهرين ولم يحکموا ولا سعوا للحکم الدنيوي، حتّي إنّ ولاية العهد للامام الرضا (عليه السلام) قد قبلها من المأمون الذي تهدّده بالقتل إن هو رفضها، وأظهر المأمون للناس خلاف ما يبطن، لکي يرضي عواطف شيعته بنصبه ولياً للعهد، ثمّ أمره بالخروج إلي مرو في خراسان... ثمّ لحق به إلي هناک، فدسّ إليه السمّ في العنب وقفل راجعاً يبکيه.

فقد أزاح الحکام آباءه عن مراتبهم التي رتّبهم الله فيها، فسکتوا ولم يحاربوا حرصاً علي إکمال بيان السنّة المطهّرة وترسيخ العقيدة، اللهمّ إلاّ ما کان من حکم أمير المؤمنين (عليه السلام) في الکوفة، ذلک الحکم القصير المدّة، الذي قاتل فيه علي التأويل کما قاتل علي التنزيل مع الرسول المصطفي (صلي الله عليه وآله)، قاتل (عليه السلام) الناکثين والقاسطين



[ صفحه 513]



والمارقين، والناس أبداً ناکثون أو قاسطون أو مارقون، أمس واليوم وفي کلّ زمان، إذن فلا بدّ من حرب تجتاح کلّ ظلم في آخر الزمان، وتقيم أرکان دولة الحقّ المنتظرة.

وأخيراً فإنّ غياب الامام المهدي (عليه السلام) تأديب لاهل زمان الغيبة، وإعلان صارخ لهم بأ نّهم ليسوا في وضع يصلح لان يکونوا من الاُمناء، فضلاً عن عدم أهليّتهم لنصرته، فلا بدّ من أن يصلحوا أنفسهم، ويسيروا علي النهج الذي يريده، وهو نهج جدّه المصطفي (صلي الله عليه وآله) ونهج آبائه (عليهم السلام)، وغيابه (عليه السلام) امتحان لتمحيص المؤمنين الصابرين وتمييزهم عن غيرهم، وذلک لتتهيّأ النفوس لنصرته ولقبول قول المصلح الذي يحکم الدنيا بالعدل بعد تجرّع غصص الظلم [12] .


پاورقي

[1] منتخب الاثر: 266 / 1.

[2] منتخب الاثر: 267، بحار الانوار 53: 181.

[3] غيبة النعماني: 126.

[4] غيبة النعماني: 114 و 127.

[5] المائدة: 101.

[6] بحار الانوار 53: 181.

[7] کمال الدين: 481.

[8] غيبة النعماني: 116.

[9] الشعراء: 21.

[10] راجع إعلام الوري: 437، غيبة الطوسي: 74.

[11] الطارق: 7.

[12] يوم الخلاص: 115 ـ 118 بتصرّف.