تصرف السلطة و تفتيشها الدار
استشهد الامام الحسن العسکري (عليه السلام) في زمان المعتمد أحمد بن جعفر المتوکّل العباسي الذي تولّي الخلافة سنة 256 هـ، وکان المعتمد شديد العداوة والحقد علي آل البيت (عليهم السلام)، فعانوا محنة عصيبة ومعاناة لا تطاق وملاحقات ظالمة، وحدثت في أيامه ثورات وانتفاضات علوية کثيرة سجّلتها کتب التأريخ وذکرت أسماء الطالبيين من ذرية الحسن والحسين (عليهما السلام) وجعفر بن أبي طالب (رضي الله عنه) الذين قتلوا أو حبسوا أو ماتوا بالسجن والتعذيب [1] .
ومن أعمال المعتمد المشينة بعد شهادة الامام الحسن العسکري (عليه السلام) أمره شرطته وعمّـاله بتفتيش دار الامام (عليه السلام) وإلقاء القبض علي اُمّ القائم (عليه السلام) ومطالبتها بالحجّة (عليه السلام)، واعتقال جواري الامام العسکري (عليه السلام) وحلائله، علي الرغم من أنّ
[ صفحه 49]
جعفر الکذّاب بن علي الهادي (عليه السلام) قد ادّعي أوّلاً أنّ الامام العسکري (عليه السلام) لم يخلّف ولداً وأ نّه وارث أخيه العسکري (عليه السلام).
ولا ريب أنّ مداهمة دار الامام (عليه السلام) بعد وفاته مباشرة، يدلّ علي تيقّن السلطة من ولادة الامام المهدي (عليه السلام) وهو الثاني عشر من أئمة أهل البيت (عليهم السلام) الذي سيملا الدنيا قسطاً وعدلاً بعدما ملئت ظلماً وجوراً، لما سبق من علمهم، ولما تواتر من الاخبار في ولادته (عليه السلام)، ولهذا جاءت تبحث عنه (عليه السلام)، لا لاجل إعطاء ميراث الامام العسکري (عليه السلام) لمن يستحقّه من بعده، بل للقبض عليه والفتک به بعد أن لم يجدوا لذلک سبيلاً في حياة الامام العسکري (عليه السلام)، ولهذا فإنّ الخوف علي حياته الشريفة کان من أسرار غيبته (عليه السلام)، ولذلک نري الامام الحسن العسکري (عليه السلام) کان حريصاً علي أن لا ينتشر خبر ولادة المهدي (عليه السلام) إلاّ بين الخلّص من شيعته ومواليه، متّخذاً التدابير اللازمة لصيانة ولده الموعود لاقامة دولة الحقّ، ويحذّر شيعته من الاختلاف بعد وفاته (عليه السلام).
وفي ما يلي بعض الاخبار التي تؤيّد ما ذکرناه:
1 - روي الشيخ الصدوق بالاسناد عن أبي الحسن علي بن الحسن بن علي بن محمّد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليه السلام)، قال: سمعت أبا الحسين الحسن ابن وجناء يقول: حدّثنا أبي، عن جدّه، أ نّه کان في دار الحسن بن علي (عليه السلام)، فکبستنا الخيل، وفيهم جعفر بن علي الکذّاب، واشتغلوا بالنهب والغارة، وکانت همّتي في مولاي القائم (عليه السلام)، قال: فإذا أنا به (عليه السلام) قد أقبل وخرج عليهم من الباب، وأنا أنظر إليه، وهو (عليه السلام) ابن ستّ سنين، فلم يره أحدٌ حتّي غاب [2] .
[ صفحه 50]
2 - وروي بالاسناد عن محمّد بن الحسين بن عبّاد، قال: قدمت اُمّ أبي محمّد (عليه السلام) من المدينة، واسمها حديث، حين اتّصل بها الخبر إلي سرّ من رأي، فکانت لها أقاصيص يطول شرحها مع أخيه جعفر ومطالبته إيّاها بميراثه، وسعايته بها إلي السلطان، وکشفه ما أمر الله عزّ وجلّ بستره، فادّعت عند ذلک صقيل أ نّها حامل، فحُملت إلي دار المعتمد، فجعل نساء المعتمد وخدمه، ونساء الموفّق وخدمه، ونساء القاضي ابن أبي الشوارب يتعاهدون أمرها في کلّ وقت، ويراعون، إلي أن دهمهم أمر الصفّار وموت عبيد الله بن يحيي بن خاقان بغتة، وخروجهم من سرّ من رأي، وأمر صاحب الزنج بالبصرة وغير ذلک، فشغلهم ذلک عنها [3] .
وهذا الحديث يدلّ علي أنّ جعفر الکذّاب کشف أمر الامام الحجّة (عليه السلام) أمام رجال السلطة، فتصرّفوا علي ضوء مدّعاه، وهو أيضاً يدلّ علي المراد، حيث إنّه يعني أنّ جعفر الکذّاب کان علي علم بولادته (عليه السلام)، وإنّ إقدام السلطة علي استدعاء اُمّه وتعاهد أمرها، وادّعائها الحمل حفظاً عليه، کلّها مؤشّرات واضحة لتيقّن السلطة من وجود المولود.
3 - وروي بالاسناد عن أبي الاديان - في حديث - قال: قدم نفر من قم، فسألوا عن الحسن بن علي (عليه السلام) فعرفوا موته، فقالوا: من نعزّي؟ فأشار الناس إلي جعفر بن علي، فسلّموا عليه وعزّوه وهنّوه، وقالوا: إنّ معنا کتباً ومالاً، فتقول ممّن الکتب؟ وکم المال؟ فقام ينفض أثوابه ويقول: تريدون منّا أن نعلم الغيب.
قال: فخرج الخادم فقال: معکم کتب فلان وفلان وفلان، وهميان فيه ألف
[ صفحه 51]
دينار، وعشرة دنانير منها مطليّة، فدفعوا إليه الکتب والمال وقالوا: الذي وجّه بک لاخذ ذلک هو الامام، فدخل جعفر بن عليّ علي المعتمد، وکشف له ذلک، فوجّه المعتمد بخدمه فقبضوا علي صقيل الجارية فطالبوها بالصبيّ فأنکرته، وادّعت حبلاً بها لتغطّي حال الصبيّ، فسُلّمت إلي ابن أبي الشوارب القاضي، وبغتهم موت عبيد الله بن يحيي بن خاقان فجأة، وخروج صاحب الزنج بالبصرة، فشغلوا بذلک عن الجارية، فخرجت عن أيديهم، والحمد لله ربّ العالمين [4] .
4 - وقال الشيخ المفيد (رحمه الله) في ذکر وفاة الامام الحسن العسکري (عليه السلام): وخلّف ابنه المنتظر لدولة الحقّ، وکان قد أخفي مولده وستر أمره، لصعوبة الوقت، وشدّة طلب سلطان الزمان له، واجتهاده في البحث عن أمره، ولمّـا شاع من مذهب الشيعة الاماميّة فيه، وعرف من انتظارهم له، فلم يُظهِر ولده (عليه السلام) في حياته ولا عرفه الجمهور بعد وفاته.
وتولّي جعفر بن عليّ أخو أبي محمّد (عليه السلام) أخذ ترکته، وسعي في حبس جواري أبي محمّد (عليه السلام) واعتقال حلائله، وشنّع علي أصحابه بانتظارهم ولده وقطعهم بوجوده والقول بإمامته، وأغري بالقوم حتّي أخافهم وشرّدهم، وجري علي مخلّفي أبي محمّد (عليه السلام) بسبب ذلک کلّ عظيمة، من اعتقال وحبس وتهديد وتصغير واستخفاف وذلّ، ولم يظفر السلطان منهم بطائل.
وحاز جعفر ظاهر ترکة أبي محمّد (عليه السلام)، واجتهد في القيام عند الشيعة مقامه، فلم يقبل أحد منهم ذلک ولا اعتقده فيه، فصار إلي سلطان الوقت يلتمس مرتبة
[ صفحه 52]
أخيه، وبذل مالاً جليلاً، وتقرّب بکلّ ما ظنّ أ نّه يتقرّب به فلم ينتفع بشيء من ذلک [5] .
ومن مجمل ما تقدّم يتّضح أنّ أحد الاهداف الکبري للسلطة آنذاک هو القبض علي الامام (عليه السلام) لا نّها تعلم أنّ وجوده (عليه السلام) معناه تهديد لسلامة حکمهم، ومن هنا جاءت محاولاتهم المستميتة لتحصين دولتهم ضدّ خطره، وتجريد الحملات للقبض عليه، والتجسّس المستمرّ من قبل جميع الحکّام المعاصرين لاحداث تلک الفترة لکشف مکان اختفائه (عليه السلام) والقبض عليه، وجميع هذه التحرّکات تدلّ علي ولادته واختفائه (عليه السلام) عن أعين السلطان بإذن الله تعالي ومشيئته.
پاورقي
[1] راجع مقاتل الطالبيين: 670 ـ 689، وتأريخ اليعقوبي 2: 506 ـ دار صادر، بيروت.
[2] کمال الدين: 473 / 25، بحار الانوار 52: 47 / 33.
[3] کمال الدين: 474.
[4] کمال الدين: 476.
[5] الارشاد 2: 336.