موقف جعفر الکذاب من الامام
تؤکّد الروايات الکثيرة أ نّه لمّـا شبّ جعفر بن الامام الهادي (عليه السلام) وترعرع، انحرف عن أخلاق الاسلام وتعاليه، وعن الخطّ الرسالي الذي کان آباؤه (عليهم السلام) قد
[ صفحه 500]
وضعوه بين أيدي المسلمين لاتمام الحجّة عليهم، وإنقاذهم ممّـا کانوا يعانون من شدّة وبلاء، واختار لنفسه منادمة الحکّام وأجهزتهم، والانغماس بکلّ ما من شأنه الابتعاد عن الدين کالخمور والملذّات المحرّمة والمنکرات، حتّي أنّ والده الامام الهادي (عليه السلام) حذّر أصحابه من جعفر ودعاهم إلي أن يتجنّبوه.
روي جماعة من أصحابنا منهم محمّد بن عبد الحميد البزّاز وأبو الحسين محمّد بن يحيي، ومحمّد بن ميمون الخراساني، والحسين بن مسعود الفزاري، قالوا: إنّ سيّدنا أبا الحسن الهادي (عليه السلام) کان يقول لهم: تجنّبوا ابني جعفراً، فإنّه منّي بمنزلة نمرود [کنعان] من نوح، الذي قال الله عزّ وجلّ فيه: (فَقَالَ رَبِّ إنَّ ابْني مِنْ أهْلي) فقال الله: (يا نوحُ إنَّهَ لَيْسَ مِنْ أهْلِکَ إنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِح) [1] .
وقالوا: إنّ أبا محمّد العسکري (عليه السلام) کان يقول لنا بعد أبي الحسن (عليه السلام): الله الله أن يظهر لکم أخي جعفر علي سرٍّ ما، مثلي ومثله إلاّ مثل هابيل وقابيل ابني آدم، حيث حسد قابيل هابيل علي ما أعطاه الله لهابيل من فضله فقتله، ولو تهيّأ لجعفر قتلي لفعل، ولکن الله غالبٌ علي أمره [2] .
ويستفاد من الاخبار أنّ لهذا الرجل ثلاث نشاطات منحرفة ومضادّة للحقّ وللامام المهدي (عليه السلام).
أ - ادّعاؤه الامامة بعد أخيه الحسن بن علي العسکري (عليه السلام)، وقد لجأ إلي عدّة وسائل في هذا السبيل، منها: محاولته الصلاة علي أخيه، ومنها توسّطه عند الدولة في أن تجعل له مرتبة أخيه في الزعامة علي القواعد الشعبية الموالية، وقد باء في کلتا
[ صفحه 501]
المحاولتين بالفشل الذريع.
2 - إنکاره وجود الوريث الشرعي للامام العسکري (عليه السلام)، ومن ثمّ ادّعاؤه استحقاق الترکة، واستيلاؤه عليها بإذن من السلطات الحاکمة.
3 - الايعاز إلي الدولة باحتمال وجود الامام المهدي (عليه السلام)، فتبدأ سلسلة من المطاردات والاعتقالات، وتنتهي الحملة باضطهاد الموجودين من عائلة الامام العسکري (عليه السلام) وعدم العثور علي الامام المهدي (عليه السلام)، وهذا هو الذي عبّرت عنه الاخبار بکشف ما أوجب الله کتمانه وستره.
ولقد کان عامّة الناس يعرفونه بالفجور والفسق فضلاً عن خواصّهم.
فقد روي عن أحمد بن عبيد الله بن خاقان وزير المعتمد العباسي، وقد سئل عن جعفر وعن أخيه أبي محمّد الحسن العسکري (عليه السلام) قال: ومن هو جعفر فيُسأل عن خبره أو يُقرن به؟! ومضي أحمد بن الوزير يقول: ولمّـا دُفِن أخوه الحسن العسکري (عليه السلام) جاء إلي أبي وقال له: اجعل لي مرتبة أبي وأخي، وأوصل لک في کلّ سنة عشرين ألف دينار. فزبره أبي وأسمعه ما يکره. وقال له: يا أحمق، إنّ السلطان قد جرّد سيفه وسوطه في الذين زعموا أنّ أباک وأخاک أئمّة ليردّهم عن ذلک، فلم يقدر عليه، وجهد أن يزيل أباک وأخاک عن تلک المرتبة فلم يتهيّأ له ذلک، فإن کنت عند شيعة أبيک وأخيک إماماً، فلا حاجة بک إلي سلطان يرتّبک مراتبهما، ولا غير سلطان، وإن لم تکن عندهم بهذه المنزلة لم تنلها بنا [3] .
وقال أبو الاديان خادم الامام العسکري (عليه السلام) الذي کان يتولّي نقل کتبه ورسائله إلي الشيعة في مختلف المناطق، وکان قد أرسله إلي المدائن وحمله رسائل
[ صفحه 502]
إلي وجوه شيعته فيها، ولمّـا رجع وجد الامام قد توفّي وأخاه جعفر واقفاً بباب الدار يستقبل المعزّين والمهنّئين له بالامامة بعد أخيه، فقال کما جاء في الرواية عنه: إن يکن هذا هو الامام بعد الحسن بن علي فقد بطلت الامامة، وکان يعرفه بتعاطي المنکرات والاستهتار بأحکام الله سبحانه.
وکانت السلطة جادّة في مساندة جعفر وإحلاله محلّ أخيه، وقد قدّمته للصلاة عليه لهذه الغاية، ولمّـا وقف علي الجنازة فوجئ الناس بصبيّ لم يتجاوز السادسة من عمره، يخرج من الدار ويأخذ برداء عمّه إلي الوراء وهو يقول: تأخّر يا عم فأنا أحقّ منک بالصلاة علي أبي، فيتأخّر جعفر بدون أن تبدر منه أية معارضة ويربد وجهه وتعلوه صفرة تنمّ عن الخيبة والفشل.
ومع تلک الصدمة العنيفة التي اُصيب بها بظهور الوريث الشرعي لاخيه الذي کان يجهله عامّة الناس وتنحيته عن الصلاة عليه بحضور تلک الحشود المجتمعة لتشييع الجثمان الطاهر إلي مثواه الاخير، فقد بقي في نفسه شيء من الامل أن يتمّ له الاستيلاء علي مرکز أخيه ولو بواسطة السلطة الحاکمة وأجهزتها التي کانت تعمل لصالحه وتوجّه الوافدين وجباة الاخماس إليه.
لکن جهوده الخاصّة وجهود الحاکمين وأجهزتهم تعثّرت وباءت بالفشل، ذلک لانّ وکلاء الائمة وخاصّتهم وحتّي عامّة الشيعة يعرفون أنّ الذين اختارهم الله للامامة وقيادة الاُمّة، قد حباهم الله سبحانه بما يتعسّر علي غيرهم من الناس، وقد ادّعاها قبله اُناس بدافع الانانية وحبّ الشهرة وبتحريض الحاکمين ومساندتهم، ولکنّهم سرعان ما انکشفوا علي حقيقتهم وارتدّوا علي أعقابهم خاسرين.
ولم يکن جعفر الکذّاب بأوفر حظّاً من اُولئک الادعياء، لا سيّما وهو بالاضافة إلي جهله، معروف بالاستهتار بالدين وممارسة المنکرات ورکوب
[ صفحه 503]
الموبقات، ورجع شيعة آبائه إلي الامام الشرعي بعد أن عرفوا سيرة جعفر وجهله وفقدانه مقوّمات الامامة ودلائلها المعروفة لديهم، فضلاً عمّـا أظهر لهم الامام المهدي (عليه السلام) من الدلائل وما کان يظهره أبوه وأجداده (عليهم السلام) من قبله.
روي الخصيبي عن جماعة من أصحابنا، قالوا: إنّ الشيعة بعد أبي محمّد العسکري (عليه السلام) زادوا في هجره وترکوا السلام عليه، وقالوا: لا تقيّة بيننا وبينه، فنحمل له، وإن نحن لقيناه وسلّمنا عليه ودخلنا داره وذکرناه، يضلّ الناس فيه، ويعملون علي ما يرونا نفعله، فنکون بذلک من أهل النار [4] .
وجاء في رواية أبي الاديان المتقدّمة، وهو الذي کان يحمل الکتب والرسائل من وإلي الامام أبي محمّد العسکري (عليه السلام)، أ نّه لمّـا دُفِن الامام العسکري (عليه السلام) قال لي ولده القائم (عليه السلام): يا بصري، هات أجوبة الکتب التي معک، فدفعتها إليه، وقلت في نفسي: هذه بيّنتان: الصلاة علي أبيه، وعلمه بما أحمله من أجوبة الکتب، ولم يکن قد علم بذلک أحدٌ من الناس.
قال: ثمّ خرجت إلي جعفر بن علي وجلست عنده، وبينما نحن جلوس، وإذا بنفر من قم يقصدون الامام أبا محمّد (عليه السلام)، ولم يکونوا قد عرفوا بوفاته إلاّ بعد دخولهم سامراء، فقالوا: فمن نعزّي؟ فأشار الناس إلي أخيه جعفر، فدخلوا عليه وعزّوه بأخيه وهنّوه بالامامة، ثمّ قالوا له: إنّ معنا کتباً وأموالاً، فإذا أخبرتنا ممّن الکتب وعن مبلغ المال دفعناها إليک، فقام ينفض ثيابه وهو يقول: تريدون منّا أن نعلم الغيب!! فلم يدفعوا إليه شيئاً.
وفيما هو في حيرة من أمرهم، وإذا بالخادم يخرج من دار الامام (عليه السلام) فقال
[ صفحه 504]
لهم: معکم کتب فلان وفلان، وهميان فيه ألف دينار، عشرة دنانير منها مطليّة، فدفعوا إليه الکتب والاموال، وقالوا: إنّ الذي أخبرک بذلک هو الامام بعد أبي محمّد (عليه السلام).
فاغتاظ جعفر من ذلک، ودخل علي المعتمد العباسي، وقصّ عليه ما جري للقمّيين، فوجّه معه المعتمد أجهزته فقبضوا علي صقيل اُمّ المهدي (عليه السلام) وطالبوها به، فأنکرته، فسلّموها إلي ابن أبي الشوارب القاضي، ثمّ تشاغلوا عنها بموت عبيد الله ابن خاقان فجأة، وخروج صاحب الزنج في البصرة، وخرجت من بين أيديهم.
وعن عليّ بن سنان، عن أبيه، أ نّه قال: لمّـا قبض أبو محمّد الحسن العسکري (عليه السلام)، وقدم بالاموال وفود من قم والجبال، ولم يکن عندهم علم بوفاة الحسن العسکري (عليه السلام)، فلمّـا قدموا سامراء، وعلموا بوفاته، سألوا عن وارثه، فقيل لهم: أخوه جعفر بن علي، وکان قد خرج متنزّهاً في دجلة مع المغنّين والغلمان، فلمّـا رجع دخلوا عليه وقالوا: يا سيّدنا، نحن من قم وجهاتها، وکنّا نحمل إلي سيّدنا أبي محمّد الاموال، فخبّرنا عن مقدارها ومن أين جمعت؟
فقال لهم جعفر: کذبتم، تقولون علي أخي ما لا يفعله، وهذا من علم الغيب الذي لا يعلمه غير الله، فلمّـا سمع القوم کلامه، جعل بعضهم ينظر إلي بعض، ثمّ قال لهم: ادفعوا المال. فقالوا: إنّا قوم مستأجرون، وإنّا لا نسلّم المال إلاّ بالعلامات التي کنّا نعرفها من أخيک، فإن کنت إماماً، فبرهن لنا، وإلاّ رددنا الاموال لاصحابها.
فقام جعفر ودخل علي الخليفة واستعداه عليهم، فأمرهم بدفع الاموال إلي جعفر، فقالوا: إنّا قوم مستأجرون، وقد اُمرنا أن لا ندفع المال إلاّ بعلامة ودلالة، کما جرت العادة مع أخيه، وکان يصف لنا الدنانير وأصحابها ومقدارها، فإن يکن هذا صاحب الامر من بعده، فليقم لنا ما کان يقيمه أخوه، وإلاّ رددنا المال لاصحابه.
ثمّ إنّهم خرجوا من سامراء، وفيما هم خارج البلدة، وإذا بشابّ قد لحق بهم،
[ صفحه 505]
وقال: يا فلان ويا فلان، أجيبوا مولاکم، فرجعوا ودخلوا علي الامام (عليه السلام)، فأخبرهم بالمال ومقداره ومن أرسله، فدفعوا إليه المال، ثمّ أوصاهم بأن لا يحملوا إلي سامراء بعد ذلک شيئاً، وأن يرسلوا الاموال والکتب إلي نوّابه في بغداد.
وأضاف الراوي: أنّ جعفر حمل إلي الخليفة مبلغاً کبيراً من المال، وطلب منه أن يجعل له منزلة أخيه. فقال له: إنّ منزلة أخيک لم تکن بنا، وکنّا نجهد في حطّ منزلته ويأبي الله إلاّ أن يزيده رفعة، لما کان فيه من حسن السمت والعلم والعبادة، فإن کنت عند شيعته بمنزلته فلا حاجة بک إلينا، وإن لم تکن کذلک فلا نغني عنک شيئاً.
ولا ريب أنّ الحکّام وأجهزتهم قد بذلوا أقصي ما لديهم من جهد لارجاع الشيعة إلي جعفر لا نّه کان من أعوانهم، ويجلس علي موائدهم، وقد ساعدتهم الظروف الغامضة التي کانت تحيط بالامام المهدي (عليه السلام) واختفائه عن الناس علي الدعوة لعمّه جعفر بحجّة أ نّه الوريث الوحيد لابيه وأخيه، في حين أنّ جعفراً لم يکن يجهل وجود الامام (عليه السلام) وحتّي أنّ الحاکمين کانوا يعرفون ذلک، ولکنّ الله سبحانه کان لهم بالمرصاد، فأحبط جميع مخطّطاتهم وردّ الذين کفروا بغيظهم لم ينالوا شيئاً، ورجع إلي الامام (عليه السلام) شيعة آبائه، وظلّوا علي اتصال به خلال الغيبة الصغري بواسطة سفرائه ووکلائه کما تؤکّد ذلک الروايات.
ولقد أذاق الله تعالي جعفراً الذلّ والفقر في الدنيا، ولعذاب الاخرة أشدّ وأخزي، فلقد روي أ نّه قد بلغ به الفقر حدّاً إلي أن أمرت الجدّة، وهي جدّة أبي محمّد العسکري (عليه السلام) أن يجري عليه من مالها الدقيق واللحم والشعير والتبن لدوابه وکسوة لاولاده واُمّهاتهم وحشمه وغلمانه ونفقاتهم [5] .
[ صفحه 506]
پاورقي
[1] سورة هود 11: 45 ـ 46.
[2] مدينة المعاجز 8: 134 / 2736.
[3] الارشاد 2: 324.
[4] مدينة المعاجز 8: 135.
[5] مدينة المعاجز 8: 135.