المنکرون لاحاديث المهدي
إنّ الاعتقاد بظهور الامام المهدي (عليه السلام) في آخر الزمان هو من الاُمور الثابتة في قطعيّ السنّة، وهو من الحقّ الذي لا يمکن العدول عنه أو التردّد فيه أو إنکاره، إذ أنّ عمدة أهل العلم في إثبات ذلک إنّما يرجع إلي الاحاديث الواردة عن الرسول (صلي الله عليه وآله)، ولا مجال للرأي فيها، لانّ سبيلها من لا ينطق عن الهوي إن هو إلاّ وحي يوحي، ولا نّها من الاُمور التي لا تزال بظهر الغيب.
ولم ينکر أحاديث المهدي (عليه السلام) أحدٌ من علماء العامة المتقدّمين إلاّ من لا يعتدّ به أو من لم يکن من أهل العناية بالحديث، ممّن تمسّکوا بذرائع واهية، أهمّها خلوّ صحيح البخاري ومسلم من أحاديث المهدي (عليه السلام)، ومن هؤلاء أبو محمّد بن الوليد البغدادي، الذي تمسّک بحديث ضعيف منکر مفاده أن لا مهدي إلاّ عيسي بن مريم، ومنهم ابن خلدون الذي ضعّف بعض أحاديث المهدي (عليه السلام) الواردة في کتب العامّة.
وتابع ابن الوليد البغدادي وابن خلدون بعض المتأخّرين کأحمد أمين وأبو زهرة ومحمّد فريد وجدي وغيرهم ممّن أنکروا الاحاديث الدالّة علي الامام المهدي (عليه السلام) وقالوا: إنّ البخاري ومسلماً لم يرويا حديثاً في المهدي [1] .
قال الشيخ عبد المحسن العباد [2] : سيکون الکلام حول هذا الموضوع
[ صفحه 315]
لامرين:
الاوّل: أنّ الاحاديث الواردة في المهدي (عليه السلام) لم ترد في الصحيحين علي وجه التفصيل، بل جاءت مجملة، وقد وردت في غيرهما مفسّرة لما فيهما، فقد يظنّ ظانّ أنّ ذلک يقلّل من شأنهما، وذلک خطأ واضح، فالصحيح بل الحسن في غير الصحيحين مقبول معتمد عند أهل الحديث.
الثاني: إنّ بعض الکتّاب في هذا العصر أقدم علي الطعن في الاحاديث الواردة في المهدي (عليه السلام) بغير علم، بل جهلاً أو تقليداً لاحد لم يکن من أهل العناية بالحديث.
وقد اطّلعت علي تعليق لعبد الرحمن محمّد عثمان علي کتاب تحفة الاحوذي، الذي طبع أخيراً في مصر، قال في الجزء السادس - في باب ما جاء في الخلفاء في تعليقته -: يري الکثير من العلماء أنّ کلّ ما ورد من أحاديث عن المهدي، إنّما هو موضع شکّ، وأ نّها لا تصحّ عن رسول الله (صلي الله عليه وآله)، بل إنّها من وضع الشيعة.
وقال معلّقاً بشأن المهدي (عليه السلام) في باب ما جاء في تقارب الزمن وقصر الامل، في الجزء المذکور: ويري الکثير من العلماء الثقات الاثبات أنّ ما ورد في أحاديث خاصّة بالمهدي، ليست إلاّ من وضع الباطنية والشيعة وأضرابهم، وأ نّه لا تصحّ نسبتها إلي الرسول (صلي الله عليه وآله).
بل لقد تجرّأ بعضهم إلي ما هو أکثر من ذلک، فنجد محيي الدين عبد الحميد في تعليقته علي الحاوي للفتاوي للسيوطي، يقول في آخر جزء في العرف الوردي في أخبار المهدي، الصفحة 166 من الجزء الثاني: يري بعض الباحثين أنّ کلّ ما ورد عن المهدي وعن الدجّال من الاسرائيليات.
لهذين الامرين، ولکون الواجب علي کلّ مسلم ناصح لنفسه أ لاّ يتردّد في
[ صفحه 316]
تصديق الرسول (صلي الله عليه وآله) فيما يخبر به، رأيت أن يکون الکلام حول هذا الامر کما قلت، تحت عنوان: عقيدة أهل السنّة والاثر في المهدي المنتظر [3] .
وقال: إنّي لم أقف علي تسمية أحد في الماضين أنکر أحاديث المهدي، أو تردّد فيها، سوي رجلين اثنين:
أمّا أحدهما: فهو أبو محمّد بن الوليد البغدادي، الذي ذکره ابن تيمية في منهاج السنّة، وستأتي حکاية کلام ابن تيمية عنه، وأ نّه قد اعتمد علي حديث «لا مهدي إلاّ عيسي بن مريم» وقال ابن تيمية: وليس ممّـا يعتمد عليه لضعفه. وسبق في أثناء الکلام الذين عنهم أ نّهم لو صحّ هذا الحديث لکان الجمع بينه وبين أحاديث المهدي ممکناً. ولم أقف علي ترجمة لابي محمّد المذکور.
وأمّا الثاني: فهو عبد الرحمن بن خلدون المغربي المؤرّخ المشهور، وهو الذي اشتهر بين الناس عنه تضعيفه لاحاديث المهدي. وقد رجعت إلي کلامه في مقدّمة تأريخه، فظهر لي منه التردّد لا الجزم بالانکار، وعلي کلّ حال، فإنکارها أو التردد في التصديق بما دلّت عليه شذوذ عن الحقّ، ونکوب عن الجادّة المطروقة، وقد تعقّبه الشيخ صديق حسن في کتابه الاذاعة حيث قال: لا شکّ أنّ المهدي يخرج في آخر الزمان من غير تعيين لشهر أو عام، لما تواتر من الاخبار في الباب، واتّفق عليه جمهور الاُمّة خلفاً عن سلف، إلاّ من لا يعتدّ بخلافه.
وقال: لا معني للريب في أمر ذلک الفاطمي الموعود، والمنتظر المدلول عليه بالادلّة، بل إنکار ذلک جرأة عظيمة في مقابلة النصوص المستفيضة المشهورة، البالغة إلي حدّ التواتر.
[ صفحه 317]
ولي ملاحظات علي کلام ابن خلدون أري أن اُشير إليها هنا:
الاُولي: أ نّه لو حصل التردّد في أمر المهدي من رجل له خبرة بالحديث، لاعتبر ذلک زللاً منه، فکيف إذا کان من الاخباريين الذين هم ليسوا من أهل الاختصاص؟
وقد أحسن الشيخ أحمد شاکر في تخريجه لاحاديث المسند حيث قال: أمّا ابن خلدون فقد قفا ما ليس له به علم، واقتحم قحماً لم يکن من رجالها. وقال: إنّه تهافت في الفصل الذي عقده في مقدّمته للمهدي تهافتاً عجيباً، وغلط أغلاطاً واضحة. وقال: إنّ ابن خلدون لم يحسن قول المحدّثين: الجرح مقدّم علي التعديل، ولو اطّلع علي أقوالهم وفقهها ما قال شيئاً ممّـا قال.
الثانية: صدّر ابن خلدون الفصل الذي عقده في مقدّمته للمهدي بقوله: اعلم أنّ في المشهور بين الکافة من أهل الاسلام علي ممرّ الاعصار أ نّه لا بدّ في آخر الزمان من ظهور رجل من أهل البيت يؤيّد الدين، ويظهر العدل، ويتبعه المسلمون، ويستولي علي الممالک الاسلامية، ويسمّي بالمهدي، ويکون خروج الدجّال وما بعده من أشراط الساعة الثابتة في الصحيح علي أثره، وأنّ عيسي (عليه السلام) ينزل من بعده فيقتل الدجّال، أو ينزل معه فيساعده علي قتله، ويأتمّ بالمهدي في صلاته، ويحتجّون في هذا الشأن بأحاديث خرّجها الائمة، وتکلّم فيها المنکرون لذلک، وربما عارضوها ببعض الاخبار.
أقول: هذه الشهادة التي شهدها ابن خلدون، وهي أنّ اعتقاد خروج المهدي هو المشهور بين الکافّة من أهل الاسلام علي ممرّ الاعصار، ألا يسعه في ذلک ما وسع الناس علي ممرّ الاعصار؟ کما ذکر ابن خلدون نفسه، وهل ذلک إلاّ شذوذ بعد معرفة أنّ الکافة علي خلافه؟ وهل هؤلاء الکافة اتّفقوا علي الخطأ؟ والامر
[ صفحه 318]
ليس اجتهادياً، وإنّما هو غيبي لا يسوغ لاحد إثباته إلاّ بدليل من کتاب الله أو سنّة نبيّه (صلي الله عليه وآله)، والدليل معهم، وهم أهل الاختصاص.
الثالثة: أ نّه قال قبل إيراد الاحاديث: ونحن الان نذکره هنا الاحاديث الواردة في هذا الشأن. وقال في نهايتها: فهذه جملة الاحاديث التي خرّجها الائمة في شأن المهدي وخروجه في آخر الزمان.
وقال في موضع آخر بعد ذلک: وما أورده أهل الحديث من أخبار المهدي قد استوفينا جميعه بمبلغ طاقتنا.
وأقول: إنّه قد فاته الشيء الکثير، يتّضح ذلک بالرجوع إلي ما أثبته السيوطي في العرف الوردي في أخبار المهدي عن الائمة، بل إنّ ممّـا فاته الحديث الذي ذکره ابن القيّم في المنار المنيف عن الحارث بن أبي اُسامة وقال: إسناده جيّد.
الرابعة: أنّ ابن خلدون نفسه قد اعترف بسلامة بعض أحاديث المهدي من النقد [4] ، حيث قال بعد إيراد الاحاديث التي خرّجها الائمة في شأن المهدي وخروجه آخر الزمان: وهي کما رأيت لم يخلص منها من النقد إلاّ القليل.
وأقول: إنّ القليل الذي يسلم من النقد يکفي للاحتجاج به، ويکون الکثير الذي لم يسلم عاضداً له ومقوّياً، علي أ نّه قد سلم الشيء الکثير کما جاء في کلام القاضي محمّد بن عليّ الشوکاني، الذي حکي تواترها، وقال: إنّ فيها خمسين حديثاً فيها الصحيح والحسن والضعيف المنجبر.
ثمّ إنّه في آخر البحث ذکر ما يفيد تردّده في أمر المهدي، وذلک يفيد عدم
[ صفحه 319]
ثبات رأيه، لکونه تکلّم فيه بما ليس باختصاصه [5] .
وأحسن السيّد أبو الفيض أحمد بن محمّد بن الصديق الغماري الحسني الشافعي في الردّ علي ابن خلدون في کتابه (إبراز الوهم المکنون من کلام ابن خلدون) فقد أثبت فيه تواتر أحاديث المهدي (عليه السلام)، وفنّد تضعيفات ابن خلدون لاحاديث المهدي، والتي تذرّع بها بعض من عاصر السيّد أبي الفيض کأحمد أمين ومحمّد فريد وجدي.
وقد تتبّع السيّد أبو الفيض طرق وأسانيد أحاديث الامام المهدي (عليه السلام) في کتب أهل السنّة ابتداءً من طبقة الصحابة ثمّ التابعين ثمّ تابعي التابعين حتّي المصنّفين الذين أخرجوا هذه الاحاديث في کتبهم.
قال أبو الفيض الشافعي: ولا يخفي أنّ العادة قاضية باستحالة تواطئ جماعة يبلغ عددهم ثلاثين نفساً فأزيد في جميع الطبقات، وذلک فيما بلغنا وأمکننا الوقوف عليه في الحال، فقد وجدنا خبر المهدي وارداً في حديث أبي سعيد الخدري، وعبد الله بن مسعود، وعليّ بن أبي طالب (عليه السلام)، واُمّ سلمة، وثوبان، وعبد الله بن جزء بن حارث الزبيدي، وأبي هريرة، وأنس بن مالک، وجابر بن عبد الله الانصاري، وقرّة بن إياس المزني، وابن عباس، واُمّ حبيبة، وأبي اُمامة، وعبد الله ابن عمرو بن العاص، وعمّـار بن ياسر، والعبّاس بن عبد المطّلب، والحسين بن عليّ (عليه السلام)، وتميم الداري، وعبد الرحمن بن عوف، وعبد الله بن عمر بن الخطّاب، وطلحة، وعليّ الهلالي، وعمران بن حصين، وعمرو بن مرّة الجهني، ومعاذ بن جبل، وهذا في المرفوعات دون الموقوفات والمقاطيع التي هي في مثل هذا الباب من
[ صفحه 320]
قبيل المرفوع.
قال: ولو تتبّعنا ذلک لذکرنا منه عدداً وافراً، ولکن في المرفوع منه الکفاية [6] .
وقال أيضاً: في الناس اليوم ممّن يخفي عليه هذا التواتر ويجهله، ويبعده عن صراط العلم جهله، ويصدّه من ينکر ظهور المهدي وينفيه، ويقطع بضعف الاحاديث الواردة فيه، مع جهله بأسباب التضعيف، وعدم إدراکه معني الحديث الضعيف، وتصوّره مبادئ هذا العلم الشريف، وفراغ جرابه من أحاديث المهدي الغنيّة بتواترها عن البيان لحالها والتعريف، وإنّما استناده في إنکاره مجرّد ما ذکره ابن خلدون في بعض أحاديثه من العلل المزوّرة المکذوبة، ولمز به ثقات رواتها من التجريحات الملفّقة المقلوبة، مع انّ ابن خلدون ليس له في هذه الرحاب الواسعة مکان، ولا ضرب له بنصيب ولا سهم في هذا الشأن، ولا استوفي منه بمکيال ولا ميزان، فکيف يعتمد فيه عليه، ويرجع في تحقيق مسائله إليه، فالواجب دخول البيت من بابه، والحقّ الرجوع في کلّ فنّ إلي أربابه، فلا يقبل تصحيح أو تضعيف إلاّ من حفّاط الحديث ونقّاده [7] .
پاورقي
[1] راجع الامام الصادق / أبو زهرة: 238 ـ 239، المهدي والمهدويّة / أحمد أمين: 41 و108، دائرة معارفة القرن العشرين / محمّد فريد وجدي 10: 481.
[2] في محاضرته التي أشرنا إليها آنفاً.
[3] رسالة الثقلين: 168 ـ 170 ـ العدد (25) ـ السنة (7) ـ 1419.
[4] لم يضعّف ابن خلدون من أحاديث المهدي (عليه السلام) سوي (19) حديثاً فقط من مجموع (23) حديثاً، واعترف بصحّة أربعة أحاديث من مجموع ما ذکره سنأتي علي ذکرها لاحقاً.
[5] عقيدة أهل السنّة والاثر / الشيخ عبد المحسن العباد: 192 ـ 194.
[6] إبراز الوهم المکنون من کلام ابن خلدون: 437.
[7] إبراز الوهم المکنون: 443.