حديث شداد بن عاد بن أرم وصفة أرم ذات العماد التي لم يخلق مثل
1 ـ أخبرنا محمد بن هارون الزنجاني فيما کتب إلي قال: حدثنا معاذ أبو المثني العنبري [1] قال: حدثنا عبد الله بن محمد بن أسماء قال: حدثنا جويرية، عن سفيان، عن منصور عن أبي وائل قال: إن رجلا يقال له: عبد الله بن قلابة خرج في طلب إبل له قد شردت فبينا هو في صحاري عدن في تلک الفلوات إذ هو وقع علي مدينة عليها حصن حول ذلک الحصن قصور کثيرة وأعلام طوال، فلما دنا منها ظن أن فيها من يسأله عن إبله فلم ير داخلا ولا خارجا، فنزل عن ناقته وعقلها وسل سيفه ودخل من باب الحصن، فإذا هو ببابين عظيمين لم ير في الدنيا بناء أعظم منهما ولا أطول، وإذا خشبها من أطيب عود وعليها نجوم من ياقوت أصفر وياقوت أحمر، ضوؤها قد ملا المکان، فلما رآي ذلک أعجبه ففتح أحد البابين ودخل فإذا هو بمدينة لم ير الراؤون مثلها قط، وإذا هو بقصور، کل قصر منها معلق تحته أعمدة من زبرجد وياقوت، وفوق کل قصر منها غرف، وفوق الغرف غرف مبنية بالذهب والفضة واللؤلؤ والياقوت والزبرجد، و علي کل باب من أبواب تلک القصور مصاريع مثل مصاريع باب المدينة من عود طيب، قد نضدت عليه اليواقيت، وقد فرشت تلک القصور باللؤلؤ وبنادق المسک والزعفران، فلما رآي ذلک أعجبه ولم ير هناک أحدا فأفزعه ذلک.
ثم نظر إلي الازقة فإذا في کل زقاق منها أشجار قد أثمرت، تحتها أنهار
[ صفحه 212]
تجري، فقال: هذه الجنة التي وصف الله عزوجل لعباده في الدنيا والحمد لله الذي أدخلني الجنة، فحمل من لؤلؤها ومن بنادق المسک والزعفران ولم يستطع أن يقلع من زبرجدها ومن ياقوتها لانه کان مثبتا في أبوابها وجدرانها، وکان اللؤلؤ وبنادق المسک والزعفران منثورا بمنزلة الرمل في تلک القصور والغرف کلها، فأخذ منها ما أراد وخرج حتي أتي ناقته ورکبها، ثم سار يقفو أثر ناقته حتي رجع إلي اليمن وأظهر ما کان معه وأعلم الناس أمره، وباع بعض ذلک اللؤلؤ وکان قد اصفار وتغير من طول ما مر عليه من الليالي والايام، فشاع خبره وبلغ معاوية بن أبي سفيان، فأرسل رسولا إلي صاحب صنعاء وکتب بإشخاصه، فشخص حتي قدم علي معاوية فخلا به وسأله عما عاين فقص عليه أمر المدينة وما رأي فيها وعرض عليه ما حمله منها من اللؤلؤ وبنادق المسک والزعفران، فقال: والله ما أعطي سليمان بن داود مثل هذه المدينة، فبعث معاوية إلي کعب الاحبار فدعاه وقال له: يا أبا إسحاق هل بلغک أن في الدنيا مدينة مبنية بالذهب والفضة وعمدها من الزبرجد والياقوت وحصاء قصورها وغرفها اللؤلؤ، وأنهارها في الازقة تجري تحت الاشجار.
قال کعب: أما هذه المدينة فصاحبها شداد بن عاد الذي بناها وأما المدينة فهي إرم ذات العماد وهي التي وصف الله عزوجل في کتابه المنزل علي نبيه محمد صلي الله عليه وآله وذکر أنه لم يخلق مثلها في البلاد.
قال معاوية: حدثنا بحديثها فقال: إن عادا الاولي ـ وليس بعاد قوم هود عليه السلام ـ کان له ابنان سمي أحدهما شديدا والاخر شدادا فهلک عاد وبقيا وملکا وتجبرا وأطاعهما الناس في الشرق والغرب، فمات شديد وبقي شداد فملک وحده ولم ينازعه أحد.
وکان مولعا بقراءة الکتب، وکان کلما سمع بذکر الجنة وما فيها من البنيان والياقوت والزبرجد واللؤلؤ رغب أن يفعل مثل ذلک في الدنيا عتوا علي الله عزوجل فجعل علي صنعتها مائة رجل تحت کل واحد منهم ألف من الاعوان، فقال: انطلقوا إلي أطيب فلاة في الارض وأوسعها، فاعملوا لي فيها مدينة من ذهب وفضة وياقوت و
[ صفحه 213]
زبرجد ولؤلؤ، واصنعوا تحت تلک المدينة أعمدة من زبرجد وعلي المدينة قصورا، وعلي القصور غرفا، وفوق الغرف غرفا، وأغرسوا تحت القصور في أزقتها أصناف الثمار کلها وأجروا فيها الانهار حتي يکون تحت أشجارها، فإني قرأت في الکتب صفة الجنة وأنا احب أن أجعل مثلها في الدنيا.
قالوا له: کيف نقدر علي ما وصفت لنا من الجواهر والذهب والفضة حتي يمکننا أن نبني مدينة کما وصفت؟.
قال شداد: ألا تعلمون أن ملک الدنيا بيدي؟ قالوا: بلي، قال: فانطلقوا إلي کل معدن من معادن الجواهر والذهب والفضة فوکلوا بها حتي تجمعوا ما تحتاجون إليه، وخذوا ما تجدونه في أيدي الناس من الذهب والفضة.
فکتبوا إلي کل ملک في الشرق والغرب فجعلوا يجمعون أنواع الجواهر عشر سنين فبنوا له هذه المدينة في مدة ثلاثمائة سنة، وعمر شداد تسعمائة سنة فلما أتوه وأخبروه بفراغهم منها قال: انطلقوا فاجعلوا عليها حصنا، واجعلوا حول الحصن ألف قصر، عند کل قصر ألف علم، يکون في کل قصر من تلک القصور وزير من وزرائي فرجعوا وعملوا ذلک کله له، ثم أتوه فأخبروه بالفراغ منها کما أمرهم به، فأمر الناس بالتجهيز إلي إرم ذات العماد فأقاموا في جهازهم إليها عشر سنين.
ثم سار الملک يريد إرم فلما کان من المدينة علي مسيرة يوم وليلة بعث الله عز وجل عليه وعلي جميع من کان معه صيحة من السماء فأهلکتهم جميعا وما دخل إرم ولا أحد ممن کان معه، فهذه صفة إرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد.
وإني لاجد في الکتب أن رجلا يدخلها ويري ما فيها ثم يخرج ويحدث الناس بما يري فلا يصدق، وسيدخلها أهل الدين في آخر الزمان.
قال مصنف هذا الکتاب رضي الله عنه: إذا جاز أن يکون في الارض جنة مغيبة عن أعين الناس لا يهتدي إلي مکانها أحد من الناس ولا يعلمون بها ويعتقدون صحة کونها من طريق الاخبار، فکيف لا يقبلون من طريق الاخبار کون القائم عليه السلام الان في غيبته، وإذا جاز أن يعمر شداد بن عاد تسعمائة سنة فيکف لا يجوز أن يعمر القائم
[ صفحه 214]
عليه السلام مثلها أو أکثر منها.
والخبر في شداد بن عاد عن أبي وائل، والاخبار في القائم عليه السلام عن النبي والائمة صلوات الله عليهم فهل ذلک إلا مکابرة في جحود الحق.
ووجدت في کتاب المعمرين أنه حکي عن هشام بن سعيد الرجال قال: إنا وجدنا حجرا بالاسکندرية مکتوبا فيه أنا شداد بن عاد وأنا الذي شيدت العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد، وجندت الاجناد وشددت بساعدي الواد فبنيتهن إذ لا شيب ولا موت، وإذ الحجارة في اللين مثل الطين، وکنزت کنزا في البحر علي اثني عشر منزلا لم يخرجه حتي تخرجه امة محمد.
وعاش أوس بن ربيعة بن کعب بن امية الاسلمي مائتين وأربع عشرة سنة وقال في ذلک:
لـقـــد عمرت حتي مل أهلي
ثوائي عندهم وسئمت عمري [2] .
وحق لـمـن أتـي مائتان عاما
عليه وأربــع من بعـد عشـر
يمل من الثواء وصبح يوم [3] .
يغاديه وليل بـعـد يـســري
فأبلي جدتي وترکت شلوا [4] .
وباح بما اجـن ضـمـير صدري
وعاش أبو زبيد واسمه البدر بن حرملة الطائي وکان نصرانيا خمسين ومائة سنة.
وعاش نصر بن دهمان بن (بصار بن بکر بن) سليم بن أشجع بن الريث بن غطفان مائة وتسعين سنة حتي سقطت أسنانه وخرف عقله وأبيض رأسه فحزب قومه أمر [5] فاحتاجوا فيه إلي رأيه، ودعوا الله عزوجل أن يرد إليه عقله وشبابه، فعاد إليه
[ صفحه 215]
عقله وشبابه وأسود شعره.
فقال فيه سلمة بن الخرشب الانماري من أنمار بن بغيض، ويقال: بل عياض مرداس السلمي:
لنصــر بن دهمان الهنيدة عاشها
وتسعين حولا ثـم قوم فانصاتا [6] .
وعاد سواد الرأس بعد بياضه [7] .
وراجعه شرخ الشباب الذي فاتا [8] .
وراجع عقلا عند ما فــات عقله
ولکنـه مـن بعـد ذا کلـه ماتــا
وعاش سويد بن حذاق العبدي [9] ومائتي سنة.
وعاش الجعشم بن عوف بن حذيمة دهرا طويلا فقال:
حتي متي الجعشم في الاحياء
ليس بـذي أيد ولا غنـاء
هيهات ما للموت من دواء
وعاش ثعلبة بن کعب بن زيد بن عبد الاشهل الاوسي [10] مائتي سنة، فقال:
لقد صاحبت أقواما فأمسوا [11] .
خفاتـا ما يجــاب لهم دعاء
مضوا قصد السبيل وخلفونـي
فطـال علي بعدهم الثــواء
فأصبحت الغداة رهين بيتــي
وأخلفنـي من الموت الرجـاء
وعاش رداءة بن کعب [12] بن ذهل بن قيس النخعي ثلاثمائة سنة، وقال:
[ صفحه 216]
لم يبق يا خذلـة من لداتــي
أبو بنين لا ولا بنـات [13] .
ولا عقيم غير ذي سبات [14] .
إلا يعد اليــوم في الاموات
هل مشتر أبيعه حيــاتي
وعاش عدي بن حاتم طي عشرين ومائة سنة.
وعاش اماباة بن قيس بن الحارث بن شيبان الکندي ستين ومائة سنة.
وعاش عميرة بن هاجر بن عمير بن عبد العزي بن قمير سبعين ومائة سنة وقال:
بليت وأفناني الزمان وأصبحت
هنيدة قد ابقيت [15] من بعدها عشرا
وأصبحت مثل الفرخ لا أنا ميت
فاسلي [16] ولا حي فاصدر لي أمرا
وقد عشت دهرا ما تجن عشيرتي
لهـا ميتـا حتـي أخـط بـه قبـرا
وعاش العرام بن منذر [17] بن زبيد بن قيس بن حارثة بن لام دهرا طويلا في الجاهلية، وأدرک عمر بن عبد العزيز وادخل عليه وقد اختلفت ترقوتاه وسقط حاجباه فقيل له: ما أدرکت؟ فقال:
ووالله ما أدري أأدرکت امة
علي عهد ذي القرنين أم کنت أقدما
متي تخلعا مني القميص تبينا
جآجئ [18] لم يکسين لحما ولا دما
وعاش سيف بن وهب بن جذيمة الطائي مائتي سنة وقال:
[ صفحه 217]
ألا إنني عاجلا ذاهب
فلا تحسبوا أنني کاذب
لبست شبابي فأفنيته
وأدرکني القدر الغالب
وخصم دفعت ومولي نفعت
حتي يثوب له ثائب
وعاش أرطاة بن دشهبة المزني عشرين ومائة سنة، فکان يکني أبا الوليد، فقال له عبد الملک بن مروان: ما بقي من شعرک يا أرطاة؟ قال: يا أمير المؤمنين إني لا أشرب ولا أطرب ولا أغضب، ولا يجيئني الشعراء إلا علي أحد هذه الخصال علي أني أقول:
رأيت المرء تأکله الليالي
کأکل الارض ساقطة الحديد
وما تبقي المنية حين تأتي
علي نفس ابن آدم من مزيد
وأعلم أنها ستکر حتي
توفي نذرها بأبي الوليد
فارتاع عبد الملک، [19] فقال: يا أرطاة. فقال أرطاة: يا أمير المؤمنين إني اکني أبا الوليد.
وعاش عبيد بن الابرص [20] ثلاثمائة سنة فقال:
فنيت وأفناني الزمان وأصبحت
لداتي بنو نعش وزهر الفراقد [21] .
ثم أخذه النعمان بن المنذر يوم بؤسه فقتله.
وعاش شريح بن هانئ عشرين ومائة سنة حتي قتل في زمن الحجاج بن يوسف فقال في کبره وضعفه:
أصبحت ذا بث اقاسي الکبرا
قد عشت بين المشرکين أعصرا
ثمت أدرکت النبي المنذرا
وبعده صديقه وعمرا
[ صفحه 218]
ويوم مهران ويوم تسترا
والجمع في صفينهم والنهرا [22] .
هيهات ما أطول هذا عمرا
وعاش رجل من بني ضبة يقال له: المسجاح بن سباع الضبي [23] دهرا طويلا فقال:
لقد طوفت في الافاق حتي
بليت وقد أني لي لو أبيد [24] .
وأفناني ولـو يفني نهـار
وليـل کـلمـا يمضي يعـود
وشهر مستهل بعد شهـر
وحول بعــده حول جديـد
وعاش لقمان العادي الکبير [25] خمسمائة وستين سنة، وعاش عمر سبعة أنسر (عاش) کل نسر منها ثمانين عاما، وکان من بقية عاد الاولي.
وروي أنه عاش ثلاثة آلاف سنة وخمسمائة سنة، وکان من وفد عاد الذين بعثهم قومهم إلي الحرم ليستسقوا لهم، وکان اعطي عمر سبعة أنسر وکان يأخذ فرخ النسر الذکر فيجعله في الجبل الذي هو في أصله فيعيش النسر منها ما عاش، فإذا مات أخذ آخر، فرباه حتي کان آخرها لبد، وکان أطولها عمرا، فقيل فيه: «طال الابد علي لبد». [26] .
[ صفحه 219]
وقد قيل فيه أشعار معروفة، [27] وأعطي من القوة والسمع والبصر علي قدر ذلک وله أحاديث کثيرة.
وعاش زهير بن جناب [28] بن هبل بن عبد الله بن کنانة بن بکر بن عوف بن عذرة بن زيد الله بن رفيدة بن ثور بن کلب الکلبي ثلاثمائة سنة. [29] .
وعاش مزيقيا واسمه عمر بن عامر وهو ماء السماء لانه کان حياة أينما نزل کمثل ماء السماء، وإنما سمي مزيقيا لانه عاش ثمانمائة سنة، أربعمائة سوقة، و أربعمائة ملکا، وکان يلبس کل يوم حلتين، ثم يأمر بهما فيمز قان حتي لا يلبسهما أحد غيره.
وعاش هبل بن عبد الله بن کنانة ستمائة سنة. [30] .
وعاش أبو الطحمان القيني [31] مائة وخمسين سنة.
وعاش مستوغر بن ربيعة بن کعب بن زيد مناة بن تميم ثلاثمائة وثلاثين سنة، ثم أدرک الاسلام فلم يسلم وله شعر معروف. [32] .
وعاش دويد بن زيد بن نهد أربعمائة سنة وخمسين سنة فقال في ذلک:
ألقي علي الدهر رجلا ويدا
والدهر ما أصلح يوما أفسدا
يفسد ما أصلحه اليوم غدا
وجمع بنيه حين حضرته الوفاة فقال: «يا بني أو صيکم بالناس شرا لا تقبلوا لهم معذرة، ولا تقيلوا لهم عثرة...». [33] .
وعاش تيم الله بن ثعلبة بن عکاية مائتي سنة. [34] .
وعاش ربيع بن ضبع بن وهب بن بغيض بن مالک بن سعد بن عدي بن فزارة مائتين وأربعين سنة [35] وأدرک الاسلام فلم يسلم.
[ صفحه 220]
وعاش معدي کرب الحميري من آل ذي يزن مائتين وخمسين سنة.
وعاش شرية بن عبد الله الجعفي ثلاثمائة سنة فقدم علي عمر بن الخطاب بالمدينة فقال: لقد رأيت هذا الوادي الذي أنتم فيه وما به قطرة ولا هضبة [36] ولا شجرة، و لقد أدرکت اخريات قومي يشهدون شهادتکم هذه ـ يعني لا إله إلا الله ـ ومعه ابن له يهادي [37] قد خرف، فقيل له: يا شرية هذا ابنک قد خرف وبک بقية؟ فقال: والله ما تزوجت امه حتي أتت علي سبعون سنة ولکني تزوجتها عنيفة ستيرة إن رضيت رأيت ما تقربه عيني وإن سخطت تأتت لي حتي أرضي، وإن ابني هذا تزوج امرأة بذية فاحشة إن رأي ما تقربه عينه تعرضت له حتي يسخط وإن سخط تلغبته حتي يهلک. [38] .
حدثنا أبو سعيد عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب بن نصر السجزي [39] قال: سمعت أبا الحسن [40] أحمد بن محمد بن عبد الله بن حمزة بن زيد الشعراني من ولد عمار ابن ياسر رضي الله عنه يقول: حکي لي أبو القاسم محمد بن القاسم المصري: أن أبا ـ الجيش [41] حمادويه بن أحمد بن طولون کان قد فتح الله عليه من کنوز مصر ما لم يرزق أحد قبله، فغزي بالهرمين [42] فأشار إليه جلساؤه وحاشيته وبطانته بأن لا يتعرض لهدم الاهرام فإنه ما تعرض لهذه أحد فطال عمره، فألح في ذلک وأمر ألفا من الفعلة أن
[ صفحه 221]
يطلبوا الباب، فکانوا يعملون سنة حواليه حتي ضجروا وکلوا، فلما هموا بالانصراف بعد الاياس منه وترک العمل وجدوا سربا فقدروا أنه الباب الذي يطلبونه، فلما بلغوا آخره وجدوا بلاطة قائمة [43] من مرمر فقدروا أنها الباب فاحتالوا فيها إلي أن قلعوها وأخرجوها (قال محمد بن المظفر وجدوا من ورائها بناء منضما لا يقدروا عليه فأخرجوها ثم نظفوها) فإذا عليها کتابة باليونانية، فجمعوا حکماء مصر وعلماءها من سائر الاديان، فلم يهتدوا لها.
وکان (في القوم) رجل يعرف بأبي عبد الله المديني أحد حفاظ الدنيا وعلمائها فقال لابي الجيش حمادويه بن أحمد: أعرف في بلد الحبشة اسقفا قد عمر وأتي عليه ثلاثمائة وستون سنة يعرف هذا الخط، وقد کان عزم علي أن يعلمنيه فلحرصي علي علم العرب لم أقم عنده وهو باق، فکتب أبو الجيش إلي ملک الحبشة يسأله أن يحمل هذا الاسقف إليه، فأجابه أن هذا شيخ قد طعن في السن وقد حطمه الزمان وإنما يحفظه هذا الهواء وهذا الاقليم، ويخاف عليه إن نقل إلي هواء آخر وإقليم آخر ولحقته حرکة وتعب ومشقة السفر أن يتلف، وفي بقائه لنا شرف وفرح وسکينة، فان کان لکم شيء يقرؤه أو يفسره أو مسألة تسألونه فاکتب لي بذلک، فحملت البلاطة في قارب [44] إلي بلد اسوان من الصعيد الاعلي، وحملت من اسوان علي العجلة إلي بلد الحبشة وهي قريبة من الاسوان، فلما وصلت قرأها الاسقف وفسر ما کان فيها بالحبشية، ثم نقلت إلي العربية فإذا فيها مکتوب:
أنا الريان بن دومغ، فسئل أبو عبد الله المديني عن الريان من کان؟ فقال: هو والد العزيز الملک الذي کان في زمان يوسف النبي عليه السلام واسمه الوليد بن الريان ابن دومغ. وکان عمر العزيز سبعمائة سنة، وعمر الريان والده ألف وسبعمائة سنة وعمر دومغ ثلاثة آلاف سنة.
فإذا فيها: أنا الريان بن دومغ خرجت في طلب علم النيل الاعظم لاعلم
[ صفحه 222]
فيضه ومنبعه إذ کنت أري مفيضه فخرجت ومعي من صحبني أربعة آلاف رجل فسرت ثمانين سنة إلي أن انتهيت إلي الظلمات والبحر المحيط بالدنيا فرأيت النيل يقطع البحر المحيط ويعبر فيه ولم يکن لي منفذ، وتماوت أصحابي [45] وبقيت في أربعة آلاف رجل فخشيت علي ملکي، فرجعت إلي مصر وبنيت الاهرام والبراني وبنيت الهرمين وأودعتهما کنوزي وذخائري، وقلت في ذلک:
وأدرک علمي بعض ما هو کائن
ولا علم لي بالغيب والله أعلم
وأتقنت ما حاولت إتقان صنعه
وأحکمته والله أقوي وأحکم
وحاولت علم النيل من بدء فيضه
فأعجزني والمرء بالعجز ملجم
ثمانين شاهورا قطعت مسايحا
وحولي بني حجر وجيش عرموم [46] .
إلي أن قطعت الانس والجن کلهم
وعارضني لج من البحر مظلم
فأيقنت أن لا منفذ بعد منزلي
لذي همة [47] بعدي ولا متقدم
فابت إلي ملکي وأرسيت ثاويا
بمصر وللايام بؤس وأنعم
أنا صاحب الاهرام في مصر کلها
وباني برانيها بها والمقدم
ترکت بها آثار کفي وحکمتي
علي الدهر لا تبلي ولا تتهدم [48] .
وفيها کنوز جمة وعجائب
وللدهر أمر مرة وتجهم [49] .
سيفتح أقفالي ويبدي عجائبي
ولي لربي آخر الدهر ينجم
بأکناف بيت الله تبدو اموره
فلا بد أن يعلو ويسمو به السم
ثمان وتسع واثنتان وأربع
وتسعون اخري من قتيل وملجم
ومن بعد هذا کر تسعون تسعة
وتلک البراني تستخر وتهدم
[ صفحه 223]
وتبدي کنوزي کلها غير أنني
أري کل هذا أن يفرقها الدم
زبرت مقالي في صخور قطعتها
ستبقي وأفني بعدها ثم اعدم
فحينئذ قال أبو الجيش حمادويه بن أحمد: هذا شيء ليس لاحد فيه حيلة إلا القائم من آل محمد عليه السلام وردت البلاطة کما کانت مکانها.
ثم إن أبا الجيش بعد ذلک بسنة قتله طاهر الخادم (ذبحه) علي فراشه وهو سکران، ومن ذلک الوقت عرف خبر الهرمين ومن بناهما، فهذا أصح ما يقال من خبر النيل والهرمين.
وعاش ضبيرة بن (سعيد بن) سعد بن سهم القرشي مائة وثمانين سنة، وأدرک الاسلام فهلک فجأة.
وعاش لبيد بن ربيعة الجعفري مائة وأربعين سنة وأدرک الاسلام فأسلم، فلما بلغ سبعون سنة من عمره أنشأ يقول في ذلک:
کأني وقد جاوزت سبعين حجة
خلعت بها عن منکبي ردائيا
فلما بلغ سبعا وسبعين سنة أنشأ يقول:
باتت تشکي إلي النفس مجهشة
وقد حملتک سبعا بعد سبعينا
فان تزيدي ثلاثا تبلغي أملا
وفي الثلاث وفاء للثمانينا
فلما بلغ تسعين سنة أنشأ يقول:
کأني وقد جاوزت تسعين حجة
خلعت بها عني عذار لثامي
رمتني بنات الدهر من حيث لا أري
وکيف بمن يرمي وليس برام
فلو أنني ارمي بنبل رأيتها
ولکنني ارمي بغير سهام
فلما بلغ مائة وعشر سنين أنشأ يقول:
أليس في مائة قد عاشها رجل
وفي تکامل عشر بعدها عمر
فلما بلغ مائة وعشرين سنة أنشأ يقول:
قد عشت دهرا قبل مجري داحس
لو کان للنفس اللجوج خلود
فلما بلغ مائة وأربعين سنة أنشأ يقول:
[ صفحه 224]
ولقد سئمت من الحياة وطولها
وسؤال هذا الناس کيف لبيد
غلب الرجال وکان غير مغلب
دهر طويل دائم ممدود
يوما إذا يأتي علي وليلة
وکلاهما بعد المضي يعود
فلما حضرته الوفاة قال لابنه: يا بني إن أباک لم يمت ولکنه فني فإذا قبض أبوک فأغمضه وأقبل به القبلة وسجه بثوبه، ولا أعلمن ما صرخت عليه صارخة أو بکت عليه باکية، وانظر جفنتي التي کنت اضيف بها فأجد صنعتها، ثم احملها إلي مسجدک وإلي من کان يغشاني عليها فإذا قال الامام: «سلام عليکم» فقد مها إليهم يأکلون منها فإذا فرغوا فقل: احضروا جنازة أخيکم لبيد بن ربيعة فقد قبضه الله عزوجل ثم أنشأ يقول:
وإذا دفنت أباک فاجعل
فوقه خشبا وطينا
وصفائح صما روا
شنها تسددن الغصونا
ليقين حر الوجه سفساف
التراب ولن يقينا
وقد ورد في الخبر في حديث لبيد بن ربيعة في أمر الجفنة غير هذا، وذکروا أن لبيد بن ربيعة جعل علي نفسه أن کلما هبت الشمال أن ينحر جزورا فيملأ الجفنة التي حکوا عنها في أول حديثه.
فلما ولي الوليد بن عقبة بن أبي معيط الکوفة خطب الناس فحمد الله عزوجل وأثني عليه وصلي علي النبي صلي الله عليه وآله ثم قال: أيها الناس قد علمتم حال لبيد بن ربيعة الجعفري وشرفه ومروءته، وما جعل علي نفسه کلما هبت الشمال أن ينحر جزورا فأعينوا أبا عقيل علي مروءته، ثم نزل وبعث إليه بخمسة من الجزر، ثم أنشأ يقول فيها:
أري الجزار يشحذ شفرتيه
إذا هبت رياح أبي عقيل
طويل الباع أبلج جعفري
کريم الجد کالسيف الصقيل
وفي ابن الجفعري بما لديه
علي العلات [50] والمال القليل
[ صفحه 225]
وقد ذکروا أن الجزر کانت عشرين، فلما أتته قال: جزي الله الامير خير اقد عرف أني لا أقول الشعر ولکن أخرجي يا بنية، فخرجت إليه بنية له خماسية، فقال لها: أجيبي الامير، فأقبلت وأدبرت، ثم قالت: نعم وأنشأت تقول:
إذا هبـت ريـاح أبي عقيـل
دعونا عند هبتهـا الوليـدا
طويل الباع أبلج عبشميا [51] .
أعـان علـي مروءته لبيدا
بأمثال الهضاب [52] کأن رکبا
عليهـا من بني حام قعودا
أبا وهـب جزاک الله خيـرا
نحرنـاها وأطعمنا التريـدا
فعد ان الکريم لــه معـاد
وعهـدي بابن أروي أن تعودا
فقال: لها: أحسنت يا بنية لولا أنک سألت، قالت: إن الملوک لا يستحيي من مسألتهم، قال: وأنت يا بنية أشعر.
وعاش ذو الاصبع العدواني واسمه حرثان بن الحارث بن محرث بن ربيعة بن هبيرة بن ثعلبة بن الظرب بن عثمان ثلاثمائة سنة.
وعاش جعفر بن قبط [53] ثلاثمائة سنة وأدرک الاسلام.
وعاش عامر بن الظرب العدواني ثلاثمائة سنة. [54] .
وعاش محصن بن عتبان بن ظالم بن عمرو بن قطيعة بن الحارث بن سلمة بن مازن الزبيدي مائتين وخمسين سنة، وقال في ذلک:
ألا يا سلـم إني لسـت منکــم
ولکني امرء قوتي سغـوب [55] .
دعاني الداعيان فقلت: هيا [56] .
فقالا: کــل من يدعي يجيب
[ صفحه 226]
ألا يـا سلم أعيــاني قيــامي
وأعيتني المکاسب والذهوب [57] .
وصرت رذية [58] في البيت کلا
تأذي بـي الا بــاعد والقريب
کذاک الدهــر والايام خون [59] .
لها في کل سائمــة نصيـب
وعاش عوف بن کنانة الکلبي ثلاثمائة سنة فلما حضرته الوفاة جمع بنيه فأوصاهم وهو عوف بن کنانة بن عوف بن عذرة بن زيد بن ثور بن کلب فقال: يا بني احفظوا وصيتي فإنکم إن حفظتموها سدتم قومکم من بعدي:
إلهکم فاتقوه، ولا تحزنوا ولا تخونوا، ولا تثيروا السباع [60] من مرابضها فتندموا وجاوزوا الناس بالکف عن مساويهم فتسلموا وتصلحوا، وعفوا عن الطلب إليهم ولا تستقلوا، [61] وألزموا الصمت إلا من حق تحمدوا، وابذلوا لهم المحبة تسلم لکم الصدور، ولا تحرموهم المنافع فيظهروا الشکاة، وتکونوا منهم في ستر ينعم بالکم، ولا تکثروا مجالستهم فيستخف بکم، وإذا نزلت بکم معضلة فاصبروا لها، وألبسوا للدهر أثوابه فإن لسان الصدق مع المسکنة خير من سوء الذکر مع الميسرة، ووطنوا أنفسکم علي المذلة لمن تذلل لکم فإن أقرب الوسائل المودة، وإن أتعبت النشب البغضة، وعليکم بالوفاء، وتنکبوا العذر يأمن سربکم، (وأصيخوا للعدل) وأحيوا الحسب بترک الکذب فإن آفة المروءة الکذب والخلف، ولا تعلموا الناس أقتارکم فتهونوا عليهم وتخملوا، وإياکم والغربة فإنها ذلة، ولا تضعوا الکرائم إلا عند الاکفاء وابتغوا لانفسکم المعالي، ولا يختلجنکم جمال النساء عن الصحة [62] فإن نکاح
[ صفحه 227]
الکرائم مدارج الشرف، واخضعوا لقومکم، ولا تبغوا عليهم لتنالوا المنافس، ولا تخالفوهم فيما اجتمعوا عليه فإن الخلاف يزري بالرئيس المطاع، وليکن معروفکم لغير قومکم من بعدهم، ولا توحشوا أفنيتکم من أهلها فإن إيحاشها إخماد النار و دفع الحقوق، وارفضوا النائم بينکم [تسلموا]، وکونوا أعوانا عند الملمات [63] تغلبوا، واحذروا النجعة [64] إلا في منفعة لا تصابوا، وأکرموا الجار يخصب جنابکم، وآثروا حق الضعيف علي أنفسکم، وألزموا مع السفهاء الحلم تقل همومکم، وإياکم والفرقة فإنها ذلة، ولا تکلفوا أنفسکم فوق طاقتها إلا المضطر فإنکم لن تلاموا عند اتضاح العذر وبکم قوة خير من أن تعاونوا في الاضطرار منکم إليهم بالمعذرة، [65] وجدوا ولا تفرطوا فإن الجد مانع الضيم، ولتکن کلمتکم واحدة تعزوا ويرهف حدکم ولا تبذلوا الوجوه لغير مکرميها فتکلحوها ولا تجشموها أهل الدناءة فتقصروا بها [66] ولا تحاسدوا فتبوروا، واجتنبوا البخل فإنه داء، وابنوا المعالي بالجود والادب ومصافاة أهل الفضل والحباء [67] وابتاعوا المحبة بالبذل، ووقروا أهل الفضل، وخذوا عن أهل التجارب، ولا يمنعکم من معروف صغره فإن له ثوابا، ولا تحقروا الرجال فتزدروا، فإنما المرء بأصغريه ذکاء قبله ولسان يعبر عنه، وإذا خوفتم داهية فعليکم بالتثبت قبل العجلة، والتمسوا بالتودد المنزلة عند الملوک، فإنهم من وضعوه اتضع، ومن رفعوه ارتفع، وتنبلوا تسم إليکم الابصار، وتواضعوا بالوقار ليحبکم ربکم، ثم قال:
[ صفحه 228]
وما کل ذي لب بموتيک نصحه
ولا کل مؤت نضحه بلبيب
ولکن إذا ما استجمعا عند واحد
فحق له من طاعة بنصيب
وعاش صيفي بن رياح بن أکثم أحد بني أسد بن عمر بن تميم مائتين وسبعين سنة وکان يقول: لک علي أخيک سلطان في کل حال إلا في القتال، فإذا أخذ الرجل السلاح فلا سلطان لک عليه، وکفي بالمشرفية واعظا، [68] وترک الفخر أبقي للثناء، وأسرع الجرم عقوبة البغي، وشر النصرة التعدي، وألام الاخلاق أضيقها، ومن سوء الادب کثرة العتاب، [69] وأقرع الارض بالعصاء. ـ فذهبت مثلا ـ. [70] .
لذي الحلم قبل اليوم ما تقرع العصا
وما علم الانسان إلا ليعلما
وعاش عباد بن شداد اليربوعي: مائة وخمسين سنة. [71] .
وعاش أکثم بن صيفي أحد بني أسد بن عمرو بن تميم ثلاثمائة وستين سنة وقال بعضهم مائة وتسعين سنة وأدرک الاسلام فاختلف في إسلامه إلا أن أکثرهم لا يشک في أنه لم يسلم فقال في ذلک:
وإن امرءا قد عاش تسعين حجة
إلي مائة لم يسأم العيش جاهل
خلت مائتان غير ست وأربع
وذلک من عد الليالي قلائل
وقال محمد بن سلمة: أقبل أکثم بن صيفي يريد الاسلام فقتله ابنه عطشا فسمعت أن هذه الاية نزلت فيه «ومن يخرج من بيته مهاجرا إلي الله ورسوله ثم يدرکه الموت فقد وقع أجره علي الله» [72] ولم تکن العرب تقدم عليه أحدا في الحکمة، وانه
[ صفحه 229]
لما سمع برسول الله صلي الله عليه وآله بعث ابنه حليسا [73] فقال: يا بني إني أعظک بکلمات فخذ بهن من حين تخرج من عندي إلي أن ترجع إلي، ائت نصيبک في شهر رجب فلا تستحله فيستحل منک، فان الحرام ليس يحرم نفسه وإنما يحرمه أهله، ولا تمرن بقوم إلا نزلت عند أعزهم وأحدث [74] عقدا مع شريفهم، وإياک والذليل فإنه أذل نفسه ولو أعزها لاعزه قومه فإذا قدمت علي هذا الرجل فاني قد عرفته وعرفت نسبه وهو في بيت قريش و أعز العرب وهو أحد رجلين إما ذو نفس أراد ملکا، فخرج للملک بعزه فوقره و شرفه وقم بين يديه ولا تجلس إلا باذنه حيث يأمرک ويشير إليک فإنه إن کان ذلک [75] کان أدفع لشره عنک وأقرب لخيره منک، فإن کان نبيا فإن الله لا يحس فيتوهم ولا ينظر فيتجسم، وإنما يأخذ الخيرة حيث يعلم [76] لا يخطئ فيستعتب إنما أمره علي ما يحب وإن کان نبيا فستجد أمره کله صالحا وخبره کله صادقا، وستجده متواضعا في نفسه متذللا لربه، فذل له فلا تحدثن أمرا دوني، فإن الرسول إذا أحدث الامر من عنده خرج من يدي الذي أرسله، واحفظ ما يقول لک إذا ردک إلي فإنک لو توهمت أو نسيت جشمتني [77] رسولا غيرک.
وکتب معه باسمک اللهم من العبد إلي العبد، أما بعد: فأبلغنا ما بلغک فقد أتانا عنک خبر لا ندري ما أصله، فإن کنت اريت فأرنا، وإن کنت علمت فعلمنا وأشرکنا في کنزک والسلام.
فکتب إليه رسول الله صلي الله عليه وآله فيما ذکروا: «من محمد رسول الله إلي أکثم ابن صيفي: أحمد الله إليک إن الله تعالي أمرني أن أقول: لا إله إلا الله، وآمر الناس بقولها، والخلق خلق الله عزوجل والامر کله لله خلقهم وأماتهم وهو ينشرهم وإليه المصير، أدبتکم بآداب المرسلين ولتسألن عن النبأ العظيم ولتعلمن نبأه بعد حين».
فلما جاءه کتاب رسول الله صلي الله عليه وآله قال لابنه: يا بني ماذا رأيت؟ قال: رأيته يأمر بمکارم الاخلاق وينهي عن ملائمها، تجمع أکثم بن صيفي إليه بني تميم ثم قال:
[ صفحه 230]
يا بني تميم لا تحضروني سفيها فان من يسمع بخل، ولکل انسان راي في نفسه، وان السفيه واهن الراي وان کان قوي البدن ولاخير فيمن لا عقل له.
يا بني تميم کبرت سني ودخلتني ذله الکبر فإذا رأيتم مني حسنا فاتوه، و إذا انکرتم مني شيئا فقوموني بالحق أستقم له، إن ابني قد جاءني وقد شافه هذا الرجل فرآه يأمر بالمعروف وينهي عن المنکر، ويأخذ بمحاسن الاخلاق، وينهي عن ملائمها، ويدعوا إلي أن يعبد الله وحده، وتخلع الاوثان ويترک الحلف بالنيران. ويذکر أنه رسول الله، وأن قبله رسلا لهم کتب، وقد علمت رسولا قبله کان يأمر بعبادة الله عزوجل وحده، إن أحق الناس بمعاونة محمد صلي الله عليه وآله ومساعدته علي أمره أنتم، فان يکن الذي يدعو إليه حقا فهو لکم، وإن يک باطلا کنتم أحق من کف عنه وستر عليه.
وقد کان اسقف نجران يحدث بصفته، ولقد کان سفيان بن مجاشع قبله يحدث به وسمي ابنه محمدا، وقد علم ذوو الرأي منکم أن الفضل فيما يدعو إليه ويأمر به، فکونوا في أمره أولا ولا تکونوا أخيرا، اتبعوه تشرفوا، وتکونوا سنام العرب، و أتوه طائعين من قبل أن تأتوه کارهين، فإني أري أمرا ما هو بالهوينا لا يترک مصعدا إلا صعده ولا منصوبا إلا بلغه، إن هذا الذي يدعوا إليه لو لم يکن دينا لکان في الاخلاق حسنا، أطيعوني واتبعوا أمري أسأل لکم ما لا ينزع منکم أبدا، إنکم أصبحتم أکثر العرب عددا، وأوسعهم بلدا، وإني لاري أمرا لا يتبعه ذليل إلا عز، ولا يترکه عزيز إلا ذل، اتبعوه مع عزکم تزدادوا عزا، ولا يکن أحد مثلکم، إن الاول لم يدع للاخر شيئا، وإن هذا أمر لما هو بعده من سبق إليه فهو الباقي، واقتدي به الثاني، فأصرموا أمرکم فإن الصريمة قوة، والاحتياط عجز. [78] .
فقال مالک بن نويرة: خرف شيخکم. فقال أکثم: ويل للشجي من الخلي [79] .
[ صفحه 231]
أراکم سکوتا وإن آفة الموعظة الاعراض عنها.
ويلک يا مالک إنک هالک، إن الحق إذا قام وقع القائم معه وجعل الصرعي قياما فإياک أن تکون منهم، أما إذا سبقتموني بأمرکم فقربوا بعيري أرکبه، فدعا براحلته فرکبها فتبعوه بنوه وبنو أخيه، فقال: لهفي علي أمر لن ادرکه ولم يسبقني.
وکتبت طئ إلي أکثم فکانوا أخواله، وقال آخرون: کتبت بنو مرة وهم أخواله أن أحدث إلينا ما نعيش به فکتب:
أما بعد: فإني اوصيکم بتقوي الله وصلة الرحم فإنها تثبت أصلها وتنبت فرعها وأنهاکم عن معصية الله وقطيعة الرحم فإنها لا يثبت لها أصل ولا ينبت لها فرع و إياکم ونکاح الحمقاء فإن مباضعتها قذر، وولدها ضياع، وعليکم بالابل فأکرموها فانها حصون العرب ولا تضعوا رقابها إلا في حقها فإن فيها مهر الکريمة ورقوء الدم [80] وبألبانها يتحف الکبير، ويغذي الصغير، ولو کلفت الابل الطحن لطحنت، ولن يهلک امرء عرف قدره، والعدم عدم العقل [81] والمرء الصالح لا يعدم [من] المال، ورب رجل خير من مائة، ورب فئة أحب إلي من قبيلتين [82] ومن عتب علي الزمان طالت معتبته، ومن رضي بالقسم طابت معيشته، آفة الرأي الهوي، والعادة أملک بالادب، والحاجة مع المحبة خير من الغني مع البغضة، والدنيا دول فما کان لک منها أتاک علي ضعفک وإن قصرت في طلبه، وما کان منها عليک لم تدفعه بقوتک، وسوء حمل الفاقة [83] تضع الشرف، والحسد داء ليس له دواء، والشماتة تعقب، و
[ صفحه 232]
من بر يوما بر به، واللومة مع السفاهة، ودعامة العقل الحلم، وجماع الامر الصبر وخير الامور مغبة العفو، وأبقي المودة حسن التعاهد، ومن يز رغبا يزدد حبا. [84] .
وصية أکثم بن صيفي عند موته: جمع أکثم بنيه عند موته فقال: يا بني إنه قد أتي علي دهر طويل وأنا مزودکم من نفسي قبل الممات:
اوصيکم بتقوي الله وصلة الرحم، وعليکم بالبر فإنه ينمي عليه العدد ولا يبيد عليه أصل ولا يهتصر فرع، فأنها کم عن معصية الله وقطيعة الرحم فإنه لا يثبت عليها أصل ولا ينبت عليها فرع، کفوا ألسنتکم فإن مقتل الرجل بين فکيه، إن قول الحق لم يدع لي صديقا، انظروا أعناق الابل ولا تضعوها إلا في حقها فإن فيها مهر الکريمة ورقوء الدم، وإياکم ونکاح الحمقاء فإن نکاحها قذر وولدها ضياع، الاقتصاد في السفر أبقي للجمام، [85] من لم يأس علي ما فاته ودع بدنه، [86] من قنع بما هو فيه قرت عينه، التقدم قبل التندم، أن أصبح عند رأس الامر أحب إلي من أن اصبح عند ذنبه، لم يهلک امرء عرف قدره، العجز عند البلاء آفة التجمل [87] لم يهلک من مالک ما وعظک، ويل لعالم أمن من جهله، [88] الوحشة ذهاب الاعلام، يتشابه الامر إذا أقبل، فإذا أدبر عرفه الکيس والا حمق، البطر عند الرخاء حمق، وفي طلب المعالي يکون العز، ولا تغضبوا من اليسير فإنه يجني الکثير، لا تجيبوا فيما لم تسئلوا [89] عنه، ولا تضحکوا مما لا يضحک منه، تباروا في الدنيا ولا تباغضوا، الحسد
[ صفحه 233]
في القرب فإنه من يجتمع يتقعقع عمده [90] يتقرب بعضکم من بعض في المودة، لا تتکلوا علي القرابة فتقاطعوا، فإن القريب من قرب نفسه، وعليکم بالمال فأصلحوه فإنه لا يصلح الاموال إلا باصلاحکم، ولا يتکلن أحدکم علي مال أخيه يري فيه قضاء حاجته فإنه من فعل ذلک کالقابض علي الماء، ومن استغني کرم علي أهله، وأکرموا الخيل، نعم لهو الحرة المغزل، وحيلة من لا حيلة له الصبر. وعاش قردة بن ثعلبة بن نفاثة [91] السلولي مائة وثلاثين سنة في الجاهلية، ثم أدرک الاسلام فأسلم. وعاش مصاد بن جناب بن مرارة من بني عمرو بن يربوع بن حنظلة بن زيد بن مناة أربعين ومائة سنة. [92] وعاش قس بن ساعدة الايادي ستمائة سنة وهو الذي يقول:
هل الغيث معطي الامن عند نزوله
بحال مسئ في الامور ومحسن
وما قد تولي وهو قد فات ذاهبا
فهل ينفعني ليتني ولو أنني
وکذلک يقول لبيد:
وأخلف قسا ليتني ولو أنني
وأعيا علي لقمان حکم التدبر
وعاش الحارث بن کعب المذحجي ستين ومائة سنة.
قال مصنف هذا الکتاب رضي الله عنه: هذه الاخبار التي ذکرتها في المعمرين
[ صفحه 234]
قد رواها مخالفونا أيضا من طريق محمد بن السائب الکلبي، ومحمد بن إسحاق بن بشار [93] وعوانة بن الحکم وعيسي بن زيد بن آب، [94] والهيثم بن عدي الطائي، وقد روي عن النبي صلي الله عليه واله أنه قال: کلما کان في الامم السالفة تکون في هذه الامة مثله حذو النعل بالنعل والقذة بالقذة.
وقد صح هذا التعمير فيمن تقدم وصحت الغيبات الواقعة بحجج الله عليهم السلام فيما مضي من القرون.
فکيف السبيل إلي إنکار القائم عليه السلام لغيبته وطول عمره مع الاخبار الواردة فيه عن النبي صلي الله عليه وآله وعن الائمة عليهم السلام، وهي التي قد ذکرناها في هذا الکتاب بأسانيدها.
حدثنا علي بن أحمد الدقاق رضي الله عنه قال: حدثنا محمد بن أبي عبد الله الکوفي، عن موسي بن عمران النخعي، عن عمه الحسين بن يزيد النوفلي، عن غياث بن إبراهيم، عن الصادق جعفر بن محمد، عن أبيه، عن آبائه عليهم السلام قال: قال رسول الله صلي الله عليه وآله: کلما کان في الامم السالفة فإنه يکون في هذه الامة مثله حذو النعل بالنعل والقذة بالقذة.
حدثنا أحمد بن الحسن القطان قال: حدثنا الحسن بن علي السکري قال: حدثنا محمد بن زکريا، عن جعفر بن محمد بن عمارة، عن الصادق جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جده عليهم السلام قال: قال رسول الله صلي الله عليه وآله: والذي بعثني بالحق نبيا وبشيرا لترکبن امتي سنن من کان قبلها حذو النعل بالنعل حتي لو أن حية من بني إسرائيل دخلت في جحر لدخلت في هذه الامة حية مثلها.
حدثنا الشريف أبو الحسن علي بن موسي بن أحمد بن إبراهيم بن محمد بن عبيد الله [95] رضي الله عنه قال: حدثنا أبو علي الحسن بن رکام [96] قال: حدثنا احمد
[ صفحه 235]
ابن محمد النوفلي قال: حدثني أحمد بن هلال، عن عثمان بن عيسي الکلابي، عن خالد بن نجيح، عن حمزة بن حمران، عن أبيه، عن سعيد بن جبير قال: سمعت سيد العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام يقول: في القائم منا سنن من الانبياء عليهم السلام، سنة من نوح، وسنة من إبراهيم، وسنة من موسي، وسنة من عيسي، وسنة من أيوب، وسنة من محمد صلوات الله عليهم.
وأما من نوح عليه السلام فطول العمر، وأما من إبراهيم فخفاء الولادة واعتزال الناس، وأما من موسي فالخوف والغيبة، وأما من عيسي فاختلاف الناس فيه، وأما من أيوب عليه السلام فالفرج بعد البلوي، وأما من محمد صلي الله عليه وآله فالخروج بالسيف.
فمتي صح التعمير لمن تقدم عصرنا وصح الخبر بأن السنة بذلک جارية في القائم عليه السلام الثاني عشر من الائمة عليهم السلام لم يجز إلا أن يعتقد أنه لو بقي في غيبته ما بقي لم يکن القائم غيره، وإنه لو لم يبق من الدنيا إلا يوم واحد لطول الله ذلک اليوم حتي يخرج فيملاها قسطا وعدلا کما ملئت جورا وظلما کما روي عن النبي صلي الله عليه وآله و عن الائمة عليهما السلام بعده.
ولا يحصل لنا الاسلام إلا بالتسليم لهم فيما يرد ويصح عنهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
وما في الازمنة المتقدمة من أهل الدين والزهد والورع إلا مغيبين لاشخاصهم مستترين لامرهم، يظهرون عند الامکان والامن ويغيبون عند العجز والخوف وهذا سبيل الدنيا من إبتدائها إلي وقتنا هذا، فکيف صار أمر القائم عليه السلام في غيبته من دون جميع الامور منکرا إلا لما في نفوس الجاحدين من الکفر والضلال وعداوة الدين وأهله وبغض النبي والائمة بعده عليهم السلام.
(حدثنا أحمد بن الحسن القطان قال: حدثنا الحسن بن علي السکري [97] قال: حدثنا محمد بن زکريا قال:) فقد بلغني أن ملکا من ملوک الهند کان کثير الجند واسع المملکة
[ صفحه 236]
مهيبا في أنفس الناس، مظفرا علي الاعداء، وکان مع ذلک عظيم النهمة [98] في شهوات الدنيا ولذاتها وملاهيها، مؤثرا لهواه، مطيعا له، وکان أحب الناس إليه وانصحهم له في نفسه من زين له حاله وحسن رأيه، وابغض الناس واغشيهم له في نفسه من امره بغيرها وترک امره فيها،، وکان قد أصاب الملک فيها في حداثة سنة وعنفوان شبابه وکان له رأي أصيل ولسان بليغ ومعرفة بتدبير الناس، وضبطهم، فعرف الناس ذلک منه فانقادوا له، وخضع له کل صعب وذلول، واجتمع له سکر الشباب وسکر السلطان، والشهوة والعجب، ثم قوي ذلک ما أصاب من الظفر علي من ناصبه والقهر لاهل مملکته، وانقياد الناس له، فاستطال علي الناس واحتقرهم، ثم ازداد عجبا برأيه ونفسه لما مدحه الناس وزينوا أمره عنده، فکان لاهمة له إلا الدنيا وکانت الدنيا له مؤاتية، لا يريد منها شيئا إلا ناله، غير أنه کان مئناثا [99] لا يولد له ذکر، وقد کان الدين فشا في أرضه قبل ملکه، وکثر أهله، فزين له الشيطان عداوة الدين وأهله وأضر بأهل الدين فأقصاهم مخافة علي ملکه، وقرب أهل الاوثان، وصنع لهم أصناما من ذهب وفضة، وفضلهم وشرفهم، وسجد لا صنامهم.
فلما رأي الناس ذلک منه سارعوا إلي عبادة الاوثان والاستخفاف بأهل الدين، ثم إن الملک سأل يوما عن رجل من أهل بلاده کانت له منه منزلة حسنة ومکانة رفيعة وکان أراد ليستعين به علي بعض اموره ويحبه ويکرمه، فقيل له: أيها الملک أنه قد خلع الدنيا وخلا منها ولحق بالنساک فثقل ذلک علي الملک، وشق عليه، ثم إنه أرسل إليه فأتي به، فلما نظر إليه في زي النساک وتخشعهم زبره وشتمه [100] .
[ صفحه 237]
وقال له: بينا أنت من عبيدي وعيون أهل مملکتي ووجهم وأشرافهم إذ فضحت نفسک وضيعت أهلک ومالک واتبعت أهل البطالة والخسارة حتي صرت ضحکه ومثلا، وقد کنت أعددتک لمهم اموري، والاستعانة بک علي ما ينوبني، فقال له: أيها الملک إنه إن لم يکن لي عليک حق فلعقلک عليک حق، فاستمع قولي بغير غضب، ثم ائمر بما بدالک بعد الفهم والتثبيت، فإن الغضب عدو العقل، ولذلک يحول بين صاحبه وبين الفهم، قال الملک: قل ما بدالک.
قال الناسک: فإني أسألک أيها الملک أفي ذنبي علي نفسي عتبت علي أم في ذنب مني إليک سالف؟.
قال الملک: إن ذنبک إلي نفسک أعظم الذنوب عندي، وليس کلما أراد رجل من رعيتي أن يهلک نفسه اخلي بينه وبين ذلک، ولکني أعد إهلاکه نفسه کإهلاکه لغيره ممن أنا وليه والحاکم عليه وله، فأنا أحکم عليک لنفسک وآخذ لها منک إذ ضيعت أنت ذلک، فقال له الناسک: أراک أيها الملک لا تأخذني إلا بحجة ولانفاذ لحجة إلا عند قاض، وليس عليک من الناس قاض، لکن عندک قضاة وأنت لاحکامهم منفذ، وأنا ببعضهم راض، ومن بعضهم مشفق.
قال الملک: وما أولئک القضاة؟ قال: أما الذي أرضي قضاءه فعقلک، وأما الذي أنا مشفق منه فهواک، قال الملک: قل ما بدالک وأصدقني خبرک ومتي کان هذا رأيک؟ ومن أغواک؟ قال: أما خبري فإني کنت سمعت کلمة في حداثة سني وقعت في قلبي فصارت کالحبة المزروعة، ثم لم تزل تنمي حتي صارت شجرة إلي ما تري، وذلک؟ أني (کنت) قد سمعت قائلا يقول: يحسب الجاهل الامر الذي هو لا شيء شيئا والامر الذي هو الشيء لا شيء، ومن لم يرفض الامر الذي هو لا شيء لم ينل الامر الذي هو الشيء، ومن لم يبصر الامر الذي هو الشيء لم تطب نفسه برفض الامر الذي هو لا شيء، والشيء هو الاخرة، واللاشيء هو الدنيا، فکان لهذه الکلمة عندي قرار لاني وجدت الدنيا حياتها موتا وغناها فقرا، وفرحها ترحا، وصحتها سقما، وقوتها ضعفا، وعزها ذلا، وکيف لا تکون حياتها موتا، وإنما يحيي فيما صاحبها ليموت،
[ صفحه 238]
وهو من الموت علي يقين، ومن الحياة علي قلعة، وکيف لا يکون غناؤها فقرا وليس يصيب أحد منها شيئا إلا احتاج لذلک الشيء إلي شيء آخر يصلحه وإلي أشياء لابد له منها.
ومثل ذلک أن الرجل ربما يحتاج إلي دابة فإذا أصابها احتاج إلي علفها و قيمها ومربطها [101] وأدواتها، ثم احتاج لکل شيء من ذلک إلي شيء آخر يصلحه وإلي أشياء لابد له منها، فمتي تنقضي حاجة من هو کذلک وفاقته؟ وکيف لا يکون فرحها ترحا وهي مرصدة لکل من أصاب منها قرة عين أن يري من ذلک الامر بعينه أضعافه من الحزن، إن رأي سرورا في ولده فما ينتظر من الاحزان في موته وسقمه وجايحة ان أصابته أعظم من سروره به، وإن رأي السرور في مال فما يتخوف من التلف أن يدخل عليه أعظم من سروره بالمال، فإذا کان الامر کذلک فأحق الناس بأن لا يتلبس بشيء منها لمن عرف هذا منها. وکيف لا يکون صحتها سقما وإنما صحتها من أخلاطها وأصح أخلاطها وأقربها من الحياة الدم، وأظهر ما يکون الانسان دما أخلق ما يکون صاحبه بموت الفجأة، والذبحة والطاعون [102] والاکلة والبرسام، وکيف لا يکون قوتها ضعفا وإنما تجمع القوي فيها ما يضره ويوبقه، وکيف لا يکون عزها ذلا ولم ير فيها عز قط إلا أورث أهله ذلا طويلا، غير أن أيام العز قصيرة، وأيام الذل طويلة، فأحق الناس بذم الدنيا لمن بسطت له الدنيا فأصاب حاجته منها فهو يتوقع کل يوم وليلة وساعة وطرفة عين أن يعدي علي ماله فيجتاح، وعلي حميمه فيختطف وعلي جمعه فينهب، وأن يؤتي بنيانه من القواعد فيهدم، وأن يدب الموت إلي حشده فيستأصل، ويفجع بکل ما هو به ضنين.
فأذم إليک أيها الملک الدنيا الاخذة ما تعطي، والمورثة بعد ذلک التبعة، السلابة
لمن تکسو، والمورثة بعد ذلک العري، المواضعة لمن ترفع، والمورثة بعد ذلک الجزع، التارکة لمن يعشقها، والمورثة بعد ذلک الشقوة، المغوية لمن أطاعها واغتر بها، الغدارة بمن ائتمنها ورکن إليها، هي المرکب القموص [103] والصاحب الخؤون، و الطريق الزلق، والمهبط المهوي، هي المکرمة التي لا تکرم أحدا إلا أهانته، المحبوبة التي لا تحب أحدا، الملزومة التي لا تلزم أحدا، يوفي لها وتغدر، ويصدق لها و تکذب، وينجز لها وتخلف، هي المعوجة لمن استقام بها، المتلاعبة بمن استمکنت [104] منه، بينا هي تطعمه إذ حولته مأکولا، وبينا هي تخدمه إذ جعلته خادما، وبينا هي تضحکه إذ ضحکت منه، وبينا هي تشمته إذ شمتت منه [105] وبينا هي تبکيه إذا بکت عليه، وبينا هي قد بسطت يده بالعطية إذ بسطتها بالمسألة، وبينا هو فيها عزيز إذ أذلته وبينا هو فيها مکرم إذ أهانته، وبينا هو فيها معظم إذ صار محقورا، وبينا هو رفيع إذ وضعته، وبينا هي له مطيعة إذ عصته، وبينا هو فيها مسرور إذ أحزنته، وبينا هو فيها شبعان إذ أجاعته، وبينا هو فيها حي إذ أماتته.
فاف لها من دار إذ کان هذا فعالها، وهذه صفتها، تضع التاج علي رأسه غدوة وتعفر خدة بالتراب عشية، وتحلي الايدي بأسورة الذهب عشية، وتجعلها في الاغلال غدوة، وتقعد الرجل علي السرير غدوة، وترمي به في السجن عشية، تفرش له الديباج عشية، تفرش له التراب غدوة، وتجمع له الملاهي والمعازف غدوة، و تجمع عليه النوائح والنوادب عشية، تحبب إلي أهله قربه عشية، وتحبب إليهم بعده غدوة، تطيب ريحه غدوة وتنتن ريحه عشية، فهو متوقع لسطواتها، غير ناج من فتنتها وبلائها، تمتع نفسه من أحاديثها وعينه من أعاجيبها، ويده مملوءة من جمعها ثم تصبح الکف صفرا، والعين هامدة، ذهب ما ذهب، وهوي ما هوي، وباد ما باد،
[ صفحه 239]
وهلک ما هلک، تجد في کل من کل خلفا، وترضي بکل من کل بدلا، تسکن دار کل قرن قرنا، وتطعم سؤر کل قوم قوما، تقعد الاراذل مکان الافاضل، والعجزة مکان الحزمة [106] تنقل أقواما من الجدب إلي الخصب، [107] ومن الرجلة إلي المرکب ومن البؤس إلي النعمة، ومن الشدة إلي الرخاء، ومن الشقاء إلي الخفض والدعة حتي إذا غمستهم في ذلک انقلبت بهم فسلبتهم الخصب، ونزعت منهم القوة. فعادوا إلي أبأس البؤس، وأفقر الفقر، وأجدب الجدب.
فأما قولک أيها الملک في إضاعة الاهل وترکهم فإني لم أضيعهم، ولم أترکهم بل وصلتهم وانقطعت إليهم، ولکني کنت وأنا أنظر بعين مسحورة لا أعرف بها الاهل من الغرباء ولا الاعداء من الاولياء، فلما انجلي عني السحر استبدلت بالعين المسحورة عينا صحيحة، واستبنت الاعداء من الاولياء، والاقرباء من الغرباء، فإذا الذين کنت أعدهم أهلين وأصدقاء وإخوانا وخلطاء إنما هو سباع ضارية [108] لاهمة لهم إلا أن تأکلني وتأکل بي، غير أن اختلاف منازلهم في ذلک علي قدر القوة، فمنهم کالاسد في شدة السورة [109] ومنهم کالذئب في الغارة والنهبة، ومنهم کالکلب في الهرير والبصبصة، ومنهم کالثعلب في الحيلة السرقة، فالطرق واحدة والقلوب مختلفة.
فلو أنک أيها الملک في عظيم ما أنت فيه من ملکک، وکثرة من تبعک ومن أهلک وجنودک وحاشيتک وأهل طاعتک، نظرت في أمرک عرفت أنک فريد وحيد، ليس معک أحد من جميع أهل الارض، وذلک أنک قد عرفت أن عامة الامم عدو لک، وأن هذه الامة التي اوتيت الملک عليها کثيرة الحسد [110] من أهل العداوة والغش لک الذين هم أشد عداوة لک من السباع الضارية، وأشد حنقا عليک من کل الامم
[ صفحه 240]
الغريبة، وإذا صرت إلي أهل طاعتک ومعونتک وقرابتک وجدت لهم قوما يعملون عملا باجر، يحرصون مع ذلک أن ينقصوک من العمل فيزدادوک من الاجر، و إذا صرت الي أهل خاصتک وقرابتک صرت الي قوم جعلت کدک وحدک [111] وکدحک ومهناک وکسبک لهم، فانت تودي إليهم کل يوم الضريبه، وليس کلهم وان وزعت بينهم جميع کدک عنک براض فإن أنت حبست عنهم ذلک فليس منهم البتة راض، أفلا تري أنک أيها الملک وحيد لا أهل لک ولا مال.
فأما أنا فإن لي أهلا ومالا وإخوانا وأخوات وأولياء، لا يأکلوني، ولا يأکلون بي، يحبوني واحبهم، فلا يفقد الحب بيننا، ينصحوني وأنصحهم فلا غش بيننا، ويصدقوني، واصدقهم فلا تکاذب بيننا، ويوالوني واواليهم فلا عداوة بيننا، ينصروني وأنصرهم فلا تخاذل بيننا، يطلبون الخير الذي إن طلبته معهم لم يخافوا أن أغلبهم عليه أؤ أستأثر به دونهم، فلا فساد بيننا ولا تحاسد، يعملون لي وأعمل لهم باجور لا تنفد ولا يزال العمل قائما بيننا، هم هداتي إن ضللت، نور بصري إن عميت، وحصني إن اتيت، ومجني إن رميت [112] وأعواني إذا فزعت، وقد تنزهنا عن البيوت و المخاني [113] فلا نريدها وترکنا الذخاير والمکاسب لاهل الدنيا فلا تکاثر بيننا ولا تباغي، ولا تباغض، ولا تفاسد، ولا تحاسد، ولا تقاطع، فهؤلاء أهلي أيها الملک وإخواني وأقربائي وأحبائي، وأحببتهم وانقطعت إليهم، وترکت الذين کنت أنظر إليهم بالعين المسحورة لما عرفتهم، والتمست السلامة منهم.
فهذه الدنيا أيها الملک التي أخبرتک أنها لا شيء فهذا نسبها وحسبها ومصيرها إلي ما قد سمعت، وقد رفضتها لما عرفتها، وأبصرت الامر الذي هو الشيء فإن کنت تحب أيها الملک أن أصف لک ما أعرف عن أمر الاخرة التي هي الشيء فاستعد إلي السماع، تسمع غير ما کنت تسمع به من الاشياء.
[ صفحه 241]
فلم يزد الملک عليه إلا أن قال له: کذبت لم تصب شيئا، ولم تظفر إلا بالشقاء والعناء، فاخرج ولا تقيمن في شيء من مملکتي، فإنک فاسد مفسد.
وولد للملک في تلک الايام بعد إياسه من الذکور غلام لم ير الناس مولودا مثله قط حسنا وجمالا وضياء، فبلغ السرور من الملک مبلغا عظيما کاد أن يشرف منه علي هلاک نفسه من الفرح، وزعم أن الاوثان التي کان يعبدها هي التي وهبت له الغلام، فقسم عامة ما کان في بيوت أمواله علي بيوت أوثانه، وأمر الناس بالاکل والشرب سنة وسمي الغلام يوذاسف [114] وجمع العلماء والمنجمين لتقويم ميلاده، فرفع المنجمون إليه أنهم يجدون الغلام يبلغ من الشرف والمنزلة ما لا يبلغه أحد قط في أرض الهند، واتفقوا علي ذلک جميعا، غير أن رجلا قال: ما أظن الشرف والمنزلة والفضل الذي وجدناه يبلغه هذا الغلام إلا شرف الاخرة ولا أحسبه إلا أن يکون إماما في الدين والنسک وذا فضيلة في درجات الاخرة لاني أري الشرف الذي تبلغه ليس يشبه شيئا من شرف الدنيا وهو شبيه بشرف الاخرة. فوقع ذلک القول من الملک موقعا کاد أن ينغصه سروره بالغلام، وکان المنجم الذي أخبره بذلک من أوثق المنجمين في نفسه وأعلمهم وأصدقهم عنده، وأمر الملک للغلام بمدينة فأخلاها وتخير له من الظؤورة [115] والخدم کل ثقة، وتقدم إليهم أن لا يذکر فيما بينهم موت ولا آخرة ولا حزن ولا مرض ولا فناء حتي تعتاد ذلک ألسنتهم وتنساه قلوبهم، وأمرهم إذا بلغ الغلام أن لا ينطقوا عنده بذکر شيء مما يتخوفونه عليه خشية أن يقع في قلبه منه شيء فيکون ذلک داعية إلي اهتمامه بالدين والنسک، وأن يتحفظوا ويتحرزوا من
[ صفحه 242]
ذلک، ويتفقد بعضهم من بعض.
وازداد الملک عند ذلک حنقا علي النساک مخافة علي ابنه.
وکان لذلک الملک وزير قد کفل أمره وحمل عنه مؤونة سلطانه، وکان لا يخونه ولا يکذبه ولا يکتمه، ولا يؤثر عليه، ولا يتواني في شيء من عمله، ولا يضيعه، وکان الوزير مع ذلک رجلا لطيفا طلقا معروفا بالخير، يحبه الناس ويرضون به إلا أن أحباء الملک وأقرباءه کانوا يحسدونه، ويبغون عليه، ويستقلون بمکانه. [116] .
ثم إن الملک خرج ذات يوم إلي الصيد ومعه ذلک الوزير فأتي به في شعب من الشعاب علي رجل قد أصابته زمانة شديدة في رجليه، ملقي في أصل شجرة لا يستطيع براحا [117] فسأله الوزير عن شأنه فأخبره أن السباع أصابته، فرق له الوزير فقال له الرجل: ضمني إليک واحملني إلي منزلک فإنک تجد عندي منفعة، فقال الوزير: إني لفاعل وإن لم أجد عندک منفعة، ولکن يا هذا ما المنفعة التي تعدنيها، هل تعمل عملا أو تحسن شيئا؟ فقال الرجل: نعم أنا أرتق الکلام [118] فقال: وکيف ترتق الکلام قال: إذا کان فيه فتق أرتقه حتي لا يجيئ من قبله فساد، فلم ير الوزير قوله شيئا، وأمر بحمله إلي منزله وأمر له بما يصلحه حتي إذا کان بعد ذلک احتال أحباء الملک للوزير وضربوا له الامور ظهرا وبطنا فأجمع رأيهم علي أن دسوا رجلا منهم إلي الملک، فقا له أيها الملک إن هذا الوزير يطمع في ملکک أن يغلب عليه من بعدک فهو يصانع الناس علي ذلک، ويعمل عليه دائبا، فإن أردت أن تعلم صدق ذلک فأخبره أنه قد بدا لک أن ترفض الملک وتلحق بالنساک، فإنک ستري من فرحه بذلک ما تعرف به أمره، وکان القوم قد عرفوا من الوزير رقة عند ذکر فناء الدنيا و الموت ولينا للنساک وحبا لهم فعملوا فيه من الوجه الذي ظنوا أنهم يظفرون بحاجتهم
[ صفحه 243]
منه، فقال الملک: لئن أنا هجمت منه علي هذا لم أسأل عما سواه، فلما أدخل عليه الوزير قال له الملک: إنک قد عرفت حرصي علي الدنيا وطلب الملک وإني قد ذکرت ما مضي من ذلک فلم أجد معي منه طائلا، وقد عرفت أن الذي بقي منه کالذي مضي فإنه يوشک أن ينقضي ذلک کله بأجمعة فلا يصير في يدي منه شيء، وأنا اريد أن أعمل في حال الاخرة عملا قويا علي قدر ما کان من عملي في الدنيا، وقد بدا لي أن الحق بالنساک واخلي هذا العمل لاهله فما رأيک؟ قال: فرق الوزير لذلک رقة شديدة حتي عرف الملک ذلک منه، ثم قال: أيها الملک إن الباقي وإن کان عزيزا لاهل أن يطلب، وإن الفاني وإن استمکنت منه لاهل أن يرفض، ونعم الرأي رأيت، وإني لارجو أن يجمع الله لک مع الدنيا شرف الاخرة، قال: فکبر ذلک علي الملک ووقع منه کل موقع ولم يبدله شيئا غير أن الوزير عرف الثقل في وجهه فانصرف إلي أهله کئيبا حزينا لا يدري من أين اتي ولا من دهاه [119] ولا يدري ما دواء الملک فيما استنکر عليه فسهر لذلک عامة الليل، ثم ذکر الرجل الذي زعم أنه يرتق الکلام فأرسل إليه فاتي به فقال له: إنک کنت ذکرت لي ذکرا من رتق الکلام فقال الرجل أجل فهل احتجت إلي شيء من ذلک؟ فقال الوزير: نعم اخبرک أني صحبت هذا الملک قبل ملکه ومنذ صار ملکا فلم أستنکره فيما بيني وبينه قط لما يعرفه من نصيحتي وشفقتي وإيثاري إياه علي نفسي وعلي جميع الناس، حتي إذا کان هذا اليوم استنکرته استنکارا شديدا لا أظن لي خيرا عنده بعده، فقال له الراتق: هل لذلک سبب أو علة، قال الوزير: نعم دعاني أمس وقال لي کذا وکذا فقلت له کذا وکذا، فقال: من ههنا جاء الفتق وأنا وأرتقه إن شاء الله.
إعلم أن الملک قد ظن أنک تحب أن يتخلي هو عن ملکه وتخلفه أنت فيه فإذا کان عند الصبح فاطرح عنک ثيابک وحليتک وألبس أوضع ما تجده من ذي النساک وأشهره، ثم احلق رأسک وامض علي وجهک إلي باب الملک فإن الملک سيدعو بک و يسألک عن الذي صنعت فقل له: هذا الذي دعوتني إليه ولا ينبغي لاحد أن يشير
[ صفحه 244]
علي صاحبه بشيء إلا واساه فيه وصبر عليه، وما أظن الذي دعوتني إليه إلا خيرا مما نحن فيه، فقم إذا بدا لک، ففعل الوزير ذلک فتخلي عن نفس الملک ما کان فيها عليه.
ثم أمر الملک بنفي النساک من جميع بلاده وتوعدهم بالقتل، فجدوا في الهرب والاستخفاء، ثم إن الملک خرج ذات يوم متصيدا فوقع بصره علي شخصين من بعيد فأرسل إليهما فاتي بهما فإذا هما ناسکان فقال لهما: ما بالکما لن تخرجا من بلادي قالا: قد أتتنا رسلک ونحن علي سبيل الخروج، قال: ولم خرجتما راجلين، قالا: لانا قوم ضعفاء ليس لنا دواب ولا زاد ولا نستطيع الخروج إلا التقصير، قال الملک إن من خاف الموت أسرع بغير دابة ولا زاد، فقالا له: إنا لا نخاف الموت بل لا ننظر قرة عين في شيء من الاشياء إلا فيه.
قال الملک: وکيف لا تخافان الموت وقد زعمتما أن رسلنا لما أتتکم وأنتم علي سبيل الخروج أفليس هذا هو الهرب من الموت؟ قالا: إن الهرب من الموت ليس من الفرق [120] فلا تظن أنا فرقناک ولکنا هربنا من أن نعينک علي أنفسنا، فأسف الملک و أمر بهما أن يحرقا بالنار، وأذن في أهل مملکته بأخذ النساک وتحريقهم بالنار فتجرد رؤساء عبدة الاوثان في طلبهم وأخذوا منهم بشرا کثيرا وأحرقوهم بالنار، فمن ثم صار التحريق سنة باقية في أرض الهند، وبقي في جميع تلک الارض قوم قليل من النساک کرهوا الخروج من البلاد، واختاروا الغيبة والاستخفاء ليکونوا دعاء وهداة لمن وصلوا إلي کلامهم.
فنبت ابن الملک أحسن نبات في جمسه وعقله وعلمه ورأيه، ولکنه لم يؤخذ بشيء من الاداب إلا بما يحتاج إليه الملوک مما ليس فيه ذکر موت ولا زوال و لا فناء واوتي الغلام من العلم والحفظ شيئا کان عند الناس من العجائب، وکان أبوه لا يدري أيفرح بما اوتي ابنه من ذلک أو يحزن له لما يتحوف عليه أن يدعوه ذلک إلي ما قيل فيه.
[ صفحه 245]
فلما فطن الغلام بحصرهم إياه في المدينة ومنعهم إياه من الخروج والنظر والاستماع وتحفظهم عليه ارتاب لذلک وسکت عنه وقال في نفسه هؤلاء أعلم بما يصلحني مني حتي إذا ازداد بالسن والتجربة علما قال: ما أري لهؤلاء علي فضلا وما أنا بحقيق أن اقلدهم أمري، فأراد أن يکلم أباه إذا دخل عليه ويسأله عن سبب حصره إياه، ثم قال: ما هذا الامر إلا من قبله وما کان ليطلعني عليه ولکني حقيق أن ألتمس علم ذلک من حيث أرجو إدراکه، وکان في خدمه رجل کان ألطفهم به وأرأفهم به، وکان الغلام إليه مستأنسا فطمع الغلام في إصابة الخبر من قبل ذلک الرجل فازداد له ملاطفة وبه استيناسا، ثم إن الغلام واضعه الکلام في بعض الليل باللين وأخبره أنه بمنزلة والده وأولي الناس به، ثم أخذه بالترغيب والترهيب وقال له: إني لاظن هذا الملک صائر لي بعد والدي وأنت فيه صائر أحد رجلين إما أعظم الناس منه منزلة وإما أسوء الناس حالا، قال له الخاضن [121] وبأي شيء أتخوف في ملکک سوء الحال؟ قال: بأن تکتمني اليوم أمرا أفهمه غدا من غيرک، فأنتقم منک بأشد ما أقدر عليک، فعرف الحاضن منه الصدق وطمع منه في الوفاء فأفشي إليه خبره، والذي قال المنجمون لابيه، والذي حذر أبوه من ذلک، فشکر له الغلام ذلک وأطبق عليه حتي إذا دخل عليه أبوه.
قال: يا أبة إني وإن کنت صبيا فقد رأيت في نفسي واختلاف حالي أذکر من ذلک ما أذکر وأعرف بما لا أذکر منه ما أعرف وأنا أعرف أني لم أکن علي هذا المثال وأنک لم تکن علي هذه الحال، ولا أنت کائن عليها إلي الابد وسيغيرک الدهر عن حالک هذه، فلئن کنت أردت أن تخفي عني أمر الزوال فما خفي علي ذلک، ولئن کنت حبستني عن الخروج وحلت بيني وبين الناس لکيلا تتوق نفسي إلي غير ما أنا فيه لقد ترکتني بحصرک إياي، وإن نفسي لقلقة مما تحول بيني وبينه حتي ما لي هم
[ صفحه 246]
غيره، ولا أردت سواه حتي لا يطمئن قلبي إلي شيء مما أنا فيه ولا أنتفع به ولا آلفه، فخل عني وأعلمني بما تکره من ذلک وتحذره حتي أجتنبه وأوثر موافقتک ورضاک علي ما سواهما.
فلما سمع الملک ذلک من ابنه علم أنه قد علم ما الذي يکرهه وأنه من حبسه وحصره لا يزيده إلا إغراء وحرصا علي ما يحال بينه وبينه، فقال: يا بني ما أردت بحصري إياک إلا أن انحي عنک الاذي، فلا تري إلا ما يوافقک ولا تسمع إلا ما يسرک، فأما إذا کان هواک في غير ذلک فإن آثر الاشياء عندي ما رضيت وهويت.
ثم أمر الملک أصحابه أن يرکبوه في أحسن زينة وأن ينحوا عن طريقه کل منظر قبيح، وأن يعدوا له المعازف والملاهي ففعلوا ذلک، فجعل بعد رکبته تلک يکثر الرکوب، فمر ذات يوم علي طريق قد غفلوا عنه فأتي علي رجلين من السؤال [122] أحدهما قد تورم وذهب لحمه، واصفر جلده، وذهب ماء وجهه، وسمج منظره، والاخر أعمي يقوده قائد، فلما رأي ذلک اقشعر منهما وسأل عنهما فقيل له: إن هذا المورم من سقم باطن، وهذا الاعمي من زمانة، فقال ابن الملک: وإن هذا البلاء ليصيب غير واحد؟ قالوا: نعم فقال: هل يأمن أحد من نفسه أن يصيبه مثل هذا؟ قالوا: لا، وانصرف يومئذ مهموما ثقيلا محزونا باکيا مستخفا بما هو فيه من ملکه وملک أبيه فلبث بذلک أياما.
ثم رکب رکبة فأتي في مسيره علي شيخ کبير قد انحني من الکبر، وتبدل خلقه وابيض شعره، واسود لونه، وتقلص جلده [123] وقصر خطوه، فعجب منه وسأل عنه فقالوا: هذا الهرم، فقال: وفي کم تبلغ الرجل ما أري؟ قالوا: في مائة سنة أو نحو ذلک، وقال: فما وراء ذلک؟ قالوا: الموت، قال: فما يخلي بين الرجل وبين ما يريد من المدة؟ قالوا: لا وليصيرن إلي هذا في قليل من الايام، فقال: الشهر
[ صفحه 247]
ثلاثون يوما والسنة اثنا عشر شهرا وانقضاء العمر مائة سنة فما أسرع اليوم في الشهر، وما أسرع الشهر في السنة، وما أسرع السنة في العمر، فانصرف الغلام وهذا کلامه يبدؤه ويعيده مکررا له.
ثم سهر ليلته کلها وکان له قلب حي ذکي وعقل لا يستطيع معه نسيانا ولا غفلة فعلاه الحزن والاهتمام فانصرف نفسه عن الدنيا وشهواتها وکان في ذلک يداري أباه و يتلطف عنده وهو مع ذلک قد أصغي بسمعه إلي کل متکلم بکلمة طمع ان يسمع شيئا يدله علي غير ما هو فيه، وخلا بحاضنه الذي کان أفضي إليه بسره، فقال له: هل تعرف من الناس أحدا شأنه غير شأننا هذا، قال: نعم قد کان قوم يقال لهم: النساک، رفضوا الدنيا وطلبوا الاخرة، ولهم کلام، وعلم لا يدري ما هو، غير أن الناس عادوهم وأبغضوهم وحرقوهم، ونفاهم الملک عن هذه الارض، فلا يعلم اليوم ببلادنا منهم أحد فإنهم قد غيبوا أشخاصهم ينتظرون الفرج، وهذه سنة في أولياء الله قديمة يتعاطونها في دول الباطل، فاغتص لذلک الخبر فؤاده، وطال به اهتمامه، وصار کالرجل الملتمس ضالته التي لا بد له منها، وذاع خبره في آفاق الارض وشهر بتفکره وجماله وکماله وفهمه وعقله وزهادته في الدنيا وهوانها عليه. فبلغ ذلک رجلا من النساک يقال له: بلوهر، بأرض يقال لها: سرنديب، کان رجلا ناسکا حکيما فرکب البحر حتي أتي أرض سولابط، ثم عمد إلي باب ابن الملک فلزمه وطرح عنه زي النساک ولبس زي التجار وتردد إلي باب ابن الملک حتي عرف الاهل والاحباء والداخلين إليه، فلما استبان له لطف الحاضن بابن الملک، وحسن منزلته منه أطاف به بلوهر حتي أصاب منه خلوة، فقال له: إني رجل من تجار سرنديب، قدمت منذ أيام، ومعي سلعة نفيسة الثمن، عظيمة القدر، فأردت الثقة لنفسي فعليک وقع اختياري، وسلعتي خير من الکبريت الاحمر، وهي تبصر العميان، وتسمع الصم، وتداوي الاسقام، وتقوي من الضعف، وتعصم من الجنون، وتنصر علي العدو، ولم أر بهذا أحدا هو أحق، بها من هذا الفتي فإن رأيت أن تذکر له ذلک ذکرته فان کان له فيها حاجة أدخلتني عليه، فإنه لم يخف عنه فضل سلعتي لو قد نظر
[ صفحه 248]
إليها، قال الحاضن للحکيم: إنک لتقول شيئا ما سمعنا به من أحد قبلک ولا أري بک بأسا وما مثلي يذکر ما لا يدري ما هو، فأعرض علي سلعتک أنظر إليها فإن رأيت شيئا ينبغي لي أن أذکره ذکرته، قال له بلوهر: إني رجل طبيب وإني لاري في بصرک ضعفا فأخاف إن نظرت إلي سلعتي أن يلتمع بصرک، ولکن ابن الملک صحيح البصر حدث السن ولست أخاف عليه أن ينظر إلي سلعتي فإن رأي ما يعجبه کانت له مبذولة علي ما يحب وإن کان غير ذلک لم تدخل عليه مؤونة ولا منقصة، وهذا أمر عظيم لا يسعک أن تحرمه إياه أو تطويه دونه، فانطلق الحاضن إلي ابن الملک فأخبره خبر الرجل فحس قلب ابن الملک بأنه قد وجد حاجته، فقال: عجل إدخال الرجل علي ليلا وليکن ذلک في سرو کتمان، فإن مثل هذا لا يتهاون به.
فأمر الحاضن بلوهر بالتهيئ للدخول عليه، فحمل معه سفطا فيه کتب له، فقال الحاضن: ما هذا السفط؟ قال بلوهر: في هذا السفط سلعتي فإذا شئت فأدخلني عليه، فانطلق به حتي أدخله عليه فلما دخل عليه بلوهر سلم عليه وحياه وأحسن ابن الملک إجابته، وانصرف الحاضن، وقعد الحکيم عند الملک فأول ما قال له بلوهر: رأيتک يا ابن الملک زدتني في التحية علي ما تصنع بغلمانک وأشراف أهل بلادک؟ قال ابن الملک: ذلک لعظيم ما رجوت عندک، قال بلوهر: لئن فعلت ذلک بي فقد کان رجلا من المملوک في بعض الافاق يعرف بالخير ويرجي فبينا هو يسير يوما في موکبه إذ عرض له في مسيره رجلان ما شيان، لباسهما الخلقان، وعليهما أثر البؤس والضر، فلما نظر إليهما الملک لم يتمالک أن وقع علي الارض فحياهما وصافحهما، فلما رأي ذلک وزراؤه اشتد جزعهم مما صنع الملک فأتوا أخا له وکان جريا عليه فقالوا له: إن الملک أزري بنفسه، وفضح أهل مملکته، وخر عن دابة لانسانين دنيين، فعاتبه علي ذلک کيلا يعود، ولمه علي ما صنع، ففعل ذلک أخ الملک فأجابه الملک بجواب لا يدري ما حاله فيه أساخط عليه الملک أم راض عنه، فانصرف إلي منزله حتي إذا کان بعد أيام أمر الملک مناديا وکان يسمي منادي الموت فنادي في فناء داره، وکانت تلک سنتهم فيمن أرادوا قتله، فقامت النوائح والنوادب في دار أخ الملک ولبس ثياب الموتي وانتهي
[ صفحه 249]
إلي باب الملک وهو يبکي بکاء شديدا ونتف شعره، فلما بلغ ذلک الملک دعابه، فلما أذن له الملک دخل عليه ووقع علي الارض ونادي بالويل والثبور ورفع يده بالتضرع فقال له الملک: اقترب أيها السفيه أنت تجزع من مناد نادي علي بابک بأمر مخلوق وليس بأمر خالق، وأنا أخوک وقد تعلم أنه ليس لک إلي ذنب أقتلک عليه، ثم أنتم تلومونني علي وقوعي إلي الارض حين نظرت إلي منادي ربي إلي وأنا أعرف منکم بذنوبي، فاذهب فإني قد علمت أنه إنما استفزک وزرائي وسيعلمون خطأهم.
ثم أمر الملک بأربعة توابيت فصنعت له من خشب فطلي تابوتين منها بالذهب و تابوتين بالقار، فلما فرغ منها ملا تابوتي القار ذهبا وياقوتا وزبرجدا، وملأ تابوتي الذهب جيفا ودما وعذرة وشعرا، ثم جمع الوزراء والاشراف الذين ظن أنهم أنکروا صنيعه بالرجلين الضعيفين الناسکين فعرض عليهم التوابيت الاربعة وأمرهم بتقويمها فقالوا: أما في ظاهر الامر وما رأينا ومبلغ علمنا فإن تابوتي الذهب لا ثمن لهما لفضلهما وتابوتي القار لا ثمن لهما لرذالتهما، فقال الملک: أجل هذا لعلمکم بالاشياء ومبلغ رأيکم فيها، ثم أمر بتابوتي القار فنزعت عنهما صفايحهما فأضاء البيت بما فيهما من الجواهر فقال: هذان مثل الرجلين الذين ازدريتم لباسهما وظاهرهما وهما مملوءان علما وحکمة وصدقا وبرا وسائر مناقب الخير الذي هو أفضل من الياقوت واللؤلؤ والجوهر والذهب.
ثم أمر بتابوتي الذهب فنزع عنهما أثوابهما فاقشعر القوم من سوء منظرهما و تاذوا بريحهما نتنهما، فقال الملک: وهذان مثل القوم المتزينين بظاهر الکسوة واللباس وأجوافهما مملوءة جهالة وعمي وکذبا وجورا وسائر أنواع الشر التي هي أفظع وأشنع وأقذر من الجيف.
قال القوم للملک: قد فقهنا واتعظنا أيها الملک. ثم قال بلوهر: هذا مثلک يا ابن الملک فيما تلقيتني به من التحية والبشر فانتصب يوذاسف ـ ابن الملک ـ وکان متکئا، ثم قال: زدني مثلا قال الحکيم:
[ صفحه 250]
إن الزارع خرج ببذره الطيب ليبذره، فلما ملا کفيه ونثره وقع بعضه علي حافة الطريق فلم يلبث أن التقطه الطير ووقع بعضه علي صفاة قد أصابها ندي وطين فمکث حتي اهتز. فلما صارت عروقه إلي يبس الصفاة مات ويبس، ووقع بعضه بأرض ذات شوک فنبت حتي سنبل، وکاد أن يثمر فغمه الشوک فأبطله، وأما ما کان منه وقع في الارض الطيبة وإن کان قليلا فإنه سلم وطاب وزکي، فالزارع حامل الحکمة، وأما البذر ففنون الکلام، وأما ما وقع منه علي حافة الطريق فالتقطه الطير فما لا يجاوز السمع منه حتي يمر صفحا، وأما ما وقع علي الصخرة في الندي فيبس حين بلغت عروقه الصفاة فما استحلاه صاحبه حتي سمعه بفراغ قلبه وعرفه بفهمه ولم يفقه بحصافة ولا نية، وأما ما نبت منه وکاد أن يثمر فغمه الشوک فأهلکه فما وعاه صاحبه حتي إذا کان عند العمل به حفته الشهوات فأهلکته، وأما ما زکي وطاب و سلم منه وانتفع به فما رآه البصر ووعاه الحفظ، وأنفذه العزم بقمع الشهوات وتطهير القلوب من دنسها.
قال ابن الملک: إني أرجوا أن يکون ما تبذره أيها الحکيم ما يزکو ويسلم و يطيب، فاضرب لي مثل الدنيا وغرور أهلها بها.
قال بلوهر: بلغنا أن رجلا حمل عليه فيل مغتلم [124] فانطلق موليا هاربا وأتبعه الفيل حتي غشيه فاضطره إلي بئر فتدلي فيها وتعلق بغصنين نابتين علي شفير البئر و وقعت قدماه علي رؤوس حيات، فلما تبين له أنه متعلق بالغصنين فإذا في أصلهما جرذان يقرضان الغصنين، أحدهما أبيض والاخر أسود، فلما نظر إلي تحت قدميه، فإذا رؤوس أربع أفاع قد طلعن من جحرهن، فلما نظر إلي قعر البئر إذا بتنين فاغر فاه [125] نحوه يريد التقامه، فلما رفع رأسه إلي أعلا الغصنين إذا عليهما شيء من عسل النحل فيطعم من ذلک العسل، فألهاء ما طعم منه، وما نال من لذة العسل وحلاوته عن التفکر في
[ صفحه 251]
أمر الافاعي اللواتي لا يدري متي يبادرنه وألهاه عن التنين الذي لا يدري کيف مصيره بعد وقوعه في لهواته.
أما البئر فالدنيا مملوءة آفات وبلايا وشرورا، وأما الغصنان فالعمر، وأما الجرذان فالليل والنهار يسرعان في الاجل، وأما الافاعي الاربعة فالاخلاط الاربعة التي هي السموم القاتلة من المرة والبلغم والريح والدم التي لا يدري صاحبها متي تهيج به، وأما التنين الفاغر فاه ليلتقمه فالموت الراصد الطالب، أما العسل الذي اغتر به المغرور فما ينال الناس من لذة الدنيا وشهواتها ونعيمها ودعتها من لذة المطعم والمشرب والشم واللمس والسمع والبصر.
قال ابن الملک: إن هذا المثل عجيب وإن هذا التشبيه حق، فزدني مثلا للدنيا وصاحبها المغرور بها المتهاون بما ينفعه فيها؟
قال بلوهر: زعموا أن رجلا کان له ثلاثة قرناء، وکان قد آثر أحدهم علي الناس جميعا، ويرکب الاهوال والاخطار بسببه ويغرر بنفسه له، ويششغل ليله ونهاره في حاجته، وکان القرين الثاني دون الاول منزلة وهو علي ذلک حبيب إليه أمير عنده، يکرمه ويلاطفه ويخدمه ويطيعه ويبذل له ولا يغفل عنه، وکان القرين الثالث مجفوا محقورا مستثقلا، ليس له من وده وماله إلا أقله. حتي إذا نزل بالرجل الامر الذي يحتاج فيه إلي قرنائه الثلاثة، فأتاه زبانية الملک لذهبوا به ففزع إلي قرينه الاول فقال له: قد عرفت إيثاري إياک وبذل نفسي لک، وهذا اليوم يوم حاجتي إليک فماذا عندک؟ قال: ما أنا لک بصاحب وإن لي أصحابا يشغلوني عنک، هم اليوم أولي بي منک ولکن لعلي ازودک ثوبين لتنتفع بهما.
ثم فزع إلي قرينه الثاني ذي المحبة واللطف، فقال له: عرفت کرامتي إياک ولطفي بک وحرصي علي مسرتک، وهذا يوم حاجتي إليک فماذا عندک؟ فقال: إن أمر نفسي يشغلني عنک وعن أمرک، فاعمد لشأنک، واعلم أنه قد انقطع الذي بيني وبينک وأن طريقي غير طريقک إلا أني لعلي أخطو معک خطوات يسيره لا تنتفع بها، ثم أنصرف إلي ما هو أهم إلي منک
[ صفحه 252]
ثم فزع إلي قرينه الثالث الذي کان يحقره، ويعصيه ولا يلتفت إليه أيام رخائه فقال له: إني منک لمستح ولکن الحاجة اضطرتني إليک فماذا لي عندک؟ قال: لک عندي المواساة،: والمحافظة عليک، وقلة الغفلة عنک، فابشر وقر عينا فإني صاحبک الذي لا يخذلک ولا يسلمک، فلا يهمنک قلة ما أسلفتني واصطنعت إلي، فإني قد کنت أحفظ لک ذلک وأوفره عليک کله، ثم لم أرض لک بعد ذلک حتي اتجرت لک به فربحت أرباحا کثيرة، فلک اليوم عندي من ذلک أضعاف ما وضعت عندي منه فأبشر، وإني أرجو أن يکون في ذلک رضي الملک عنک اليوم وفرجا مما أنت فيه فقال الرجل عند ذلک: ما أدري علي أي الامرين أنا أشد حسرة عليه علي ما فرطت في القرين الصالح أم علي ما اجتهدت فيه من المحبة لقرين السوء؟.
قال بلوهر: فالقرين الاول هو المال، والقرين الثاني هو الاهل والولد، والقرين الثالث هو العمل الصالح.
قال ابن الملک: إن هذا هو الحق المبين فزدني مثلا للدنيا وغرورها وصاحبها المغرور بها، المطمئن إليها.
قال بلوهر: کان أهل مدينة يأتون الرجل الغريب الجاهل بأمرهم فيملکونه عليهم سنة فلا يشک أن ملکه دائم عليهم لجهالته بهم فإذا انقضت السنة أخرجوه من مدينتهم عريانا مجردا سليبا، فيقع في بلاء وشقاء لم يحدث به نفسه، فصار ما مضي عليه من ملکه وبالا وخزيا ومصيبة وأذي، ثم إن أهل تلک المدينة أخذوا رجلا آخر فملکوه عليهم فلما رأي الرجل غربته فيهم لم يستأنس بهم وطلب رجلا من أهل أرضه خيبرا بأمرهم حتي وجده فأفضي إليه بسر القوم وأشار إليه أن ينظر إلي الاموال التي في يديه فيخرج منها ما استطاع الاول فالاول حتي يحرزه في المکان الذي يخرجونه إليه فإذا أخرجه القوم صار إلي الکفاية والسعة بما قدم وأحرز، ففعل ما قال له الرجل ولم يضيع وصيته.
قال بلوهر: وإني لارجو أن تکون أنت ذلک الرجل يا ابن الملک الذي لم يستأنس
[ صفحه 253]
بالغرباء ولم يغتر بالسلطان، وأنا الرجل الذي طلبت ولک عندي الدلالة والمعرفة والمعونة.
قال ابن الملک: صدقت أيها الحکيم أنا ذلک الرجل وأنت طلبتي التي کنت طلبتها فصف لي أمر الاخرة تاما، فأما الدنيا فلعمري لقد صدقت ولقد رأيت منها ما يدلني علي فنائها ويزهدني فيها، ولم يزل أمرها حقيرا عندي.
قال بلوهر: إن الزهادة في الدنيا يا ابن الملک مفتاح الرغبة في الاخرة، ومن طلب الاخرة فأصاب بابها دخل ملکوتها وکيف لا تزهد في الدنيا يا ابن ملک وقد آتاک الله من العقل ما آتاک، وقد تري أن الدنيا کلها وإن کثرت إنما يجمعها أهلها لهذه الاجساد الفانية، والجسد لاقوام له، ولا امتناع به، فالحر يذيبه، والبرد يجمده، و السموم تتخلله، والماء يغرقه، والشمس تحرقه، والهواء يسقمه، والسباع يفترسه والطير تنقره، والحديد يقطعه والصدام يحطمه، ثم هم معجون بطينة من ألوان الاسقام والاوجاع والامراض، فهو مرتهن بها، مترقب لها، وجل منها، غير طامع في السلامة منها، ثم هو مقارن الافات السبع التي لا يتخلص منها ذو جسد وهي الجوع والظمأ والحر والبرد والوجع والخوف والموت.
فأما ما سألت عنه من الامر الاخرة، فإني أرجو أن تجد ما تحسبه بعيدا قريبا وما کنت تحسبه عسيرا ويسيرا، وما کنت تحسبه قليلا کثيرا.
قال ابن الملک: أيها الحکيم أرأيت القوم الذين کان والدي حرقهم بالنار و نفاهم أهم أصحابک؟ قال بلوهر: نعم، فإنه بلغني أن الناس اجتمعوا علي عداوتهم وسوء الثناء عليهم، قال بلوهر: نعم قد کان ذلک، قال: فما سبب ذلک أيها الحکيم قال بلوهر: أما قولک يا ابن الملک في سوء الثناء عليهم فما عسي أن يقولوا فيمن يصدق ولا يکذب، ويعلم ولا يجهل، ويکف ولا يؤذي، ويصلي ولا ينام، ويصوم ولا يفطر ويبتلي فيصبر، ويتفکر فيعتبر، ويطيب نفسه عن الاموال والاهلين، ولا يخافهم الناس علي أموالهم وأهليهم.
قال ابن الملک: فکيف اتفق الناس علي عداوتهم وهم فيما بينهم مختلفون؟
[ صفحه 254]
قال بلوهر: مثلهم في ذلک مثل کلاب اجتمعوا علي جيفة تنهشها ويهار بعضها بعضا، مختلفة الالوان والاجناس فبينا هي تقبل علي الجيفة إذ دني رجل منهم فترک بعضهن بعضا وأقبلن علي الرجل فيهرن عليه جميعا متعاويات عليه وليس للرجل في جيفتهن حاجة، ولا أراد أن ينازعهن فيها، ولکنهن عرفن غربته منهن فاستوحشن منه و استأنس بعضهن ببعض وإن کن مختلفات متعاديات فيما بينهن من قبل أن يرد الرجل عليهن.
قال بلوهر: فمثل الجيفة متاع الدنيا ومثل صنوف الکلاب ضروب الرجال الذين يقتتلون علي الدنيا ويهرقون دماءهم وينفقون لها أموالهم، ومثل الرجل الذي اجتمعت عليه الکلاب ولا حاجة له في جيفهن کمثل صاحب الدين الذي رفض الدنيا وخرج منها، فليس ينازع فيها أهلها ولا يمنع ذلک الناس من أن يعادونه لغربته عندهم، فإن عجبت فاعجب من الناس أنهم لاهمة لهم إلا الدنيا وجمعها والتکاثر والتفاخر والتغالب عليها حتي إذا رأوا من قد ترکها في أيديهم وتخلي عنها کانوا له أشد حنقا منهم للذي يشاحهم عليها، فأي حجة يا ابن الملک أدحض من تعاون المختلفين علي من لاحجة لهم عليه؟ قال ابن الملک: أعمد لحاجتي، قال بلوهر: إن الطبيب الرفيق إذ رأي الجسد قد أهلکته الاخلاط الفاسدة فأراد أن يقويه ويسمنه لم يغذه بالطعام الذي يکون منه اللحم والدم والقوة لانه يعلم أنه متي أدخل الطعام علي الاخلاط الفاسدة أضر بالجسد ولم ينفعه ولم يقوه، ولکن يبدأ بالادوية والحمية من الطعام، فإذا أذهب من جسده الاخلاط الفاسدة أقبل عليه بما يصلحه من الطعام، فحينئذ يجد طعم الطعام ويسمن ويقوي ويحمل الثقل بمشيئة الله عزوجل.
وقال ابن الملک أيها الحکيم: أخبرني ماذا تصيب من الطعام والشراب؟
قال الحکيم: زعموا أن ملکا من الملوک کان عظيم الملک کثير الجند والاموال وأنه بداله أن يغزو ملکا آخر ليزداد ملکا إلي ملکه ومالا إلي ماله، فسار إليه بالجنود والعدد والعدة، والنساء والاولاد والاثقال، فأقبلوا نحوه فظهروا عليه و
[ صفحه 255]
استباحوا عسکره فهرب وساق امرأته وأولاده صغارا فألجأه الطلب عند المساء إلي أجمة علي شاطئ النهر فدخلها مع أهله وولده وسيب دوابه مخافة أن تدل عليه بصهيلها فباتوا في الاجمة وهم يسمعون وقع حوافر الخيل من کل جانب فأصبح الرجل لا يطيق براحا، وأما النهر فلا يستطيع عبوره، وأما الفضاء فلا يستطيع الخروج إليه لمکان العدو، فهم في مکان ضيق قد أذا هم البرد وأهجرهم الخوف وطواهم الجوع، وليس لهم طعام ولا معهم زاد ولا إدام، وأولاده صغار جياع يبکون من الضر الذي قد أصابهم فمکث بذلک يومين، ثم إن أحد بنيه مات فألقوه في النهر فمکث بعد ذلک يوما آخر فقال الرجل لامرأته: إنا مشرفون علي الهلاک جميعا وإن بقي بعضنا وهلک بعضنا کان خيرا من أن نهلک جميعا وقد رأيت أن أعجل ذبح صبي من هؤلاء الصبيان فنجعله قوتا لنا ولاولادنا إلي أن يأتي الله عزوجل بالفرج فإن أخرنا ذلک هزل الصبيان حتي لا يشبع لحومهم ونضعف حتي لا نستطيع الحرکة إن وجدنا إلي ذلک سبيلا، وطاوعته امرأته فذبح بعض أولاده ووضعوه بينهم ينهشونه، فما ظنک يا ابن الملک بذلک المضطر؟ أکل الکلب المستکثر يأکل؟ أم أکل المضطر المستقل؟ قال ابن الملک: بل أکل المستقل، قال الحکيم: کذلک أکلي وشربي يا ابن الملک في الدنيا.
فقال له ابن الملک: أرأيت هذا الذي تدعوني إليه أيها الحکيم أهو شيء نظر الناس فيه بعقولهم وألبابهم حتي اختاروه علي ما سواه لانفسهم أم دعاهم الله إليه فأجابوا، قال الحکيم: علا هذا الامر ولطف عن أن يکون من أهل الارض أو برأيهم دبروه، ولو کان من أهل الارض لدعوا إلي عملها وزينتها وحفظها ودعتها ونعيمها ولذتها ولهوها ولعبها وشهواتها، ولکنه أمر غريب ودعوة من الله عزوجل ساطعة، وهدي مستقيم، ناقض علي أهل الدنيا أعمالهم، مخالف لهم، عائب عليهم، وطاعن ناقل لهم عن أهوائهم، داع لهم إلي طاعة ربهم، وإن ذلک لبين لمن تنبه، مکتوم عنده عن غير أهله حتي يظهر الله الحق بعد خفائه ويجعل کلمته العليا وکلمة الذين جهلوا السفلي.
[ صفحه 256]
قال ابن الملک: صدقت أيها الحکيم. ثم قال الحکيم: إن من الناس من تفکر قبل مجيئ الرسل عليهم السلام فأصاب، ومنهم من دعته الرسل بعد مجيئها فأجاب وأنت يا ابن الملک ممن تفکر بعقله فأصاب.
قال ابن الملک: فهل تعلم أحدا من الناس يدعو إلي التزهيد في الدنيا غيرکم؟ قال الحکيم: أما في بلادکم هذه فلا، وأما في سائر الامم ففيهم قوم ينتحلون الدين بألسنتهم ولم يستحقوه بأعمالهم، فاختلف سبيلنا وسبيلهم، قال ابن الملک: کيف صرتم أولي بالحق منهم [126] وإنما أتاکم هذا الامر الغريب من حيث أتاهم؟ قال الحکيم: الحق کله جاء من عند الله عزوجل وإنه تبارک وتعالي دعا العباد إليه فقبله قوم بحقه وشروطه حتي أدوه إلي أهله کما امروا، لم يظلموا ولم يخطئوا ولم يضيعوا وقبله آخرون فلم يقوموا بحقه وشروطه، ولم يؤدوه إلي أهله، ولم يکن لهم فيه عزيمة، ولا علي العمل به نية ضمير، فضيعوه واستثقلوه فالمضيع لا يکون مثل الحافظ، المفسد لا يکون کالمصلح، والصابر لا يکون کالجازع، فمن ههنا کنا نحن أحق به منهم وأولي.
ثم قال الحکيم: إنه ليس يجري علي لسان أحد منهم من الدين والتزهيد والدعاء إلي الاخرة إلا وقد اخذ ذلک عن أصل الحق [127] الذي عنه أخذنا، ولکنه فرق بيننا وبينهم أحداثهم التي أحدثوا وابتغاؤهم الدنيا وإخلادهم إليها، وذلک أن هذه الدعوة لم تزل تأتي وتظهر في الارض مع أنبياء الله ورسله صلوات الله عليهم في القرون الماضية علي ألسنة مختلفة متفرقة، وکان أهل دعوة الحق أمرهم مستقيم، وطريقهم واضح، ودعوتهم بينة، ولا فرقة بينهم ولا اختلاف، فکانت الرسل عليهم السلام إذا بلغوا رسالات ربهم، واحتجو الله تبارک وتعالي علي عباده بحجته وإقامة معالم الدين وأحکامه، قبضهم الله عزوجل إليه عند انقضاء آجالهم ومنتهي مدتهم، ومکثت الامة من الامم بعد نبيها برهة من دهرها لا تغير ولا تبدل ثم صار الناس بعد ذلک يحدثون
[ صفحه 257]
الاحداث ويتبعون الشهوات، ويضيعون العلم، فکان العالم البالغ المستبصر منهم يخفي شخصه ولا يظهر علمه، فيعرفونه باسمه ولا يهتدون إلي مکانه ولا يبقي منهم إلا الخسيس من أهل العلم، يستخف به أهل الجهل والباطل، فيخمل العلم ويظهر الجهل، ويتناسل القرون فلا يعرفون إلا الجهل والباطل، ويزداد الجهال استعالاء وکثرة، والعلماء خمولا وقلة، فحولوا معالم الله تبارک وتعالي عن وجوهها، وترکوا قصد سبيلها، وهم مع ذلک مقرون بتنزله، متبعون شبهه ابتغاء تأويله، متعلقون بصفته، تارکون لحقيقته، نابذون لاحکامه فکل صفة جاءت الرسل تدعوا إليها فنحن لهم موافقون في تلک الصفة، مخالفون لهم في أحکامهم وسيرتهم، لسنا نخالفهم في شيء إلا ولنا عليهم الحجة الواضحة والبينة العادلة من نعت ما في أيديهم من الکتب المنزلة من الله عزوجل، فکل متکلم منهم يتکلم بشيء من الحکمة فهي لنا وهي بيننا وبينهم تشهد لنا عليهم بأنها توافق صفتنا وسيرتنا وحکمنا، وتشهد عليهم بأنها مخالفة لسنتهم وأعمالهم، فليسوا يعرفون من الکتاب إلا وصفه، ولا من الدين إلا اسمه، فليسوا بأهل الکتاب حقيقة حتي يقيموه.
قال ابن الملک: فما بال الانبياء والرسل عليهم السلام يأتون في زمان دون زمان؟ قال الحکيم: إنما مثل ذلک کمثل ملک کانت له أرض موات لا عمران فيها، فلما أراد أن يقبل عليها بعمارته أرسل إليها رجلا جلدا أمينا ناصحا، ثم أمره أن يعمر تلک الارض وأن يغرس فيها صنوف الشجر وأنواع الزرع، ثم سمي له الملک ألوانا من الغرس معلومة، وأنواعا من الزرع معروفة، ثم أمره أن لا يعدو ما سمي له وأن لا يحدث فيها من قبله شيئا لم يکن أمره به سيده، وأمره أن يخرج لها نهرا ويسد عليها حائطا، ويمنعها من أن يفسدها مفسد، فجاء الرسول الذي أرسله الملک إلي تلک الارض فأحياها بعد موتها وعمرها بعد خرابها، وغرس فيها وزرع من الصنوف التي أمره بها، ثم ساق الماء إليها، حتي نبت الغرس واتصل الزرع، ثم لم يلبث قليلا حتي مات قيمها، وأقام بعده من يقوم مقامه وخلف من بعده خلف خالفوا من أقامه القيم بعده وغلبوه علي أمره، فأخرجوا العمران، وطموا الانهار،
فيبس الغرس، وهلک الزرع، فلما بلغ الملک خلافهم علي القيم بعد رسوله وخراب أرضه أرسل إليها رسولا آخر يحييها ويعيدها ويصلحها کما کانت في منزلتها الاولي، وکذلک الانبياء والرسل عليهم السلام يبعث الله عزوجل منهم الواحد بعد الواحد فيصلح أمر الناس بعد فساده.
قال ابن الملک: أيخص الانبياء والرسل عليهم السلام إذا جاءت بما يبعث به أم تعم؟
قال بلوهر: إن الانبياء والرسل إذا جاءت تدعوا عامة الناس فمن أطاعهم کان منهم، ومن عصاهم لم يکن منهم، وما تخلو الارض قط من أن يکون لله عز وجل فيها مطاع من أنبيائه ورسله ومن أو صيائه، وإنما مثل ذلک مثل طائر کان في ساحل البحر يقال له قدم [128] يبيض بيضا کثيرا وکان شديدا الحب للفراخ وکثرتها، وکان يأتي عليه زمان يتعذر عليه فيه ما يريده من ذلک، فلا يجد بدا من اتخاذ أرض اخري حتي يذهب ذلک الزمان فيأخذ بيضه مخافة عليه من أن يهلک من شفقته فيفرقه في أعشاش الطير فتحضن الطير بيضته مع بيضتها وتخرج فراخه مع فراخها، فإذا طال مکث فراخ قدم مع فراخ الطير ألفها بعض فراخ الطير واستأنس بها فإذا کان الزمان الذي ينصرف فيه قدم إلي مکانه مر بأعشاش الطير وأوکارها بالليل فأسمع فراخه وغيرها صوته فإذا سمعت فراخه صوته تبعته وتبع فراخه ما کان ألفها من فراخ سائر الطير ولم يجبه ما لم يکن من فراخه ولا ما لم يکن ألف فراخه وکان قد يضم إليه من أجابه من فراخه حبا للفراخ، وکذلک الانبياء إنما يستعرضون الناس جميعا بدعائهم فيجيبهم أهل الحکمة والعقل لمعرفتهم بفضل الحکمة، فمثل الطير الذي دعا بصوته مثل الانبياء والرسل التي تعم الناس بدعائهم، ومثل البيض المتفرق في أعشاش الطير مثل الحکمة، ومثل سائر فراخ الطير التي ألفت مع فراخ قدم مثل من أجاب الحکماء قبل مجيئ الرسل، لان الله عزوجل جعل لانبيائه ورسله من الفضل والرأي ما لم يجعل لغيرهم من الناس، وأعطاهم من الحجج والنور والضياء ما لم
[ صفحه 258]
يعط غيرهم، وذلک لما يريد من بلوغ رسالته ومواقع حججه، وکانت الرسل إذا جاءت وأظهرت دعوتها أجابهم من الناس أيضا من لم يکن أجاب الحکماء وذلک لما جعل الله عزوجل علي دعوتهم من الضياء والبرهان.
قال ابن الملک: أفرأيت ما يأتي به الرسل والانبياء إذ زعمت أنه ليس بکلام الناس، وکلام الله عزوجل هو کلام وکلام ملائکته کلام، قال الحکيم: أما رأيت الناس لما أرادوا أن يفهموا بعض الدواب والطير ما يريدون من تقدمها وتأخرها وإقبالها وإدبارها لم يجدوا الدواب والطير تحمل کلامهم الذي هو کلامهم، فوضعوا من النقر والصفير والزجر ما يبلغوا به حاجتهم وما عرفوا أنها تطيق حمله، وکذلک العباد يعجزوا أن يعلموا کلام الله عزوجل وکلام ملائکته علي کنهه وکماله ولطفه وصفته فصار ما تراجع الناس بينهم من الاصوات التي سمعوا بها الحکمة شبيها بما وضع الناس للدواب، والطير ولم يمنع ذلک الصوت مکان الحکمة المخبرة في تلک الاصوات من أن تکون الحکمة واضحة بينهم، قوية منيرة شريفة عظيمة، ولم يمنعها من وقوع معانيها علي مواقعها وبلوغ ما احتج به الله عزوجل علي العباد فيها وکان الصوت للحکمة جسدا ومسکنا، وکانت الحکمة للصوت نفسا وروحا، ولا طاقة للناس أن ينفذوا غور کلام الحکمة، ولا يحيطوا به بعقولهم، فمن قبل ذلک تفاضلت العلماء في علمهم، فلا يزال عالم يأخذ علمه من عالم حتي يرجع العلم إلي الله عزوجل الذي جاء من عنده، وکذلک العلماء قد يصيبون من الحکمة والعلم ما ينجيهم من الجهل، ولکن لکل ذي فضل فضله، کما أن الناس ينالون من ضوء الشمس ما ينتفعون به في معائشهم وأبدانهم ولا يقدرون أن ينفذوها بأبصارهم فهي کالعين الغزيرة، الظاهر مجراها، المکنون عنصرها، فالناس قد يجيبون بما ظهر لهم من مائها، ولا يدرکون غورها وهي کالنجوم الزاهرة التي يهتدي بها الناس، ولا يعلمون مساقطها، فالحکمة أشرف وأرفع وأعظم مما وصفناها به کله، هي مفتاح باب کل خير يرتجي، والنجاة من کل شر يتقي، وهي شراب الحياة التي من شرب منه لم يمت أبدا، و الشفاء للسقم الذي من استشفي به لم يسقم أبدا، والطريق المستقيم الذي من سلکه
[ صفحه 259]
لم يضل أبدا، هي حبل الله المتين الذي لا يخلقه طول التکرار، من تمسک به انجلي عنه العمي، ومن اعتصم به فاز واهتدي، وأخذ بالعروة الوثقي.
قال ابن الملک: فما بال هذه الحکمة التي وصفت بما وصفت من الفضل والشرف والارتفاع والقوة والمنفعة والکمال والبرهان لا ينتفع بها الناس کلهم جميعا؟.
قال الحکيم: إنما مثل الحکمة کمثل الشمس الطالعة علي جميع الناس الابيض والاسود منهم، والصغير والکبير، فمن أراد الانتفاع بها لم تمنعه ولم يحل بينه و بينها من أقربهم وأبعدهم، ومن لم يرد الانتفاع بها فلا حجة له عليها، ولا تمنع الشمس علي الناس جميعا، ولا يحول بين الناس وبين الانتفاع بها، وکذلک الحکمة وحالها بين الناس إلي يوم القيامة، والحکمة قد عمت الناس جميعا إلا أن الناس يتفاضلون في ذلک، والشمس ظاهرة إذ طلعت علي الابصار الناظرة فرقت بين الناس علي ثلاثة منازل فمنهم الصحيح البصر الذي ينفعه الضوء ويقوي علي النظر، ومنهم الاعمي القريب من الضوء الذي لو طلعت عليه شمس أو شموس لم تغن عنه شيئا، ومنهم المريض البصر الذي لا يعد في العميان ولا في أصحاب البصر، کذلک الحکمة هي شمس القلوب إذا طلعت تفرق علي ثلاث منازل: منزل لاهل البصر الذين يعقلون الحکمة فيکونون من أهلها، ويعملون بها، ومنزل لاهل العمي الذين تنبو الحکمة عن قلوبهم لا نکارهم الحکمة وترکهم قبولها کما ينبو ضوء الشمس عن العميان، ومنزل لاهل مرض القلوب الذين يقصر علمهم ويضعف عملهم ويستوي فيهم السيئ والحسن، والحق والباطل، وإن أکثر من تطلع عليه الشمس وهي الحکمة ممن يعمي عنها.
قال ابن الملک: فهل يسع الرجل الحکمة فلا يجيب إليها حتي يلبث زمانا ناکبا عنها، ثم يجيب ويراجعها؟ قال بلوهر: نعم هذا أکثر حالات الناس في الحکمة.
قال ابن الملک: تري والدي سمع شيئا من هذا الکلام قط؟ قال بلوهر: لاأراه سمع سماعا صحيحا رسخ في قلبه ولا کلمه فيه ناصح شفيق.
قال ابن الملک: وکيف ترک ذلک الحکماء منه طول دهرهم؟ قال بلوهر: ترکوه
[ صفحه 260]
لعلمهم بمواضع کلامهم، فربما ترکوا ذلک ممن هو أحسن إنصافا وألين عريکة وأحسن استماعا من أبيک حتي أن الرجل ليعاش الرجل طول عمره وبينهما الاستيناس والمودة والمفاوضة، ولا يفرق بينهما شيء إلا الدين والحکمة، وهو متفجع عليه، متوجع له، ثم لا يفضي إليه أسرار الحکمة إذ لم يره لها موضعا.
وقد بلغنا أن ملکا من الملوک کان عاقلا قريبا من الناس مصلحا لامورهم، حسن النظر والانصاف لهم، وکان له وزير صدق صالح يعينه علي الاصلاح ويکفيه مؤونته ويشاوره في اموره، وکان الوزير أديبا عاقلا، له دين وورع ونزاهة علي الدنيا، [129] وکان قد لقي أهل الدين، وسمع کلامهم، وعرف فضلهم، فأجابهم و انقطع إليهم بإخائه ووده، وکانت له من الملک منزلة حسنة وخاصة، وکان الملک لا يکتمه شيئا من أمره، وکان الوزير أيضا له بتلک المنزلة، إلا أنه لم يکن ليطلعه علي أمر الدين، ولا يفاوضه أسرار الحکمة، فعاشا بذلک زمانا طويلا، وکان الوزير کلما دخل علي الملک سجد الاصنام وعظمها وأخذ شيئا في طريق الجهالة والضلالة تقية له فأشفق الوزير علي الملک من ذلک واهتم به واستشار في ذلک أصحابه وإخوانه فقالوا له: انظر لنفسک وأصحابک فإن رأيته موضعا للکلام فکلمه وفاوضه وإلا فانک إنما تعينه علي نفسک، وتهيجه علي أهل دينک، فإن السلطان لا يغتر به، ولا تؤمن سطوته، فلم يزل الوزير علي اهتمامه به مصافيا له، رفيقا به رجاء أن يجد فرصة فينصحه أو يجد للکلام موضعا فيفاوضه، وکان الملک مع ضلالته متواضعا سهلا قريبا، حسن السيرة في رعيته، حريصا علي إصلاحهم، متفقدا لامورهم، فاصطحب الوزير (مع) الملک علي هذا برهة من زمانه.
ثم إن الملک قال للوزير ذات ليلة من الليالي بعد ما هدأت العيون: هل لک أن ترکب فنسير في المدينة فننظر إلي حال الناس وآثار الامطار التي أصابتهم في هذه الايام؟ فقال الوزير: نعم فرکبا جميعا يجولان في نواحي المدينة فمرا في بعض الطريق
[ صفحه 261]
علي مزبلة تشبه الجبل، فنظر الملک إلي ضوء النار تبدو في ناحية المزبلة، فقال للوزير: إن لهذه لقصة فانزل بنا نمشي حتي ندنو منها فنعلم خبرها، ففعلا ذلک فلما انتهيا إلي مخرج الضوء وجدا نقبا شبيها بالغار، وفيه مسکين من المساکين ثم نظرا في الغار من حيث لا يراهما الرجل فإذا الرجل مشوه الخلق، عليه ثياب خلقان من خلقان المزبلة، متکئ علي متکاء قد هيأه من الزبل، وبين يديه إبريق فخار، فيه شراب وفي يده طنبور، يضرب بيده وامرأته في مثل خلقه ولباسه قائمة بين يديه تسقيه إذا استسقي منها، وترقص له إذا ضرب، وتحييه بتحية الملوک کلما شرب، وهو يسميها سيدة النساء، وهما يصفان أنفسهما بالحسن والجمال وبينهما من السرور والضحک والطرب ما لا يوصف، فقام الملک علي رجليه مليا والوزير ينظر کذلک ويتعجبان من لذتهما وإعجابهما بما هما فيه، ثم انصرف الملک والوزير فقال الملک: ما أعلمني وإياک أصابنا الدهر من اللذة والسرور والفرح مثل ما أصاب هذين الليلة مع أني أظنهما يصنعان کل ليلة مثل هذا، فاغتنم الوزير ذلک منه، ووجد فرصة فقال له: أخاف أيها الملک أن يکون دنيانا هذه من الغرور ويکون ملکک وما نحن فيه من البهجة والسرور في أعين من يعرف الملکوت الدائم مثل هذه المزبلة، ومثل هذين الشخصين اللذين رأيناهما، وتکون مساکننا وما شيدنا منها عند من يرجو مساکن السعادة وثواب الاخرة مثل هذا الغار في أعيننا، وتکون أجسادنا عند من يعرف الطهارة والنضارة والحسن والصحة مثل جسد هذه المشوه الخلق في أعيننا، و يکون تعجبهم عن إعجابنا بما نحن فيه کتعجبنا من إعجاب هذين الشخصين بما هما فيه.
قال الملک وهل تعرف لهذه الصفة أهلا؟ قال الوزير: نعم، قال الملک: من هم؟ قال الوزير: أهل الدين الذي عرفوا ملک الاخرة ونعيمها فطلبوه، قال الملک: وما ملک الاخرة؟ قال الوزير هو النعيم الذي لا بؤس بعده، والغني الذي لافقر بعده، والفرح الذي لا ترح بعده، والصحة التي لاسقم بعدها، والرضي الذي لا سخط بعده، والامن الذي لا خوف بعده، والحياة التي لا موت
[ صفحه 262]
بعدها، والملک الذي لا زوال له، هي دار البقاء، ودار الحيوان، التي لا انقطاع لها، ولا تغير فيها، رفع الله عزوجل عن ساکنيها فيها السقم والهرم والشقاء والنصب والمرض والجوع والظمأ والموت، فهذه صفة ملک الاخرة وخبرها أيها الملک.
قال الملک: وهل تدرکون إلي هذه الدار مطلبا وإلي دخولها سبيلا؟ قال الوزير: نعم هي مهيأة لمن طلبها من وجه مطلبها، ومن أتاها من بابها ظفر بها، قال الملک: ما منعک أن تخبرني بهذا قبل اليوم؟ قال الوزير: منعني من ذلک إجلالک والهيبة لسلطانک، قال الملک: لئن کان هذا الامر الذي وصفت يقينا فلا ينبغي لنا أن نضيعه ولا نترک العمل به في إصابته، ولکنا نجتهد حتي يصح لنا خبره، قال الوزير: أفتأمرني أيها الملک أن أو اظب عليک في ذکره والتکرير له؟ قال الملک: بل آمرک أن لا تقطع عني ذکره ليلا ولا نهارا، ولا تريحني ولا تمسک عني ذکره فإن هذا أمر عجيب لا يتهاون به، ولا يغفل عن مثله، وکان سبيل ذلک الملک والوزير إلي النجاة.
قال ابن الملک: ما أنا بشاغل نفسي بشيء من هذه الامور عن هذا السبيل ولقد حدثت نفسي بالهرب معک في جوف الليل حيث بدالک أن تذهب.
قال بلوهر: وکيف تستطيع الذهاب معي والصبر علي صحبتي وليس لي جحر يأويني، ولا دابة تحملني، ولا أملک ذهبا، ولا فضة، ولا أدخر غذاء العشاء ولا يکون عندي فضل ثوب، ولا أستقر ببلدة إلا قليلا حتي أتحول عنها ولا أتزود من أرض إلي أرض أخري رغيفا أبدا.
قال ابن الملک: إني أرجو أن يقويني الذي قواک، قال بلوهر: أما إنک إن أبيت إلا صحبتي کنت خليقا أن يکون کالغني الذي صاهر الفقير.
قال يوذاسف: وکيف کان ذلک؟ قال بلوهر: زعموا أن فتي کان من أولاد الاغنياء فأراد أبوه أن يزوجه ابنة عم له ذات جمال ومال، فلم يوافق ذلک الفتي ولم يطلع أباه علي کراهته حتي خرج من عنده متوجها إلي أرض أخري، فمر
[ صفحه 263]
في طريقه علي جارية عليها ثياب خلقان لها، قائمة علي باب بيت من بيوت المساکين فأعجبته الجارية، فقال لها: من أنت أيتها الجارية؟ قالت: أنا ابنة شيخ کبير في هذا البيت، فنادي الفتي الشيخ فخرج إليه فقال له: هل تزوجني ابنتک هذه؟ قال: ما أنت بمتزوج لبنات الفقراء وأنت فتي من الاغنياء، قال: أعجبتني هذه الجارية ولقد خرجت هاربا من امرأة ذات حسب ومال أرادوا مني تزويجها، فکرهتها فزوجني ابنتک فإنک واجد عندي خيرا إن شاء الله.
قال الشيخ: کيف أزوجک ابنتي ونحن لا تطيب أنفسنا أن تنقلها عنا، ولا أحسب مع ذلک أن أهلک يرضون أن تنقلها إليهم، قال الفتي: فنحن معکم في منزلکم هذا، قال الشيخ: إن صدقت فيما تقول فاطرح عنک زيک وحليتک هذه، قال: ففعل الفتي ذلک وأخذ أطمارا رثة من أطمارهم فلبسها وقعد معهم، فسأله الشيخ عن شأنه وعرض له بالحديث حتي فتش عقله فعرف أنه صحيح العقل وأنه لم يحمله علي ما صنع السفه، فقال له الشيخ: أما إذا اخترتنا ورضيت بنا فقم معي إلي هذا السرب فأدخله فإذا خلف منزله بيوت ومساکن لم ير مثلها قط سعة وحسنا، وله خزائن من کل ما يحتاج إليه، ثم دفع إليه مفاتيحه وقال له: إن کل ما ههنا لک فاصنع به ما أجببت، فنعم الفتي أنت وأصاب الفتي ما کان يريده.
قال يوذاسف: إني لارجو أن أکون أنا صاحب هذا المثل إن الشيخ فتش عقل هذا الغلام حتي وثق به، فلعلک تطول بي علي تفتيش عقلي فأعلمني ما عندک في ذلک، قال الحکيم لو کان هذا الامر إلي لاکتفيت منک بأدني المشافهة ولکن فوق رأسي سنة قد سنها أئمة الهدي في بلوغ الغاية في التوفيق، وعلم ما في الصدور فأنا أخاف إن خالفت السنة أن أکون قد أحدثت بدعة، وأنا منصرف عنک الليلة وحاضر بابک في کل ليلة، ففکر في نفسک بهذا واتعظ به، وليحضرک فهمک وتثبت ولا تعجل بالتصديق لما يورده عليک همک حتي تعلمه بعد التؤدة والاناة وعليک بالاحتراس في ذلک أن يغلبک الهوي والميل إلي الشبهة والعمي، واجتهد في المسائل التي تظن أن
[ صفحه 264]
فيها شبهة، ثم کلمني فيها وأعلمني رأيک في الخروج إذا أردت، وافترقا علي هذا تلک الليلة.
ثم عاد الحکيم إليه فسلم عليه ودعا له، ثم جلس فکان من دعائه أن قال: أسأل الله الاول الذي لم يکن قبله شيء، والاخر الذي لا يبقي معه شيء، والباقي الذي لا منتهي له، والواحد الفرد الصمد الذي ليس معه غيره، والقاهر الذي لا شريک له، البديع الذي لا خالق معه، القادر الذي ليس له ضد، الصمد الذي ليس له ند، الملک الذي ليس معه أحد أن يجعلک ملکا عدلا، إماما في الهدي، قائدا إلي التقوي، ومبصرا من العمي، وزاهدا في الدنيا، ومحبا لذوي النهي، ومبغضا لاهل الردي حتي يفضي بنا وبک إلي ما وعد الله أوليائه علي ألسنة أنبيائه من جنته ورضوانه، فإن رغبتنا إلي الله في ذلک ساطعة، ورهبتنا منه باطنة، وأبصارنا إليه شاخصة [130] و أعناقنا له خاضعة، وأمورنا إليه صائرة.
فرق ابن الملک لذلک الدعاء رقة شديدة، وازداد في الخير رغبة، وقال متعجبا من قوله: أيها الحکيم أعلمني کم أتي لک من العمر؟ فقال: اثنتا عشر سنة، فارتاع لذلک، وقال: ابن اثنتي عشرة سنة طفل وأنت مع ما أري من التکهل لابن ستين سنة. قال الحکيم، أما المولد فقد راهق الستين سنة، ولکنک سألتني عن العمر وإنما العمر الحياة، ولا حياة إلا في الدين والعمل به، والتخلي من الدنيا ولم يکن ذلک لي إلا من اثنتي عشرة سنة، فأما قبل ذلک فإني کنت ميتا ولست أعتد في عمري بأيام الموت، قال ابن الملک: کيف تجعل الاکل والشارب والمتقلب ميتا؟ قال الحکيم: لانه شارک الموتي في العمي والصم والبکم وضعف الحياة وقلة الغني، فلما شارکهم في الصفة وافقهم في الاسم.
قال ابن الملک: لئن کنت لا تعد حياة ولا غبطة ما ينبغي لک أن تعد ما يتوقع من الموت موتا، ولا تراه مکروها، قال الحکيم: تغريري في الدخول عليک بنفسي يا ابن الملک مع علمي لسطوة أبيک علي أهل ديني يدلک علي أني [لا أري الموت موتا]
[ صفحه 265]
ولا أري هذه الحياة حياة، ولا ما أتوقع من الموت مکروها، فکيف يرغب في الحياة من قد ترک حظه منها؟ أو يهرب من الموت من قد أمات نفسه بيده، أو لا تري يا ابن الملک أن صاحب الدين قد رفض في الدنيا من أهله وماله وما لا يرغب في الحياة إلا له [131] واحتمل من نصب العبادة ما لا يريحه منه إلا الموت، فما حاجة من لا يتمتع بلذة الحياة إلي الحياة؟ أو مهرب من لا راحة له إلا في الموت من الموت.
قال ابن الملک: صدقت أيها الحکيم فهل يسرک أن ينزل بک الموت من غد؟ قال الحکيم: بل يسرني أن ينزل بي الليلة دون غد فإنه من عرف السيئ والحسن وعرف ثوابهما من الله عزوجل ترک السيئ مخافة عقابه، وعمل بالحسن رجاء ثوابه، ومن کان موقنا بالله وحده مصدقا بوعده فإنه يحب الموت لما يرجو بعد الموت من الرخاء ويزهد في الحياة لما يخاف علي نفسه من شهوات الدنيا والمعصية لله فيها فهو يحب الموت مبادرة من ذلک، فقال ابن الملک: إن هذا لخليق أن يبادر الهلکة لما يرجو في ذلک من النجاة فاضرب لي مثل امتنا هذه وعکوفها علي أصنامها.
قال الحکيم: إن رجلا کان له بستان يعمره ويحسن القيام عليه إذ رأي في بستانه ذات يوم عصفورا واقعا علي شجرة من شجر البستان يصيب من ثمرها، فغاضه ذلک فنصب فخا فصاده، فلما هم بذبحه أنطقه الله عزوجل بقدرته، فقال لصاحب البستان: إنک تهتم بذبحي وليس في ما يشبعک من جوع ولا يقويک من ضعف فهل لک في خير مما هممت به؟ قال الرجل: ما هو؟ قال العصفور: تخلي سبيلي واعلمک ثلاث کلمات إن أنت حفظتهن کن خيرا لک من أهل ومال هولک، قال: قد فعلت فأخبرني بهن، قال العصفور: احفظ عني ما أقول لک: لا تأس علي ما فاتک ولا تصدقن بما لا يکون: ولا تطلبن لا ما تطيق: فلما قضي الکلمات خلي سبيله، فطار فوقع علي بعض الاشجار، ثم قال للرجل: لو تعلم ما فاتک مني لعلمت أنک قد فاتک مني عظيم جسيم
[ صفحه 266]
من الامر، فقال الرجل وما ذاک؟ قال العصفور: لو کنت مضيت علي ما هممت به من ذبحي لا ستخرجت من حوصلتي درة کبيضة الوزة فکان لک في ذلک غني الدهر، فلما سمع الرجل منه ذلک أسر في نفسه ندما علي ما فاته، وقال: دع عنک ما مضي، وهلم أنطلق بک إلي منزلي فأحسن صحبتک وأکرم مثواک، فقال له العصفور: أيها الجاهل ما أراک حفظتني إذا ظفرت بي، ولا انتفعت بالکلمات التي افتديت بها منک نفسي، ألم أعهد إليک ألا تأس علي ما فاتک ولا تصدق ما لا يکون، ولا تطلب مالا يدرک؟ أما أنت متفجع علي ما فاتک وتلتمس مني رجعتي إليک وتطلب مالا تدرک وتصدق أن في حوصلتي درة کبيضة الوزة، وجميعي أصغر من بيضها، وقد کنت عهدت إليک أن لا تصدق بما لا يکون وأن أمتکم صنعوا أصنامهم بأيديهم ثم زعموا أنها هي التي خلقتهم وخفظوها من أن تسرق مخافة عليها وزعموا أنها هي التي تحفظهم، وأنفقوا عليها من مکاسبهم و أموالهم، وزعموا أنها هي التي ترزقهم فطلبوا من ذلک مالا يدرک وصدقوا بما لا يکون فلزمهم منه ما لزم صاحب البستان.
قال ابن الملک: صدقت أما الاصنام فإني لم أزل عارفا بأمرها، زاهدا فيها، آيسا من خيرها، فأخبرني بالذي تدعوني إليه والذي ارتضيته لنفسک ما هو؟
قال بلوهر: جماع الدين أمر ان أحدهما معرفة الله عزوجل والاخر العمل برضوانه، قال ابن الملک: وکيف معرفة الله عزوجل؟
قال الحکيم: أدعوک إلي أن تعلم أن الله واحد ليس له شريک، لم يزل فردا ربا، وما سواه مربوب، وأنه خالق وما سواه مخلوق، وأنه قديم وما سواه محدث، و أنه صانع وما سواه مصنوع، وأنه مدبر وما سواه مدبر، وأنه باق وما سواه فان، وأنه عزيز وما سواه ذليل، وأنه لا ينام ولا يغفل ولا يأکل ولا يشرب ولا يضعف ولا يغلب ولا يضجر، ولا يعجزه شيء، لم تمتنع منه السماوات والارض والهواء والبر والبحر، وأنه کون الاشياء لا من شيء، وأنه لم يزل ولا يزال، ولا تحدث فيه الحوادث، ولا تغيره الاحوال، ولا تبدله الازمان، ولا يتغير من حال إلي حال، ولا يخلو منه مکان، ولا يشتغل به مکان، ولا يکون من مکان أقرب منه إلي مکان، ولا
[ صفحه 267]
يغيب عنه شيء، عالم لا يخفي عليه شيء، قدير لا يفوته شيء، وأن تعرفه بالرأفة و الرحمة والعدل، وأن له ثوابا أعده لمن أطاعه، وعذابا أعده لمن عصاه، وأن تعمل لله برضاه، وتجتنب سخطه.
قال ابن الملک: فما رضي الواحد الخالق من الاعمال؟ قال الحکيم: يا ابن الملک رضاه أن تطيعه ولا تعصيه، وأن تأتي إلي غيرک ما تحب أن يؤتي إليک، وتکف عن غيرک ما تحب أن يکف عنک في مثله، فان ذلک عدل وفي العدل رضاه، وفي اتباع آثار أنبياء الله ورسله بأن لا تعدو سنتهم.
قال ابن الملک: زدني أيها الحکيم تزهيدا في الدنيا وأخبرني بحالها.
قال الحکيم: إني لما رأيت الدنيا دار تصرف وزوال وتقلب من حال إلي حال، ورأيت أهلها فيها أغراضا للمصائب، ورهائن للمتالف، ورأيت صحة بعدها سقما، وشبابا بعده هرما، وغني بعده فقرا، وفرحا بعده حزنا، وعزا بعده ذلا، و رخاء بعده شدة، وأمنا بعده خوفا، وحياة بعدها مماة، ورأيت أعمارا قصيرة وحتوفا راصدة [132] وسهاما قاصدة، وأبدانا ضعيفة مستسلمة غير ممتنعة ولا حصينة، وعرفت أن الدنيا منقطعة بالية فانية، وعرفت بما ظهر لي منها ما غاب عني منها، وعرفت بظاهرها باطنها، وغامضها بواضحها، وسرها بعلانيتها، وصدورها بورودها، فحذرتها لما عرفتها، وفررت منها لما أبصرتها، بينا تري المرء فيها مغتبطا محبورا [133] وملکا مسرورا [134] في خفض ودعة ونعمة وسعة، في بهجة من شبابه، وحداثة من سنه، وغبطة من ملکه، وبهاء من سلطانه، وصحة من بدنه إذا انقلبت الدنيا به أسر ما کان فيها نفسا، وأقر ما کان فيها عينا، فأخرجته من ملکها وغبطتها وخفضها ودعتها وبهجتها، فأبدلته بالعز ذلا، وبالفرح ترحا، وبالسرور حزنا، وبالنعمة بؤسا، وبالغني فقرا، وبالسعة ضيقا، وبالشباب هرما، وبالشرف ضعة، وبالحياة موتا، فدلته في حفرة ضيقة شديدة الوحشة، وحيدا فريدا غريبا قد فارق الاحبة وفارقوه، وخذله إخوانه
[ صفحه 268]
فلم يجد عندهم منعا وغره أعداؤه فلم يجد عندهم دفعا، وصار عزه وملکه وأهله وماله نهبة من بعده، کأن لم يکن في الدنيا ولم يذکر فيها ساعة قط ولم يکن له فيها خطر، ولم يملک من الارض حظا قط، فلا تتخذها يا ابن الملک دارا، ولا تتخذن فيها عقدة [135] ولا عقارا، فاف لها وتف.
قال ابن الملک: اف لها ولمن يغتر بها إذا کان هذا حالها. ورق ابن الملک وقال: زدني أيها الملک الحکيم من حديثک فإنه شفاء لما في صدري.
قال الحکيم: إن العمر قصير، والليل والنهار يسرعان فيه، والارتحال من الدنيا حثيث قريب، وإنه وإن طال العمر فيها فإن الموت نازل، والظاعن لا محالة راحل فيصير ما جمع فيها مفرقا، وما عمل فيها متبرا، وما شيد فيها خرابا، ويصير اسمه مجهولا، وذکره منسيا، وحسبه خاملا، وجسده باليا، وشرفه وضيعا، ونعمته وبالا، وکسبه خسارا، ويورث سلطانه، ويستذل عقبه، ويستباح حريمه، وتنقض عهوده، وتخفر ذمته، وتدرس آثاره، ويوزع ماله، ويطوي رحله، ويفرح عدوه ويبيد ملکه، ويورث تاجه، ويخلف علي سريره، ويخرج من مساکنه مسلوبا مخذولا فيذهب به إلي قبره، فيدلي في حفرته في وحدة وغربة وظلمة ووحشة ومسکنة وذلة، قد فارق الاحبة وأسلمته العصبة فلا تؤنس وحشته أبدا، ولا ترد غربته أبدا، واعلم أنها يحق علي المرء اللبيب من سياسة نفسه خاصة کسياسة الامام العادل الحازم الذي يؤدب العامة، ويستصلح الرعية، ويأمرهم بما يصلحهم، وينهاهم عما يفسدهم، ثم يعاقب من عصاه منهم، ويکرم من أطاعه منهم، فکذلک للرجل اللبيب أن يؤدب نفسه في جميع أخلاقها وأهوائها وشهواتها وأن تحملها وإن کرهت علي لزوم منافعها فيما أحبت وکرهت، وعلي اجتناب مضارها، وأن يجعل لنفسه عن نفسه ثوابا وعقابا من مکانها من السرور إذا أحسنت، ومن مکانها من الغم إذا أساءت، ومما يحق علي ذي العقل النظر فيما ورد عليه من أموره، والاخذ بصوابها، وينهي نفسه عن خطائها،
[ صفحه 269]
وأن يحتقر عمله ونفسه في رأيه لکيلا يدخله عجب، فإن الله عزوجل قد مدح أهل العقل وذم أهل العجب، ومن لا عقل له: وبالعقل يدرک کل خير بإذن الله تبارک وتعالي وبالجهل تهلک النفوس، وإن من أوثق الثقات عند ذوي الالباب ما أدرکته عقولهم، وبلغته تجاربهم، ونالته أبصارهم في الترک للاهواء والشهوات، وليس ذوا العقل بجدير أن يرفض ما قوي علي حفظه من العمل احتقارا له إذا لم يقدر علي ما هو أکثر منه، وإنما هذا من أسلحة الشيطان الغامضة التي لا يبصرها إلا من تدبرها، ولا يسلم منها إلا من عصمه الله منها، ومن رأس أسلحته سلاحان أحدهما إنکار العقل أن يوقع في قلب الانسان العاقل أنه لا عقل له ولا بصر ولا منفعة له في عقله وبصره، ويريد أن يصده عن محبة العلم وطلبه، ويزين له الاشتغال بغيره من ملاهي الدنيا، فإن اتبعه الانسان من هذا الوجه فهو ظفره، وإن عصاه وغلبه فزع إلي السلاح الاخر وهو أن يجعل الانسان إذا عمل شيئا وأبصر عرض له بأشياء لا يبصرها ليغمه ويضجزه بما لا يعلم حتي يبغض إليه ما هو فيه بتضعيف عقله عنده، وبما يأتيه من الشبهة، ويقول: ألست تري أنک لا تستکمل هذا الامر ولا تطيقه أبدا فبم تعني نفسک وتشقيها فيما لا طاقه لک به، فبهذا السلاح صرع کثيرا من الناس، فاحترس من أن تدع اکتساب علم ما تعلمه وأن تخدع عما اکتسبت منه، فإنک في دار قد استخوذ علي أکثر أهلها الشيطان بألوان حيله ووجوه ضلالته، ومنهم من قد ضرب علي سمعه وعقله وقلبه فترکه لا يعلم شيئا، ولا يسأل عن علم ما يجهل منه کالبهيمة، وإن لعامتهم أديانا مختلفة فمنهم المجتهدون في الضلالة حتي أن بعضهم ليستحل دم بعض وأموالهم، ويموه ضلالتهم بأشياء من الحق ليلبس عليهم دينهم، ويزينه لضعيفهم، ويصدهم عن الدين القيم، فالشيطان وجنوده دائبون في إهلاک الناس، وتضليلهم لا يسأمون، ولا يفترون ولا يحصي عددهم إلا الله، ولا يستطاع دفع مکائدهم إلا بعون من الله عزوجل والاعتصام بدينه، فنسأل الله توفيقا لطاعته ونصرا علي عدونا، فإنه لا حول ولا قوة إلا بالله.
[ صفحه 270]
قال ابن الملک: صف لي الله سبحانه وتعالي حتي کأني أراه، قال: إن الله تقدس ذکره لا يوصف بالرؤية، ولا يبلغ بالعقول کنه صفته، ولا تبلغ الالسن کنه مدحته، ولا يحيط العباد من علمه إلا بما علمهم منه علي ألسنة أنبيائه عليهم السلام بما وصف به نفسه، ولا تدرک الاوهام عظم ربوبيته، هو أعلي من ذلک و أجل وأعز واعظم وأمنع وألطف، فباح للعباد من علمه بما أحب، وأظهرهم من صفته علي ما أراد، ودلهم علي معرفته ومعرفة ربوبيته بإحداث ما لم يکن، و إعدام ما أحدث.
قال ابن الملک: وما الحجة؟ قال: إذا رأيت شيئا مصنوعا غاب عنک صانعه علمت بعقلک أن له صانعا، فکذلک السماء والارض وما بينهما، فأي حجة أقوي من ذلک.
قال ابن الملک: فأخبرني أيها الحکيم أبقدر من الله عزوجل يصيب الناس ما يصيبهم من الاسقام والاوجاع والفقر والمکاره أو بغيره قدر.
قال بلوهر: لا بل بقدر، قال: فأخبرني عن أعمالهم السيئة، قال: إن الله عزوجل من سيئ أعمالهم برئ ولکنه عزوجل أوجب الثواب العظيم لمن أطاعه والعقاب الشديد لمن عصاه.
قال: فأخبرني من أعدل الناس، ومن أجورهم، ومن أکسيم ومن أحمقهم، ومن أشقاهم ومن أسعدهم؟ قال: أعدلهم أنصفهم من نفسه وأجورهم من کان جوره عنده عدلا وعدل أهل العدل عنده جورا، وأما أکسيهم فمن أخذ لاخرته اهبتها [136] وأحمقهم من کانت الدنيا همه، والخطايا عمله، وأسعدهم من ختم عاقبة عمله بخير، وأشقاهم من ختم له بما يسخط الله عزوجل.
ثم قال: من دان الناس بما إن دين بمثله هلک فذلک المسخط لله، المخالف لما يحب، ومن دانهم بما إن دين بمثله صلح فذلک المطيع لله الموافق لما يحب
[ صفحه 271]
المجتنب لسخطه، ثم قال: لا تستقبحن الحسن وإن کان في الفجار، ولا تستحسنن القبيح وإن کان في الابرار.
ثم قال له: أخبرني أي الناس أولي بالسعادة؟ وأيهم أولي بالشقاوة؟.
قال بلوهر: أولاهم بالسعادة المطيع لله عزوجل في أوامره، والمجتنب لنواهية، وأولاهم بالشقاوة العامل بمعصية الله، التارک لطاعته، المؤثر لشهوته علي رضي الله عزوجل، قال: فأي الناس أطوعهم لله عزوجل؟ قال: أتبعهم لامره، وأقواهم في دينه وأبعدهم من العمل باسيئات، قال: فما الحسنات والسيئات؟ قال: الحسنات صدق النية والعمل، والقول الطيب، والعمل الصالح، والسيئات سوء النية، وسوء العمل، والقول السيئ، قال: فما صدق النية؟ قال: الاقتصاد في الهمة، قال: فما سوء [137] القول؟ قال: الکذب، قال: فما سوء العمل؟ قال: معصية الله عزوجل قال: أخبرني کيف الاقتصاد في الهمة؟ قال: التذکر لزوال الدنيا وانقطاع أمرها، والکف عن الامور التي فيها النقمة والتبعة في الاخرة.
قال: فما السخاء؟ قال: إعطاء المال في سبيل الله عزوجل، قال: فما الکرم؟ قال: التقوي، قال: فما البخل؟ قال: منع الحقوق عن أهلها وأخذها من غير وجهها قال: فما الحرص؟ قال: الاخلاد إلي الدنيا، والطماح إلي الامور التي فيها الفساد وثمرتها عقوبة الاخرة، قال: فما الصدق؟ قال: الطريقة في الدين بأن لا يخادع المرء نفسه ولا يکذبها، قال: فما الحمق؟ قال: الطمأنينة إلي الدنيا وترک ما يدوم ويبقي، قال: فما الکذب؟ قال: أن يکذب المرء نفسه فلا يزال بهواه شعفا ولدينه مسوفا، قال: أي الرجال أکملهم في الصلاح؟ قال: أکملهم في العقل وأبصرهم بعواقب الامور، وأعلمهم بخصومة، وأشدهم منهم احتراسا، قال: أخبرني ما تلک العاقبة وما اولئک الخصماء الذين يعرفهم العاقل فيحترس منهم؟ قال: العاقبة الاخرة والفناء الدنيا، قال: فما الخصماء؟ قال: الحرص والغضب والحسد الحمية والشهوة والرياء واللجاجة.
[ صفحه 272]
قال: أي هؤلاء الذين عددت أقوي وأجدر أن يسلم منه؟ قال: الحرص أقل رضا وأفحش غضبا، والغضب أجور سلطانا وأقل شکرا وأکسب للبغضاء، والحسد أسوء الخيبة للنية، وأخلف للظن، والحمية أشد لجاجة وأفظع معصية، والحقد أطول توقدا وأقل رحمة وأشد سطوة، والرياء أشد خديعة، وأخفي اکتتاما وأکذب، واللجاجة أعي خصومة، وأقطع معذرة.
قال: أي مکائد الشيطان للناس في هلاکهم أبلغ؟ قال: تعميته عليهم البر والاثم والثواب والعقاب وعواقب الامور في ارتکاب الشهوات، قال: أخبرني بالقوة التي قوي الله عزوجل بها العباد في تغالب تلک الامور السيئة والاهواء المردية؟ قال: العلم والعقل والعمل بهما، وصبر النفس عن شهواتها، والرجاء للثواب في الدين، وکثرة الذکر لفناء الدنيا، وقرب الاجل، والاحتفاط من أن ينقض ما يبقي بما يفني، فاعتبار ماضي الامور بعاقبتها والاحتفاظ بما لا يعرف إلا عند ذوي العقول وکف النفس عن العادة السيئة وحملها علي العادة الحسنة، والخلق المحمود، وأن يکون أمل المرء بقدر عيشه حتي يبلغ غايته، فإن ذلک هو القنوع وعمل الصبر والرضا بالکفاف واللزوم للقضاء والمعرفة بما فيه في الشدة من التعب و ما في الافراط من الاقتراف، وحسن العزاء عمافات، وطيب النفس عنه وترک معالجة ما لا يتم، والصبر بالامور التي إليها يرد، واختيار سبيل الرشد علي سبيل الغي، وتوطين النفس علي أنه إن عمل خيرا أجزي به وإن عمل شرا أجزي به والمعرفة بالحقوق والحدود في التقوي وعمل النصيحة وکف النفس عن اتباع الهوي. ورکوب الشهوات، وحمل الامور علي الرأي والاخذ بالحزم والقوة، فإن أتاه البلاء أتاه وهو معذور غير ملوم.
قال ابن الملک: أي الاخلاق أکرم وأعز؟ قال: التواضع ولين الکلمة اللاخوان في الله عزوجل، قال: أي العبادة أحسن؟ قال: الوقار والمودة قال: فأخبرني أي الشيم أفضل؟ قال: حب الصالحين، قال: أي الذکر أفضل، قال: ما کان في الامر بالمعروف والنهي عن المنکر، قال: فأي الخصوم ألد؟ قال: ارتکاب الذنوب، قال ابن
[ صفحه 273]
الملک: أخبرني أي الفضل أفضل؟ قال: الرضا بالکفاف، قال: أخبرني أي الادب أحسن؟ قال: أدب الدين، قال: أي الشيء أجفا؟ قال: السلطان العاتي، والقلب القاسي، قال: أي شيء أبعد غاية، قال: عين الحريص التي لا تشبع من الدنيا، قال: أي الامور أخبث عاقبة؟ قال: التماس رضي الناس في سخط الرب عز وجل، قال: أي شيء أسرع تقلبا، قال: قلوب الملوک الذين يعملون للدنيا، قال: فأخبرني أي الفجور أفحش؟ قال: إعطاء عهد الله والغدر فيه، قال: فأي شيء أسرع انقطاعا، قال: مودة الفاسق، قال: فأي شيء أخون؟ قال: لسان الکاذب، قال: فأي شيء أشد اکتتاما؟ قال: شر المرائي المخادع، قال: فأي شيء أشبه بأحوال الدنيا، قال: أحلام النائم، قال: أي الرجال أفضل رضي؟ قال: أحسنهم ظنا بالله عزوجل وأتقاهم وأقلهم غفلة عن ذکر الله وذکر الموت وانقطاع المدة. قال أي شيء من الدنيا أقر للعين، قال: الولد الاديب والزوجة الموافقة المؤاتية المعينة علي أمر الاخرة، قال: أي الداء ألزم في الدنيا؟ قال: الولد السوء والزوجة السوء اللذين لا يجد منهما بدا، قال: أي الخفض أخفض؟ قال: رضي المرء بحظه واستيناسه بالصالحين.
ثم قال ابن الملک للحکيم: فرغ لي ذهنک فقد أردت مساءلتک عن أهم الاشياء إلي بعد إذ بصرني الله عزوجل من أمري ما کنت به جاهلا، ورزقني من الدين ما کنت منه آيسا.
قال الحکيم: سل عما بدالک، قال ابن الملک: أرأيت من أوتي الملک طفلا ودينه عبادة الاوثان وقد غذي بلذات الدنيا واعتادها ونشأ فيها إلي أن کان رجلا وکهلا، لا ينتقل من حالته تلک في جهالته بالله تعالي ذکره وإعطائه نفسه شهواتها متجردا لبلوغ الغاية فيما زين له من تلک الشهوات مشتغلا بها، مؤثرا لها، جريا عليها، لا يري الرشد إلا فيها، ولا تزيده الايام إلا حبالها واغترارا بها، وعجبا وحبا لاهل ملته ورأيه.
وقد دعته بصيرته في ذلک إلي أن جهل أمر آخرته وأغفلها فاستخف
[ صفحه 274]
بها وسها عنها قساوة قلب وخبث نية وسوء رأي، واشتدت عداوته لمن خالفه من أهل الدين والاستخفاء بالحق والمغيبين لاشخاصهم انتظارا للفرج من ظلمه و عداوته هل يطمع له إن طال عمره في النزوع عما هو عليه؟ والخروج منه إلي ما الفضل فيه بين والحجة فيه واضحة؟ والحظ جزيل من لزوم ما أبصر من الدين فيأتي ما يرجي له (به) مغفرة لما قد سلف من ذنوبه وحسن الثواب في مآبه. قال الحکيم: قد عرفت هذه الصفة، وما دعاک إلي هذه المسألة.
قال ابن الملک: ما ذاک منک بمستنکر لفضل ما أوتيت من الفهم وخصصت به من العلم.
قال الحکيم: أما صاحب هذه الصفة فالملک والذي دعاک إليه العناية بما سألت عنه، والاهتمام به من أمره، والشفقة عليه من عذاب ما أوعد الله عزوجل من کان علي مثل رأيه وطبعه وهواه، مع ما نويت من ثواب الله تعالي ذکره في أداء حق ما أوجب الله عليک له، وأحسبک تريد بلوغ غاية العذر في التلطف لانقاذه وإخراجه عن عظيم الهول ودائم البلاء الذي لا انقطاع له من عذاب الله إلي السلامة وراحة الابد في ملکوت السماء.
قال ابن الملک: لم تجرم [138] حرفا عما أردت فأعلمني رأيک فيما عنيت من أمر الملک وحاله التي أتخوف أن يدرکه الموت عليها فتصيبه الحسرة والندامة حين لا أغني عنه شيئا فاجعلني منه علي يقين وفرج عما أنا به مغموم شديد الاهتمام به فإني قليل الحيلة فيه.
قال الحکيم: أما رأينا فإنا لا نبعد مخلوقا من رحمة الله خالقه عزوجل ولا نأيس له منها ما دام فيه الروح، وإن کان عاتيا طاغيا ضالا لما قد وصف ربنا تبارک وتعالي به نفسه من التحنن والرأفة والرحمة ودل عليه من الايمان وما أمر به من
[ صفحه 275]
الاستغفار والتوبة وفي هذا فضل الطمع لک في حاجتک إن شاء الله، وزعموا أنه کان في زمن من الازمان ملک عظيم الصوت في العلم، رفيق سايس يحب العدل في أمته والاصلاح لرعيته، عاش بذلک زمانا بخير حال، ثم هلک فجزعت عليه أمته وکان بامرأة له حمل فذکر المنجمون والکهنة أنه غلام وکان يدبر ملکهم من کان يلي ذلک في زمان ملکهم فاتفق الامر کما ذکره المنجمون والکهنة وولد من ذلک الحمل غلام فأقاموا عند ميلاده سنة بالمعازف والملاهي والاشربة والا طعمة، ثم إن أهل العلم منهم والفقة والربانيين قالوا لعامتهم: إن هذا المولود إنما هو هبة من الله تعالي وقد جعلتم الشکر لغيره وإن کان هبة من غير الله عزوجل فقد أديتم الحق إلي من أعطاکموه واجتهدتم في الشکر لمن رزقکموه، فقال لهم العامة: ما وهبه لنا إلا الله تبارک وتعالي، ولاامتن به علينا غيره، قال العلماء: فإن کان الله عزوجل هو الذي وهبه لکم فقد أرضيتم غير الذي أعطاکم وأسخطهم الله الذي وهبه لکم فقالت لهم الرعية: فأشيروا لنا أيها الحکماء وأخبرونا أيها العلماء فنتبع قولکم ونتقبل نصيحتکم، ومرونا بأمرکم، قالت العلماء: فإنا نري لکم أن تعدلوا عن اتباع مرضات الشيطان بالمعازف والملاهي والمسکر إلي ابتغاء مرضات الله عزوجل وشکره علي ما أنعم به عليکم أضعاف شکرکم للشيطان حتي يغفر لکم ما کان منکم قالت الرعية: لا تحمل أجسادنا کل الذي قلتم وأمرتم به، قالت العلماء: يا أولي الجهل کيف أطعتم من لاحق له عليکم وتعصون من له الحق الواجب عليکم وکيف قويتم علي ما لا ينبغي وتضعفون عما ينبغي؟! قالوا لهم: يا أئمة الحکماء عظمت فينا الشهوات وکثرت فينا اللذات فقوينا بما عظم فينا منها علي العظيم من شکلها و ضعفت منا النيات فعجزنا عن حمل المثقلات فارضوا منا في الرجوع عن ذلک يوما فيوما، ولا تکلفونا کل هذا الثقل. قالوا لهم: يا معشر السفهاء ألستم أبناء الجهل وإخوان الضلال حين خفت عليکم الشقوة وثقلت عليکم السعادة، قالوا لهم: أيها السادة الحکماء والقادة العلماء إنا نستجير من تعنيفکم إيانا بمغفرة الله عزوجل
[ صفحه 276]
ونستتر من تعييرکم لنا بعفوه فلا تؤنبونا [139] ولا تعيرونا بضعفنا ولا تعيبوا الجهالة علينا فإنا إن أطعنا الله مع عفوه وحمله وتضعيفه الحسنات واجتهدنا في عبادته مثل الذي بذلنا لهوانا من الباطل بلغنا حاجتنا وبلغ الله عزوجل بنا غايتنا ورحمنا کما خلقنا، فلما قالوا ذلک أقر لهم علماؤهم ورضوا قولهم فصلوا وصاموا وتعبدوا وأعظموا الصدقات سنة کاملة، فلما انقضي ذلک منهم قالت الکهنة: إن الذي صنعت هذه الامة علي هذا المولود يخبر أن هذا الملک يکون فاجرا ويکون بارا، ويکون متجبرا و يکون متواضعا ويکون مسيئا ويکون محسنا.
وقال المنجمون مثل ذلک، فقيل لهم: کيف قلتم ذلک؟ قال الکهنة: قلنا هذا من قبل اللهو والمعازف والباطل الذي صنع عليه، وما صنع عليه من ضده بعد ذلک، وقال المنجمون: قلنا ذلک من قبل استقامة الزهرة والمشتري، فنشأ الغلام بکبر لا توصف عظمته، ومرح لا ينعت، وعدوان لا يطاق، فعسف وجار وظلم في الحکم وغشم وکان أحب الناس إليه من وافقه علي ذلک وأبغض الناس إليه من خالفه في شيء من ذلک، واغتر بالشباب والصحة والقدرة والظفر والنظر فامتلا سرورا وإعجابا بما هو فيه ورأي کلما يحب وسمع کلما اشتهي حتي بلغ اثنين وثلاثين سنة ثم جمع نساء من بنات الملوک وصبيانا والجواري والمخدرات وخيله المطهمات العناق [140] وألوان مراکبه الفاخرة ووصائفه وخدامه الذين يکونون في خدمته فأمرهم أن يلبسوا أجد ثيابهم ويتزينوا بأحسن زينتهم وأمر ببناء مجلس مقابل مطلع الشمس صفائح أرضه الذهب، مفضضا بأنواع الجواهر، طوله مائة وعشرون ذراعا وعرضه ستون ذراعا، ومزخرفا سقفه وحيطانه، قد زين بکرائم الحلي وصنوف الجوهر و اللؤلؤء النظيم وفاخره، وأمر بضروب الاموال فاخرجت من الخزائن ونضدت سماطين [141] أمام مجلسه، وأمر جنوده وأصحابه وقواده وکتابه وحجابه وعظماء
أهل بلاده وعلمائهم فحضروا في أحسن هيئتهم وأجمل جمالهم وتسلح فرسانه ورکبت خيوله في عدتهم، ثم وقفوا علي مراکزهم ومراتبهم صفوفا وکراديس، وإنما أراد بزعمه أن ينظر إلي منظر رفيع حسن تسر به نفسه وتقر به عينه، ثم خرج فصعد إلي مجلسه فأشرف علي مملکته فخروا له سجدا، فقال لبعض غلمانه: قد نظرت في أهل مملکتي إلي منظر حسن وبقي أن أنظر إلي صورة وجهي فدعا بمرآة فنظر إلي وجهه فبينا هو يقلب طرفه فيها إذ لاحت له شعرة بيضاء من لحيته کغراب أبيض بين غربان سود، واشتد منها ذعره وفزعه [142] وتغير في عينه حاله وظهرت الکآبة والحزن في وجهه وتولي السرور عنه.
ثم قال في نفسه: هذا حين نعي إلي شبابي وبين لي أن ملکي في ذهاب واوذنت بالنزول عن سرير ملکي، ثم قال: هذه مقدمة الموت ورسول البلي [143] لم يحجبه عني حاجب، ولم يمنعه عني حارس، فنعي إلي نفسي وآذنني بزوال ملکي فما أسرع هذا في تبديل بهجتي وذهاب سروري، وهدم قوتي، لم يمنعه مني الحصون ولم تدفعه عني الجنود، هذا سالب الشباب والقوة، وما حق العز والثروة، ومفرق الشمل وقاسم التراث بين الاولياء والأعداء؛ مفسد المعاش، ومنغّص الّلذات ومخرّب العمارات ومشتّت الجمع، وواضح الرفيع، ومذلّ المنيع، قد أناخت بي أثقاله [144] ونصب لي حباله.
ثم نزل عن مجلسه حافياً ماشياً، وقد صعد إليه محمولاً، ثمّ جمع إليه جنوده ودعا إليه ثقاته فقال: أيها الملأ ماذا صنعت فيکم وما (ذا) أتيت إليکم منذ ملکتکم ووليت أمورکم؟ قالوا له: أيها الملک المحمود عظم بلاؤک عندنا وهذه أنفسنا مبذولة
[ صفحه 277]
في طاعتک، فمرنا بأمرک، قال: طرقني عدو مخيف [145] لم تمنعوني منه حتي نزل بي وکنتم عدتي وثقاتي، قالوا: أيها الملک أين هذا العدو؟ أيري أم لا يري؟ قال: يري بأثر ولا يري عينه، قالوا أيها الملک هذه عدتنا کما تري وعندنا سکن وفينا ذووا الحجي والنهي، فأرناه نکفک ما مثله يکفي، قال: قد عظم الاغترار مني بکم ووضعت الثقة في غير موضعها حين اتخذتکم وجعلتکم لنفسي جنة، وإنما بذلت لکم الاموال ورفعت شرفکم وجعلتکم البطانة دون غيرکم لتحفظوني من الاعداء وتحرسوني منهم، ثم أيدتکم علي ذلک بتشييد البلدان وتحصين المدائن والثقة من السلاح ونحيت عنکم الهموم [146] وفرغتکم للنجدة والاحتفاط، ولم أکن أخشي أن أراع معکم ولا أتخوف المنون علي بنياني وأنتم عکوف مطيفون به فطرقت وأنتم حولي واتيت وأنتم معي، فلئن کان هذا ضعف منکم فما أخذت أمري بثقة وإن کانت غفلة منکم فما أنتم بأهل النصيحة ولا علي بأهل الشفقة، قالوا: أيها الملک أما شي نطيق دفعه بالخيل والقوة فليس بواصل إليک إن شاء الله ونحن أحياء وأما ما لا يري فقد غيب عنا علمه وعجزت قوتنا عنه.
قال: أليس اتخذتکم لتمنعوني من عدوي، قالوا: بلي قال: فمن أي عدو تحفظوني من الذي يضرني أو من الذي لا يضرني؟ قالوا: من الذي يضرک؟ قال: أفمن کل ضار لي أو من بعضهم؟ قالوا: من کل ضار، قال: فإن رسول البلي قد أتاني ينعي إلي نفسي وملکي ويزعم أنه يريد خراب ما عمرت وهدم ما بنيت وتفريق ما جمعت وفساد ما أصلحت وتبذير ما أحرزت وتبديل ما عملت وتوهين ما وثقت، وزعم أن معه الشماتة من الاعداء وقد قرت بي أعينهم فإنه يريد أن يعطيهم مني شفاء صدورهم وذکر أنه سيهزم جيشي ويوحش انسي ويذهب عزي ويؤتم ولدي ويفرق جموعي، يفجع بي إخواني وأهلي وقرابتي ويقطع أوصالي ويسکن مساکني
[ صفحه 278]
أعدائي، قالوا: أيها الملک إنما نمنعک من الناس والسباع والهوام دواب الارض فأما البلي فلا طاقة لنا به ولا قوة لنا عليه ولا امتناع لنا منه، فقال: فهل من حيلة في دفع ذلک عني؟ قالوا: لا، قال: فشيء دون ذلک تطيقونه، قالوا: وما هو؟ قال: الاوجاع والاحزان والهموم، قالوا: أيها الملک إنما قد قدر هذه الاشياء قوي لطيف وذلک يثور من الجسم والنفس وهو يصل إليک إذا لم يوصل ولا يحجب عنک وإن حجب [147] قال: فأمر دون ذلک، قالوا: وما هو؟ قال: ما قد سبق من القضاء. قالوا: أيها الملک ومن ذا غالب القضاء فلم يغلب؟ ومن ذا کابره فلم يقهر؟ قال: فماذا عندکم؟ قالوا: ما نقدر علي دفع القضاء، وقد أصبت التوفيق والتسديد فماذا الذي تريد، قال: اريد أصحابا يدوم عهدهم ويفوا لي وتبقي لي اخوتهم ولا يحجبهم عني الموت ولا يمنعهم البلي عن صحبتي ولا يستحيل [148] بهم الامتناع عن صحبتي [149] ولا يفردوني إن مت، ولا يسلموني إن عشت، ويدفعون عني ما عجزتم عنه، من أمر الموت.
قالوا: أيها الملک ومن هؤلاء الذين وصفت، قال: هم الذين أفسدتهم باستصلاحکم، قالوا: أيها الملک أفلا تصطنع عندنا وعندهم معروفا فإن أخلاقک تامة ورأفتک عظيمة؟ قال: إن في صحبتکم إياي السم القاتل، والصمم والعمي في طاعتکم، والبکم من موافقتکم، قالوا: کيف ذاک أيها الملک؟ قال: صارت صحبتکم إياي في الاستکثار وموافقتکم علي الجمع، وطاعتکم إياي في الاغتفال فبطأتموني عن المعاد وزينتم لي الدنيا ولو نصحتموني ذکرتموني الموت ولو أشفقتم علي ذکرتموني البلي، وجمعتم لي ما يبقي، ولم تستکثروا لي ما يفني، فإن تلک المنفعة التي ادعيتموها ضرر، وتلک المودة عداوة، وقد رددتها عليکم لا حاجة لي فيها منکم.
[ صفحه 279]
قالوا: أيها الملک الحکيم المحمود قد فهمنا مقالتک وفي أنفسنا أجابتک وليس لنا أن نحتج عليک فقد رأينا مکان الحجة، فسکوتنا عن حجتنا فساد لملکنا، وهلاک لدنيانا وشماتة لعدونا، وقد نزل بنا أمر عظيم بالذي تبدل من رأيک وأجمع عليه أمرک، قال: قولوا آمنين واذکروا ما بدا لکم غير مرعوبين فإني کنت إلي اليوم مغلوبا بالحمية والانفة وأنا اليوم غالب لهما، وکنت إلي اليوم مقهورا لهما وأنا اليوم قاهر لهما، وکنت إلي اليوم ملکا عليکم فقد صرت عليکم مملوکا، وأنا اليوم عتيق وأنتم من مملکتي طلقاء، قالوا: أيها الملک ما الذي کنت مملوکا إذ کنت علينا ملکا، قال: کنت مملوکا لهواي مقهورا بالجهل مستعبدا لشهواتي فقد قطعت تلک الطاعة عني ونبذتها خلف ظهري، قالوا: فقل ما أجمعت عليه أيها الملک؟ قال: القنوع والتخلي لاخرتي وترک هذا الغرور ونبذ هذا الثقل عن ظهري والاستعداد للموت، والتأهب للبلاء، فإن رسوله عندي قد ذکر أنه قد أمر بملأ زمتي والاقامة معي حتي يأتيني الموت، فقالوا: أيها الملک ومن هذا الرسول الذي قد أتاک ولم نره، وهو مقدمة الموت الذي لا نعرفه، قال: أما الرسول فهذا البياض الذي يلوح بين السواد، وقد صاح في جميعه بالزوال، فأجابوا وأذعنوا، وأما مقدمة الموت فالبلي الذي هذا البياض طرقه.
قالوا: أيها الملک أفتدع مملکتک؟ وتهمل رعيتک وکيف لا تخاف الاثم في تعطيل امتک ألست تعلم أن أعظم الاجر في استصلاح الناس وأن رأس الصلاح الطاعة للامة والجماعة، فکيف لا تخاف من الاثم، وفي هلاک العامة من الاثم فوق الذي ترجو من الاجر في صلاح الخاصة، ألست تعلم أن أفضل العبادة العمل وأن أشد العمل السياسة، فإنک أيها الملک [ما في يديک] عدل علي رعيتک، مستصلح لها بتدبيرک، فإن لک من الاجر بقدر ما استصلحت، ألست أيها الملک إذا خليت ما في يديک من صلاح امتک فقد أردت فسادهم فقد حملت من الاثم فيهم أعظم مما أنت مصيب من الاجر في خاصة يديک.
ألست أيها الملک قد علمت أن العلماء قالوا: من أتلف نفسا فقد استوجب
[ صفحه 280]
لنفسه الفساد، ومن أصلحها فقد استوجب الصلاح لبدنه، وأي فساد أعظم من رفض هذه الرعية التي أنت إمامها والاقامة في هذه الامة التي أنت نظامها حاشا لک أيها الملک أن تخلع عنک لباس الملک الذي هو الوسيلة إلي شرف الدنيا والاخرة، قال: قد فهمت الذي ذکرتم وعقلت الذي وصفتم فإن کنت إنما أطلب الملک عليکم للعدل فيکم والاجر من الله تعالي ذکره في استصلاحکم بغير أعوان يرفدونني ووزراء يکفونني فما عسيت أن أبلغ بالوحدة فيکم ألستم جميعا نزعا إلي الدنيا وشهواتها ولذاتها ولا آمن أن اخلد إلي الحال [150] التي أرجو أن أدعها وأرفضها، فإن فعلت ذلک أتاني الموت علي غرة، فأنزلني عن سرير ملکي إلي بطن الارض وکساني التراب بعد الديباج والمنسوج بالذهب ونفيس الجوهر، وضمني إلي الضيق بعد السعة، وألبسني الهوان بعد الکرامة، فأصير فريدا بنفسي ليس معي أحد منکم في الوحدة، قد أخرجتموني من العمران وأسلمتموني إلي الخراب، وخليتم بين لحمي وبين سباع الطير وحشرات الارض فأکلت مني النملة فما فوقها من الهوام وصار جسدي دودا وجيفة قذرة، الذل لي حليف، والعز مني غريب، أشدکم حبا إلي أسرعکم إلي دفني، والتخلية بيني وبين ما قدمت من عملي وأسلفت من ذنوبي، فيورثني ذلک الحسرة، ويعقبني الندامة، وقد کنتم وعدتموني أن تمنعوني من عدوي الضار فإذا أنتم لا منع عندکم ولا قوة علي ذلک لکم ولا سبيل، أيها الملأ إني محتال لنفسي إذ جئتم بالخداع، ونصبتم لي شراک الغرور، [151] فقالوا: أيها الملک المحمود لسنا الذي کنا کما أنک لست الذي کنت، وقد أبدلنا الذي أبدلک، وغيرنا الذي غيرک، فلا ترد علينا توبتنا وبذل نصيحتنا، قال: أنا مقيم فيکم ما فعلتم ذلک ومفارقکم إذا خالفتموه، فأقام ذلک الملک في ملکه وأخذ جنوده بسيرته واجتهدوا في العبادة فخصبت بلادهم وغلبوا عدوهم وازداد ملکهم حتي هلک ذلک الملک، وقد صار فيهم بهذه السيرة اثنين وثلاثين سنة فکان جميع ما عاش أربعا وستين سنة.
[ صفحه 281]
قال يوذاسف: قد سررت بهذا الحديث جدا، فزدني من نحوه أزدد سرورا و لربي شکرا.
قال الحکيم: زعموا أنه کان ملک من الملوک الصالحين وکان له جنود يخشون الله عزوجل ويعبدونه، وکان في ملک أبيه شدة من زمانهم والتفرق فيما بينهم و ينقص العدو من بلادهم، وکان يحثهم علي تقوي الله عزوجل وخشيته والاستعانة به ومراقبته والفزع إليه، فلما ملک ذلک الملک قهر عدوه واستجمعت رعيته وصلحت بلاده وانتظم له الملک، فلما رأي ما فضل الله عزوجل به أترفه ذلک وأبطره وأطغاه حتي ترک عبادة الله عزوجل وکفر نعمه، وأسرع في قتل من عبد الله ودام ملکه و طالت مدته حتي ذهل الناس عما کانوا عليه من الحق قبل ملکه ونشوه وأطاعوه فيما أمرهم به وأسرعوا إلي الضلالة، فلم يزل علي ذلک فنشأ فيه الاولاد وصار لا يعبد الله عزوجل فيهم ولا يذکر بينهم اسمه، ولا يحسبون أن لهم إلها غير الملک، وکان ابن الملک قد عاهد الله عز وجل في حياة أبيه إن هو ملک يوما أن يعمل بطاعة الله عزوجل بأمر لم يکن من قبله من الملوک يعملون به ولا يستطيعونه، فلما ملک أنساه الملک رأيه الاول ونيته التي کان عليها، وسکر سکر صاحب الخمر، فلم يکن يصحور ويفيق. [152] وکان من أهل لطف الملک رجل صالح أفضل أصحابه منزلة عنده، فتوجع له مما رأي من ضلالته في دينه ونسيانه ما عاهد الله عليه، وکان کلما أراد أن يعظه ذکر عتوه وجبروته ولم يکن بقي من تلک الامة غيره وغير رجل آخر في ناحية أرض الملک لا يعرف مکانه ولا يدعي باسمه.
فدخل ذات يوم علي الملک بجمجمة قد لفها في ثيابه، فلما جلس عن يمين الملک انتزعها عن ثيابه فوضعها بين يديه ثم وطئها برجله فلم يزل يفرکها [153] بين يدي الملک وعلي بساطه حتي دنس مجلس الملک بما تحات من تلک الجمجمة، فلما رأي الملک ما صنع غضب من ذلک غضبا شديدا، وشخصت إليه أبصار جلسائه واستعدت الحرس بأسيافهم
[ صفحه 282]
انتظارا لامره إياهم بقتله، والملک في ذلک مالک لغضبه، وقد کانت الملوک في ذلک الزمان علي جبروتهم وکفرهم ذوي أناة وتؤدة، استصلاحا للرعية علي عمارة أرضهم ليکون ذلک أعون للجلب وأدي للخراج، فلم يزل الملک ساکتا علي ذلک حتي قام من عنده، فلف تلک الجمجمة ثم فعل ذلک في اليوم الثاني والثالث، فلما رأي أن الملک لا يسأله عن تلک الجمجمة، ولا يستنطقه عن شيء من شأنها أدخل مع تلک الجمجمة ميزانا وقليلا من تراب فلما صنع بالجمجمة ما کان يصنع أخذ الميزان وجعل في إحدي کفتيه درهما وفي الاخري بوزنه ترابا ثم جعل ذلک التراب في عين تلک الجمجمة ثم أخذ قبضة من التراب فوضعها في موضع الفم من تلک الجمجمة.
فلما رأي الملک ما صنع قل صبره وبلغ مجهوده، فقال لذلک الرجل: قد علمت أنک إنما اجترأت علي ما صنعت لمکانک مني وإدلالک علي، وفضل منزلتک عندي، ولعلک تريد بما صنعت أمرا، فخر الرجل للملک ساجدا وقبل قدميه وقال: أيها الملک أقبل علي بعقلک کله فإن مثل الکلمة مثل السهم إذا رمي به في أرض لينة ثبت فيها وإذا رمي به في الصفا لم يثبت، ومثل الکلمة کمثل المطر إذا أصاب أرضا طيبة مزروعة نبت فيها، وإذا أصاب السباخ لم ينبت، وإن أهواء الناس متفرقة، والعقل والهوي يصطرعان في القلب، فإن غلب هوي العقل عمل الرجل بالطيش و السفه، وإن کان الهوي هو المغلوب لم يوجد في أمر الرجل سقطة، فإني لم أزل منذ کنت غلاما احب العلم وأرغب فيه وأوثره علي الامور کلها، فلم أدع علما إلا بلغت منه أفضل مبلغ، فبينا أنا ذات يوم أطوف بين القبور إذ قد بصرت بهذه الجمجمة بارزة من قبور الملوک، فغاظني موقعها وفراقها جسدها غضبا للملوک، فضممتها إلي وحملتها إلي منزلي فألبستها الديباج ونضحتها بماء الورد والطيب ووضعتها علي الفرش وقلت: إن کانت من جماجم الملوک فسيؤثر فيها إکرامي إياها وترجع إلي جمالها وبهائها، وإن کانت من جماجم المساکين فإن الکرامة لا تزيدها شيئا ففعلت ذلک بها أياما فلم أستنکر من هيئتها شيئا، فلما رأيت ذلک دعوت عبدا هو أهون عبدي عندي فأهانها
[ صفحه 283]
فإذا هي علي حالة واحدة عند الاهانة والاکرام، فلما رأيت ذلک أتيت الحکماء فسألتهم عنها فلم أجد عندهم علما بها، ثم علمت أن الملک منتهي العلم ومأوي الحلم فأتيتک خائفا علي نفسي ولم يکن لي أن أسألک عن شيء حتي تبدأني به واحب أن تخبرني أيها الملک أجمجمة ملک هي أم جمجمة مسکين فإنها لما أعياني أمرها تفکرت في أمرها وفي عينها التي کانت لا يملأوها شيء حتي لو قدرت علي ما دون السماء من شيء تطلعت إلي أن تتناول ما فوق السماء، فذهبت أنظر ما الذي يسدها ويملأها فإذا وزن درهم من تراب قد سدها وملأها، ونظرت إلي فيها [154] الذي لم يکن يملأه شيء فملاءته قبضة من تراب، فإن أخبرتني أيها الملک أنها جمجمة مسکين احتججت عليک بأني قد وجدتها وسط قبور الملوک، ثم أجمع جماجم ملوک وجماجم مساکين فإن کان لجماجمکم عليها فضل، فهو کما قلت، وإن أخبرتني بأنها من جماجم الملوک أنبأتک أن ذلک الملک الذي کانت هذه جمجمته قد کان من بهاء الملک وجماله و عزته في مثل ما أنت فيه اليوم فحاشاک أيها الملک أن تصير إلي حال هذه الجمجمة فتوطأ بالاقدام وتخلط بالتراب ويأکلک الدود وتصبح بعد الکثرة قليلا وبعد العزة ذليلا، وتسعک حفرة طولها أدني من أربعة أذرع، ويورث ملکک وينقطع ذکرک و يفسد صنايعک ويهان من أکرمت ويکرم من أهنت وتستبشر أعداءک ويضل أعوانک و يحول التراب دونک، فإن دعوناک لم تسمع، وإن أکرمناک لم تقبل، وإن أهناک لم تغضب، فيصير بنوک يتامي ونساؤک أيامي [155] وأهلک يوشک أن يستبدلن أزواجا غيرک.
فلما سمع الملک ذلک فزع قلبه وانسکبت عيناه يبکي ويعول ويدعو بالويل، فلما رأي الرجل ذلک علم أن قوله قد استمکن من الملک، وقوله قد أنجع فيه زاده ذلک جرأة عليه وتکريرا لما قال، فقال له الملک: جزاک الله عني خيرا وجزا من حولي من العظماء شرا، لعمري لقد علمت، ما أردت بمقالتک هذه وقد أبصرت
[ صفحه 284]
أمري فسمع الناس خبره فتوجهوا أهل الفضل نحوه وختم له بالخير وبقي عليه إلي أن فارق الدنيا.
قال ابن الملک: زدني من هذا المثل، قال الحکيم: زعموا أن ملکا کان في أول الزمان وکان حريصا علي أن يولد له وکان لا يدع شيئا مما يعالج به الناس أنفسهم إلا أتاه وصنعه، فلما طال ذلک من أمره حملت امرأة له من نسائه فولدت له غلاما فلما نشأ وترعرع [156] خطا ذات يوم خطوة فقال: معادکم تجفون، ثم خطا اخري فقال: تهرمون، ثم خطا الثالثة فقال: ثم تموتون، ثم عاد کهيئته يفعل کما يفعل الصبي.
فدعا الملک العلماء والمنجمين فقال: أخبروني خبر ابني هذا فنظروا في شأنه وأمره فأعياهم أمره، فلم يکن عندهم فيه علم، فلما رأي الملک أنه ليس عندهم فيه علم دفعه إلي المرضعات فأخذن في إرضاعه إلا أن منجما منهم قال: إنه سيکون إماما، وجعل عليه حراسا لا يفارقونه حتي إذا شب انسل يوما من عند مرضعيه و الحرس فأتي السوق فإذا هو بجنازة فقال: ما هذا؟ قالوا: إنسانا مات قال، ما أماته؟ قالوا: کبر وفنيت أيامه ودني أجله فمات، قال: وکان صحيحا حيا يمشي ويأکل ويشرب؟ قالوا: نعم، ثم مضي فإذا هو برجل شيخ کبير فقام ينظر إليه متعجبا منه، فقال: ما هذا؟ قالوا: رجل شيخ کبير قد فني شبابه وکبر، قال: وکان صغيرا ثم شاب؟ قالوا: نعم، ثم مضي فإذا هو برجل مريض مستلقي علي ظهره، فقام ينظر إليه ويتعجب منه، فسألهم ما هذا؟ قالوا: رجل مريض، فقال: أو کان هذا صحيحا ثم مرض؟ قالوا: نعم، قال: والله لئن کنتم صادقين فإن الناس لمجنونون.
فافتقد الغلام عند ذلک فطلب فإذا هو بالسوق فأتوه فأخذوه وذهبوا به فأدخلوه البيت، فلما دخل البيت استلقي علي قفاه ينظر إلي خشب سقف البيت ويقول: کيف کان هذا؟ قالوا: کانت شجرة ثم صارت خشبا، ثم قطع، ثم بني هذا البيت، ثم
[ صفحه 285]
جعل هذا الخشب عليه، فبينا هو في کلامه إذ أرسل الملک إلي الموکلين به: انظروا هل يتکلم أو يقول شيئا؟ قالوا: نعم وقد وقع في کلام ما نظنه إلا وسواسا، فلما رأي الملک ذلک وسمع جميع ما لفظ به الغلام، دعا العلماء فسألهم فلم يجد فيه عندهم علما إلا الرجل الاول فأنکر قوله فقال بعضهم أيها الملک لو زوجته ذهب عنه الذي تري، وأقبل وعقل أبصر فبعث الملک في الارض يطلب ويلتمس له امرأة فوجدت له امرأة من أحسن الناس وأجملهم فزوجها منه، فلما أخذوا في وليمة عرسه أخذ اللاعبون يلعبون والزمارون يزمرون، فلما سمع الغلام جلبتهم [157] وأصواتهم قال: ما هذا؟ قالوا: هؤلاء لعابون وزمارون جمعوا لعرسک، فسکت الغلام، فلما فرغوا من العرس وأمسوا، دعا الملک امرأة ابنه فقال لها: إنه لم يکن لي ولد غير هذا الغلام: فإذا دخلت عليه فألطفي به واقربي منه وتحببي إليه، فلما دخلت المرأة عليه أخذت تدنو منه وتتقرب إليه، فقال الغلام علي رسلک [158] فإن الليل طويل، بارک الله فيک، واصبري حتي نأکل ونشرب، فدعا بالطعام فجعل يأکل، فلما فرغ جعلت المرأة تشرب فلما أخذ الشراب منها نامت.
فقام الغلام فخرج من البيت، وانسل من الحرس والبوابين حتي خرج وتردد في المدينة، فلقيه غلام مثله من أهل المدينة فأتبعه وألقي ابن الملک عنه تلک الثياب التي کانت عليه ولبس ثياب الغلام، وتنکر جهده وخرجا جميعا من المدينة فسارا ليلتهما حتي إذا قرب الصبح خشيا الطلب فکمنا، فاتيت الجارية عند الصبح فوجدوها نائمة فسألوها أين زوجک؟ قالت: کان عندي الساعة، فطلب الغلام فلم يقدر عليه، فلما أمسي الغلام وصاحبه سارا ثم جعلا يسيراذن الليل ويکمنان النهار حتي خرجا من سلطان أبيه، ووقعا في ملک سلطان آخر.
وقد کان لذلک الملک الذي صارا إلي سلطانه ابنة قد جعل لها أن لا يزوجها
[ صفحه 286]
أحدا إلا من هويته ورضيته، وبني لها غرفة عالية مشرفة علي الطريق فهي فيها جالسة تنظر إلي کل من أقبل وأدبر، فبينما هي کذلک إذ نظرت إلي الغلام يطوف في السوق وصاحبه معه في خلقانه، فأرسلت إلي أبيها إن قد هويت رجلا فإن کنت مزوجي أحدا من الناس فزوجني منه واتيت ام الجارية فقيل لها: إن ابنتک قد هويت رجلا وهي تقول کذا وکذا، فأقبلت إليها فرحة حتي تنظر إلي الغلام فأروها إياه فنزلت امها مسرعة حتي دخلت علي الملک، فقالت: إن ابنتک قد هويت رجلا فأقبل الملک ينظر إليه، ثم قال: أرونيه فأروه من بعد فأمر أن يلبس ثيابا اخري ونزل فسأله واستنطقه وقال: من أنت ومن أين أنت؟ قال الغلام: وما سؤالک عني أنا رجل من مساکين الناس، فقال: إنک لغريب، وما يشبه لونک ألوان أهل هذه المدينة، فقال الغلام: ما أنا بغريب، فعالجه الملک أن يصدقه قصته فأبي، فأمر الملک اناسا أن يحرسوه وينظروا أين يأخذ، ولا يعلم بهم، ثم رجع الملک إلي أهله فقال: رأيت رجلا کأنه ابن ملک وماله حاجة فيما تراودونه عليه، فبعث إليه فقيل له: إن الملک يدعوک، فقال الغلام: وما أنا والملک يدعوني وما لي إليه حاجة وما يدري من أنا، فانطلق به علي کره منه حتي دخل علي الملک فأمر بکرسي فوضع له فجلس عليه ودعي الملک امرأته وابنته فأجلسهما من وراء الحجاب خلفه فقال له الملک: دعوتک لخير، وان لي ابنه قد رغبت فيک اريد أن ازوجها منک فان کنت مسکينا فاغنيناک ورفعناک وشرفناک، قال الغلام: مالي فيما تدعوني ايه حاجه، فان شئت ضربت لک مثلا أيها الملک؟ قال: فافعل.
قال الغلام: زعموا أن ملکا من الملوک کان له ابن وکان لابنه أصدقاء صنعوا له طعاما ودعوه إليه فخرج معهم فأکلوا وشربوا حتي سکروا فناموا فاستيقظ ابن الملک في وسط الليل فذکر أهله فخرج عامدا إلي منزله، ولم يوقظ أحدا منهم فبينا هو في مسيره إذ بلغ منه الشراب فبصر بقبر علي الطريق فظن أنه مدخل بينه فدخله فإذا هو بريح الموتي فحسب ذلک لما کان به السکر أنه رياح طيبة فإذا هو بعظام لا يحسبها إلا فرشه الممهدة، فإذا هو بجسد قد مات حديثا وقد أروح فحسبه أهله فقام إلي جانبه
[ صفحه 287]
فاعتنقه وقبله وجعل يعبث به عامة ليلة فأفاق حين أفاق ونظر حين نظر فإذا هو علي جسد ميت وريح منتنة، قد دنس ثيابه وجلده، ونظر إلي القبر وما فيه من الموتي، فخرج وبه من السوء ما يختفي به من الناس أن ينظروا إليه متوجها إلي باب المدينة، فوجده مفتوحا فدخله حتي أتي أهل فرأي أنه قد أنعم عليه حيث لم يلقه أحد، فألقي عنه ثيابه تلک واغتسل ولبس لباسا اخري وتطيب.
عمرک الله أيها الملک أتراه راجعا إلي ما کان فيه وهو يستطيع؟ قال: لا، قال: فإني أنا هو، فالتفت الملک إلي امرأته وابنته، وقال لهما: قد أخبرتکما أنه ليس له فيما تدعونه رغبة، قالت امها: لقد قصرت في النعت لابنتي والوصف لها أيها الملک ولکني خارجة إليه ومکلمة له، فقال الملک للغلام: إن امرأتي تريد أن تکلمک وتخرج إليک ولم تخرج إلي أحد قبلک، فقال الغلام: لتخرج إن أحبت، فخرجت وجلست فقالت للغلام: تعال إلي ما قد ساق الله إليک من الخير والرزق فأزوجک ابنتي فإنک لو قد رأيتها وما قسم الله عزوجل لها من الجمال والهيئة لاغتبطت، فنظر الغلام إلي الملک فقال: أفلا أضرب لک مثلا؟ قال: بلي.
قال: إن سراقا تواعدوا أن يدخلوا خزانة الملک ليسرقوا، فنقبوا حائط الخزانة فدخلوها فنظروا إلي متاع لم يروا مثله قط، وإذا هم بقلة من ذهب مختومة بالذهب فقالوا: لا نجد شيئا أعلي من هذه القلة هي ذهب مختومة بالذهب والذي فيها أفضل من الذي رأينا فاحتملوها ومضوا بها حتي دخلوا غيضة لا يأمن بعضهم بعضا عليها ففتحوها فإذا في وسطها أفاع، فوثبن في وجوههم فقتلتهم أجمعين.
عمرک الله أيها الملک أفتري أحدا علم بما أصابهم ومالقوه يدخل يده في تلک القلة وفيها من الافاعي؟ قال: لا، قال: فإني أنا هو، فقالت الجارية لابيها: ائذن لي فأخرج إليه بنفسي واکلمة فإنه لو قد نظر إلي وإلي جمالي وحسني وهيئتي وما قسم الله عزوجل لي من الجمال لم يتمالک أن يجيب، فقال الملک للغلام: إن ابنتي تريد أن تخرج إليک ولم تخرج إلي رجل قط، قال: لتخرج إن أحبت، فخرجت عليه وهي أحسن الناس وجها وقدا وطرفا وهيکلا، فسلمت علي الغلام وقالت للغلام: هل
[ صفحه 288]
رأيت مثلي قط أو أتم أو أجمل، أو أکمل أو أحسن؟ وقد هويتک وأحببتک، فنظر الغلام إلي الملک، فقال: أفلا أضرب لها مثلا؟ قال: بلي.
قال الغلام: زعموا أيها الملک أن ملکا له ابنان فاسر أحدهما ملک آخر فحبسه في بيت وأمر أن لا يمر عليه أحد إلا رماه بحجر، فمکث علي ذلک حينا، ثم إن أخاه قال لابيه ائذن لي فأنطلق إلي أخي فافديه وأحتال له؟ قال الملک: فانطلق وخذ معک ما شئت من مال ومتاع ودواب، فاحتمل معه الزاد والراحلة وانطلق معه المغنيات والنوائح فلما دنا من مدينة ذلک الملک أخبر الملک بقدومه فأمر الناس بالخروج إليه وأمر له بمنزل خارج من المدينة فنزل الغلام في ذلک المنزل فلما جلس فيه ونشر متاعه وأمر غلمانه أن يبيعوا الناس ويساهلوهم في بيعهم ويسامحوهم ففعلوا ذلک فلما رأي الناس قد شغلوا بالبيع انسل ودخل المدينة وقد علم أين سجن أخيه ثم أتي السجن فأخذ حصاة فرمي بها لينظر ما بقي من نفس أخيه، فصاح حين أصابته الحصاة. وقال: قتلتني ففزع الحرس عند ذلک وخرجوا إليه وسألوه لم صحت وما شأنک وما بدا لک وما رأيناک تکلمت ونحن نعذبک منذ حين ويضربک ويرميک کل من يمر بک بحجر، ورماک هذا الرجل بحصاة فصحت منها؟ فقال: إن الناس کانوا من أمري علي جهالة ورماني هذا علي علم فانصرف أخوه راجعا إلي منزله ومتاعه، وقال للناس: إذا کان غدا فأتوني أنشر عليکم بزا ومتاعا لم تروا مثله قط فانصرفوا يومئذ حتي إذا کان من الغد غذوا عليه بأجمعهم فأمر بالبز فنشروا وأمر بالمغنيات والنايحات وکل صنف معه مما يلهي به الناس فأخذوا في شأنهم فاشتغل الناس فأتي أخاه فقطع عنه أغلاله، وقال: أنا اداويک فاختلسه وأخرجه من المدينة فجعل علي جراحاته دواء کان معه حتي إذا وجد راحة أقامه علي الطريق، ثم قال له: انطلق فإنک ستجد سفينة قد سيرت لک في البحر، فانطلق سائرا فوقع في جب فيه تنين وعلي الجب شجرة نابته فنظر إلي الشجرة فإذا علي رأسها اثنتا عشرة غولا وفي أسفلها اثنا عشر سيفا، وتلک السيوف مسلولة معلقة فلم يزل يتحمل ويحتال حتي أخذ بغصن من الشجرة فتعلق به وتخلص وسار حتي أتي البحر فوجد سفينة قد اعدت له إلي جانب
[ صفحه 289]
الساحل فرکب فيها حتي أتوا به أهله.
عمرک الله أيها الملک أتراه عائدا إلي ما قد عاين ولقي، قال: لا، قال: فاني أنا هو، فيئسوا منه، فجاء الغلام الذي صحبه من المدينة فساره وقال: اذکرني لها وانکحنيها فقال الغلام للملک إن هذا يقول إني أحب الملک أن ينکحنيها، فقال: لا أفعل قال: أفلا أضرب لک مثلا؟ قال: بلي.
قال: إن رجلا کان في قوم فرکبوا سفينة فساروا في البحر ليالي وأياما ثم انکسرت سفينتهم بقرب جزيرة في البحر فيها الغيلان فغرقوا کلهم سواه وألقاه البحر إلي الجزيرة، وکانت الغيلان يشرفن من الجزيرة إلي البحر فأتي غولا فهويها ونکحها حتي إذا کان مع الصبح قتلته وقسمت أعضاءه بين صواحباتها واتفق مثل ذلک لرجل آخر فأخذته ابنة ملک الغيلان فانطلقت به فبات معها ينکحها وقد علم الرجل ما لقي من کان قبله فليس ينام حذرا إذا کان مع الصبح نامت الغول فانسل الرجل حتي أتي الساحل فإذا هو بسفينة فنادي أهلها واستغاث بهم فحملوه حتي أتوا به أهله فأصبحت الغيلان فأتوا الغولة التي باتت معه فقالوا لها: أين الرجل الذي بات معک؟ قالت: إنه قد فر مني، فکذبوها وقالوا: أکللته واستأثرت به علينا فلنقتلنک إن لم تأتنا به فمرت في الماء حتي أتته في منزله ورحله فدخلت عليه وجلست عنده وقالت له: ما لقيت في سفرک هذا، قال: لقيت بلاء خلصني الله منه وقص عليها ذلک قالت: وقد تخلصت: قال: نعم فقالت: أنا الغولة وجئت لاخذک فقال لها: أنشدک الله أن تهلکيني فإني أدلک علي مکان رجل، قالت: إني أرحمک فانطلقا حتي إذ دخلا علي الملک، قالت: اسمع منا أصلح الله الملک إني تزوجت بهذا الرجل وهو من أحب الناس إلي، ثم إنه کرهني وکره صحبتي فانظر في أمر نافلما رآها الملک أعجبه جمالها فخلا بالرجل فساره وقال له: إني قد أحببت أن تترکها فأتزوجها قال: نعم أصلح الله الملک ما تصلح إلا لک فتزوج بها الملک وبات معها حتي إذا کانت مع السحر ذبحته وقطعت أعضاءه وحملته إلي صواحباتها أفتري أيها الملک أحدا يعلم بهذا ثم ينطلق إليه؟ قال: الخاطب للغلام: فإني لا افارقک ولا حاجة لي فيما أردت.
[ صفحه 290]
فخرجا من عند الملک يعبدان الله جل جلاله ويسيحان في الارض، فهدي الله عز وجل بهما اناسا کثيرا وبلغ شأن الغلام وارتفع ذکره في الافاق فذکر والده، وقال: لو بعثت إليه فاستنقذته مما هو فيه، فبعث إليه رسولا فأتاه فقال له: إن ابنک يقرئک السلام وقص عليه خبره وأمره فأتاه والده وأهله فاستنقذهم مما کانوا فيه.
ثم إن بلوهر رجع إلي منزله واختلف إلي يوذاسف أياما حتي عرف أنه قد فتح له الباب ودله علي سبيل الصواب، ثم تحول من تلک البلاد إلي غيرها وبقي يوذاسف حزينا مغتما فمکث بذلک حتي بلغ وقت خروجه إلي النساک لينادي بالحق ويدعو إليه أرسل الله عزوجل ملکا من الملائکة فلما رأي منه خلوة ظهر له وقام بين يديه، ثم قال له: لک الخير والسلامة أنت إنسان بين البهائم الظالمين الفاسقين من الجهال أتيتک بالتحية من الحق وإله الخلق بعثني إليک لابشرک وأذکر لک ما غاب عنک من امور دنياک وآخرتک، فاقبل بشارتي ومشورتي ولا تغفل عن قولي، اخلع عنک الدنيا وانبذ عنک شهواتها وازهد في الملک الزائل، والسلطان الفاني الذي لا يدوم وعاقبته الندم والحسرة، واطلب الملک الذي لا يزول الفرح الذي لا ينقضي والراحة التي لا يتغير وکن صديقا مقسطا، فإنک تکون إمام الناس تدعوهم إلي الجنة.
فلما سمع يوذاسف کلامه خر بين يدي الله عز وجل ساجدا، وقال: إني لامر الله تعالي مطيع وإلي وصيته منته فمرني بامرک فإني لک حامد ولمن بعثک إلي شاکر فإنه رحمني ورؤف بي ولم يرفضني بين الاعداء فإني کنت بالذي أتيتني به مهتما، قال الملک: إني أرجع إليک بعد أيام، ثم أخرجک فتهيأ لذلک ولا تغفل عنه، فوطن يوذاسف نفسه علي الخروج وجعل همته کله فيه ولم يطلع علي ذلک أحدا حتي إذا جاء وقت خروجه أتاه الملک في جوف الليل والناس نيام، فقال
[ صفحه 291]
له: قم فاخرج ولا تؤخر ذلک، فقام ولم يفش سره إلي أحد من الناس غير وزيره فبينا هو يريد الرکوب إذا أتاه رجل شاب جميل کان قد ملکهم بلاده فسجد له.
وقال: أين تذهب: يا ابن الملک وقد أصابنا العسر أيها المصلح الحکيم الکامل: وتترکنا له وتترک ملکک وبلادک، أقم عندنا فإنا کنا منذ ولدت في رخاء وکرامة و لم تنزل بنا عاهة ولا مکروه، فسکته يوذاسف وقال له: امکث أنت في بلادک ودرا [159] أهل مملکتک فأما أنا فذاهب حيث بعثت وعامل ما أمرت به فإن أنت أعنتني کان لک في عملي نصيبا.
ثم إنه رکب فسار ما قضي الله له أن يسير، ثم إنه نزل عن فرسه ووزيره يقود فرسه ويبکي أشد البکاء، ويقول ليوذاسف: بأي وجه أستقبل أبويک؟ وبما أجيبهما عنک وبأي عذاب أو موت يقتلاني، وأنت کيف تطيق العسر والا ذي الذي لم تتعوده وکيف لا تستوحش وأنت لم تکن وحدک يوما قط؟ وجسدک کيف تحمل الجوع والظمأ والتقلب علي الارض والتراب، فسکته وعزاه ووهب له فرسه والمنطقة فجعل يقبل قدميه ويقول: لا تدعني وراءک يا سيدي اذهب بي معک حيث خرجت فانه لا کرامة لي بعدک وإنک إن ترکتني ولم تذهب بي معک أخرج في الصحراء ولم أدخل مسکنا فيه إنسان أبدا، فسکته أيضا وعزاه وقال: لا تجعل في نفسک إلا خيرا فإني باعث إلي الملک وموصيه فيک أن يکرمک ويحسن إليک.
ثم نزع عنه لباس الملک ودفعه إلي وزيره وقال له: البس ثيابي وأعطاء الياقوتة التي کان يجعلها في رأسه، وقال له: انطلق بها معک وفرسي وإذا أتيته فاسجد له وأعطه هذه الياقوتة وأقرئه السلام ثم الاشراف وقل لهم: إني لما نظرت فيما بين الباقي والزائل رغبت في الباقي وزهدت في الزائل ولما استبان لي أصلي وحسبي وفصلت بينهما وبين الاعداء والقرباء رفضت الاعداء والقرباء وانقطعت
[ صفحه 292]
إلي أصلي وحسبي، فأما والدي فإنه إذا أبصر الياقوتة طابت نفسه، فإذا أبصر کسوني عليک ذکرني وذکر حبي لک ومودتي إياک، فمنعه ذلک أن يأتي إليک مکروها.
ثم رجع وزيره وتقدم يوذاسف أمامه يمشي حتي بلغ فضاء واسعا فرفع رأسه فرأي شجرة عظيمة علي عين من ماء أحسن ما يکون من الشجر وأکثرها فرعا وغصنا وأحلاها ثمرا، وقد اجتمع إليها من الطير ما لا يعد کثرة، فسر بذلک المنظر وفرح به، وتقدم إليه حتي دنا منه، وجعل يعبره في نفسه ويفسره فشبه الشحر بالبشري التي دعا إليها وعين الماء بالحکمة والعلم، والطير بالناس الذين يجتمعون إليه و يقبلون منه الدين، فبينا هو قائم إذا أتاه أربعة من الملائکة عليهم السلام يمشون بين يديه فأتبع آثارهم حتي رفعوه في جو السماء واوتي من العلم والحکمة ما عرف به الاولي والوسطي والاخري، والذي هو کائن، ثم أنزلوه إلي الارض وقرنوا معه قرينا من الملائکة الاربعة فمکث في تلک البلاد حينا ثم إنه أتي أرض سولابط فلما بلغ والده قدومه خرج يسير هو والاشراف فأکرموه وقربوه، واجتمع إليه أهل بلده مع ذوي قرابته وحشمه وقعدوا بين يديه وسلموا عليه وکلمهم الکلام الکثير وفرش لهم الاساس وقال لهم: اسمعوا إلي بأسماعکم وفرغوا إلي قلوبکم لاستماع حکمة الله عز وجل التي هي نور الانفس وثقوا بالعلم الذي هو الدليل علي سبيل الرشاد، وأيقظوا عقولکم وافهموا الفصل الذي بين الحق والباطل، والضلال والهدي.
واعلموا أن هذا هو دين الحق الذي أنزله الله عزوجل علي الانبياء والرسل عليهم السلام، والقرون الاولي، فخصنا الله عزوجل به في هذا القرن برحمته بنا ورأفته رحمته وتحننه علينا وفيه خلاص من نار جهنم إلا أنه لا ينال الانسان ملکوت السماوات ولا يدخلها أحد إلا بالايمان وعمل الخير، فاجتهدوا فيه لتدرکوا به الراحة الدائمة والحياة التي لا تنقطع أبدا ومن آمن منکم بالدين فلا يکونن إيمانه طمعا في الحياة ورجاء لملک الارض وطلب مواهب الدنيا، وليکن إيمانکم بالدين طمعا في ملکوت السماوات ورجاء للخلاص وطلب النجاة من الضلالة وبلوغ الراحة
[ صفحه 293]
والفرج في الآخرة، فإن ملک الارض وسلطانها زائل، ولذاتها منقطعة، فمن اغتر بها هلک وافتضح، لو قد وقف علي ديان الدين الذي لا يدين إلا بالحق، فإن الموت مقرون مع أجسادکم وهو يتراصد أرواحکم أن يکبکبها مع الاجساد.
واعلموا أنه کما أن الطير لا يقدر علي الحياة والنجاة من الاعداء من اليوم إلي غد إلا بقوة من البصر والجناحين والرجلين، فکذلک الانسان لا يقدر علي الحياة والنجاة إلا بالعمل والايمان والعمل الصالح وأفعال الخير الکاملة، فتفکر أيها الملک أنت والاشراف فيما تسمعون وافهموا واعتبروا، واعبروا البحر ما دامت السفينة، و اقطعوا المفازة ما دام الدليل والظهر والزاد، واسلکوا سبيلکم ما دام المصباح، و أکثروا من کنوز البر مع النساک، وشارکوهم في الخير والعمل الصالح، وأصلحوا التبع وکونوا لهم أعوانا، ومروهم بأعمالکم لينزلوا معکم ملکوت النور، واقبلوا النور، واحتفظوا بفرائضکم، وإياکم أن تتوثقوا إلي أماني الدنيا وشرب الخمور وشهوة النساء من کل ذميمة وقبيحة مهکلة للروح والجسد واتقوا الحمية والغضب والعداوة والنميمة، وما لم ترضوه أن يؤتي إليکم فلا تأتوه إلي أحد، وکونوا طاهري القلوب، صادقي النيات لتکونوا علي المنهاج إذا أتاکم الاجل.
ثم انتقل من أرض سولابط وسار في بلاد ومدائن کثيرة حتي أتي أرضا تسمي قشمير فسار فيها وأحيا ميتها ومکث حتي أتاه الاجل الذي خلع الجسد، وارتفع إلي النور، ودعا قبل موته تلميذا له اسمه ايابد الذي کان يخدمه و يقوم عليه، وکان رجلا کاملا في الامور کلها، وأوصي إليه، وقال: إنه قد دنا ارتفاعي عن الدنيا، واحتفظوا بفرائضکم، ولا تزيغوا عن الحق، وخذوا بالتنسک ثم أمر ايابذ أن يبني له مکانا فبسطه هو رجليه وهيأ رأسه إلي المغرب ووجهه إلي المشرق ثم قضي نحبه.
قال مصنف هذا الکتاب: ليس هذا الحديث وما شاکله من أخبار المعمرين وغيرهم مما أعتمده في أمر الغيبة وقوعها، لان الغيبة إنما
[ صفحه 294]
صحت لي بما صح عن النبي صلي الله عليه وآله والائمة عليهم السلام من ذلک بالاخبار التي بمثلها صح الاسلام وشرائعه وأحکامه، ولکني أري الغيبة لکثير من أنبياء الله ورسله صلوات الله عليهم ولکثير من الحجج بعدهم عليهم السلام و لکثير من الملوک الصالحين من قبل الله تبارک وتعالي، ولا أجد لها منکرا من مخالفينا وجميعها في الصحة من طريق الرواية دون ما قد صح بالاخبار الکثيرة الواردة الصحيحة عن النبي والائمة صلوات الله عليهم في أمر القائم الثاني عشر من الائمة عليهم السلام وغيبته حتي يطول الامد وتقسو القلوب ويقع اليأس من ظهوره، ثم يطلعه الله وتشرق الارض بنوره ويرتفع الظلم والجور بعدله، فليس في التکذيب بذلک مع الاقرار بنظائره إلا القصد إلي إطفاء نور الله وإبطال دينه ويأبي الله إلا إن يتم نوره ويعلي کلمته ويحق الحق ويبطل الباطل، ولو کره المخالفون المکذبون بما وعد الله الصالحين علي لسان خير النبيين صلوات الله عليه وعلي آله الطاهرين.
ولا يرادي هذا الحديث وما يشاکله في هذا الکتاب معني آخر وهو أن جميع أهل الوفاق والخلاف يميلون إلي مثله من الاحاديث فإذا ظفروا به من هذا الکتاب حرصوا علي الوقوف علي سائر ما فيه، فهم بالوقوف عليه من بين منکر وناظر وشاک ومقر، فالمقر يزداد به بصيرة، والمنکر تتأکد عليه من الله الحجة، والواقف الشاک يدعوه وقوفه بين الاقرار والانکار إلي البحث والتنقيب [160] إلي أمر الغائب وغيبته، فترجي له الهداية لان الصحيح من الامور لا يزيده البحث والتنقيب [161] 1 إلا تأکيدا کالذهب الذي کلما دخل النار ازداد صفاء وجودة.
وقد غيب الله تبارک وتعالي اسمه الاعظم الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطي في أوائل سور من القرآن.
[ صفحه 295]
فقال عزوجل: الم، والمر، والر، والمص، وکهيعص، وحمعسق، وطسم، وطس، ويس وما أشبه ذلک لعلتين أحدهما أن الکفار والمشرکين کانت أعينهم في غطاء عن ذکر الله وهو النبي صلي الله عليه وآله بدليل قوله عزوجل «أنزل الله إليکم ذکرا، رسولا» [162] وکانوا لا يستطيعون للقرآن سمعا فأنزل الله عزوجل أوائل سور منه اسم الاعظم بحروف مقطوعة هي من حروف کلامهم ولغتهم ولم تجر عادتهم بذکرها مقطوعة فلما سموها تعجبوا منها، وقالوا: نسمع ما بعدها تعجبا فاستمعوا إلي ما بعدها فتأکدت الحجة علي المنکرين وازداد أهل الاقرار به بصيرة وتوقف الباقون شکاکا لا همة لهم إلا البحث عما شکوا فيه، وفي البحث الوصول إلي الحق.
والعلة الاخري في إنزال أوائل هذه السور بالحروف المقطوعة ليخص بمعرفتها أهل العصمة والطهارة، فيقيمون بها الدلائل ويظهرون بها المعجزات، ولم عم الله تعالي بمعرفها جميع الناس لکان في ذلک ضد الحکمة وفساد التدبير، وکان لا يؤمن من غير المعصوم أن يدعو بها علي نبي مرسل أو مؤمن ممتحن، ثم لا يجوز أن يقع الاجابة بها مع وعده واتصافه بأنه لا يخلف الميعاد، علي أنه يجوز أن يعطي المعرفة ببعضها من يجعله عبرة لخلقه متي تعدي فيها حده کبلعم بن باعورا حين أراد أن يدعو علي کليم الله موسي بن عمران عليه السلام فأنسي ما کان اوتي من الاسم، فانسلخ منها، وذلک قول الله عزوجل في کتابه «واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فکان من الغاوين»، [163] وإنما فعل عزوجل ذلک ليعلم الناس أنه ما اختص بالفضل إلا من علم أنه مستحق للفضل، وأنه لم عم لجاز منهم وقوع ما وقع من بلعم.
وإذا جاز أن يغيب الله عزوجل اسمه الاعظم في الحروف المقطوعة في کتابه الذي هو حجته وکلامه، فکذلک جائز أن يغيب حجته في الناس عن عباده المؤمنين وغيرهم لعلمه عزوجل أنه متي أظهره وقع من أکثر الناس التعدي لحدود الله في شأنه فيستحقون بذلک القتل، فان قتلهم لم يجز وفي أصلابهم مؤمنون، وإن لم يقتلهم لم يجز وقد استحقوا القتل.
فالحکمة للغيبة في مثل هذه الحالة موجبة، فإذا تزيلوا ولم يبق في أصلابهم مؤمن أظهره الله عزوجل فخسف بأعدائه وأبادهم، [164] ألا تري المحصنة إذا زنت وهي حبلي لم ترجم حتي تضع ولدها وترضعه إلا أن يتکفل برضاعه رجل من المسلمين، فهذا سبيل من في صلبه مؤمن إذا وجب عليه القتل لم يقتل حتي يزايله، ولا يعلم ذلک إلا من يکون حجة من قبل علام الغيوب، ولهذا لا يقيم الحدود إلا هو، وهذه هي العلة التي من أجلها ترک أمير المؤمنين عليه السلام مجاهدة أهل الخلاف خمسا وعشرين سنة بعد رسول الله صلي الله عليه واله.
حدثنا جعفر بن محمد بن مسرور رضي الله عنه قال: حدثنا الحسين ابن محمد بن عامر، عن عمه عبد الله بن عامر، عن محمد بن أبي عمير، عمن ذکره، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قلت له: ما بال أمير المؤمنين عليه السلام لم يقاتل مخالفيه في الاول؟ قال: لآية في کتاب الله تعالي: «لو تزيلوا لعذبنا الذين کفروا منهم عذابا أليما»، قال: قلت: وما يعني بتزايلهم؟ قال: ودائع مؤمنون في أصلاب قوم کافرين.
وکذلک القائم عليه السلام لم يظهر أبدا حتي تخرج ودائع الله عزوجل فإذا خرجت ظهر علي من ظهر من أعداء الله عزوجل فقتلهم.
حدثنا المظفر بن جعفر بن المظفر العلوي رضي الله عنه قال:
[ صفحه 296]
حدثنا جعفر بن محمد بن مسعود، عن أبيه، عن علي بن محمد، عن أحمد بن محمد، عن الحسن بن محبوب، عن إبراهيم الکرخي قال: قلت لابي عبد الله عليه السلام ـ أو قال له رجل ـ: أصلحک الله ألم يکن علي عليه السلام قويا في دين الله عزوجل؟ قال: بلي؟ قال: فکيف ظهر عليه القوم، وکيف لم يدفعهم وما يمنعه [165] من ذلک؟ قال: آية في کتاب الله عزوجل منعته؟ قال: قلت: وأية آية هي؟ قال: قوله عزوجل: «لو تزيلوا لعذبنا الذين کفروا منهم عذابا أليما» إنه کان لله عزوجل ودائع مؤمنون في أصلاب قوم کافرين ومنافقين فلم يکن علي عليه السلام ليقتل الآباء حتي يخرج الودائع فلما خرجت الودائع ظهر علي من ظهر فقاتله. وکذلک قائمنا أهل البيت لن يظهر أبدا حتي تظهر ودائع الله عزوجل فإذا ظهرت ظهر علي من يظهر فقتله.
حدثنا المظفر بن جعفر بن المظفر السمرقندي العلوي رضي الله عنه قال: حدثنا جعفر بن محمد بن مسعود، عن أبيه قال: حدثنا جبرئيل ابن أحمد قال: حدثني محمد بن عيسي بن عبيد، عن يونس بن عبد الرحمن عن منصور بن حازم، عن أبي عبد الله عليه السلام في قول الله عزوجل: «لو تزيلوا لعذبنا الذين کفروا منهم عذابا أليما»، لو أخرج الله عزوجل ما في أصلاب المؤمنين من الکافرين وما في أصلاب الکافرين من المؤمنين لعذب الذين کفروا.
و [166] حدثنا أبو الحسن علي بن عبد الله بن أحمد الفقيه الاسواري بايلاق قال: حدثنا مکي بن أحمد البرذعي قال: سمعت إسحاق بن إبراهيم الطرسوسي يقول ـ وکان قد أتي عليه سبع وتسعون سنة علي باب يحيي بن منصور ـ قال: رأيت سربانک ملک الهند في بلدة تسمي «قنوج» [167] فسألناه کم أتي عليک من السنين؟ فقال: تسعمائة
[ صفحه 297]
سنة وخمس وعشرون سنة وهو مسلم وزعم أن النبي صلي الله عليه وآله أنفذ إليه عشرة من أصحابه فيهم حذيفة بن اليمان وعمرو بن العاص واسامة بن زيد وأبو موسي الاشعري وصهيب الرومي وسفينة وغيرهم يدعونه إلي الاسلام فأجاب وأسلم وقبل کتاب النبي صلي الله عليه وآله فقلت له: کيف تصلي مع هذا الضعف؟ فقال لي: قال الله تعالي: «الذين يذکرون الله قياما وقعودا وعلي جنوبهم ـ الاية» فقلت له: وما طعامک، فقال: آکل ماء اللحم والکراث، وسألته هل يخرج منک شيء فقال: في کل أسبوع مرة شيء يسير، قال: وسألته عن أسنانه: فقال أبدلتها عشرين مرة ورأيت (له) في اصطبله شيئا من الدواب أکبر من الفيل يقال له: زند فيل، فقلت له: وما تصنع بهذا؟ قال: يحمل بها ثياب الخدم إلي القصار. ومملکته مسيرة أربع سنين في مثلها، ومدينته طولها خمسون فرسخا في مثلها، وعلي کل باب منها عسکر في مائة ألف وعشرين ألفا، إذا وقع في أحد من تلک الابواب حدث خرجت تلک الفرقة إلي الحرب لا يستعان بغيرها وهو في وسط المدينة وسمعته يقول: دخلت المغرب [168] فبلغت إلي الرمل ـ رمل العالج ـ وصرت إلي قوم موسي عليه السلام، فرأيت سطوح بيوتهم مستوية وبيدر الطعام [169] خارج القرية يأخذون منه القوت والباقي يترکونه هناک وقبورهم في دورهم وبساتينهم من المدينة علي فرسخين ليس فيهم شيخ ولا شيخة ولم أر فيهم علة ولا يعتلون إلي أن يموتوا، ولهم أسواق إذا أراد إنسان منهم شراء شيء صار إلي السوق فوزن لنفسه وأخذ ما يصيبه وصاحبه غير حاضر، وإذا أرادوا الصلاة حضروا فصلوا وانصرفوا، لا يکون بينهم خصومة أبدا ولا کلام يکره إلا ذکر الله عزوجل والصلاة وذکر الموت.
قال مصنف هذا الکتاب ـ رحمه الله ـ: فإذا کان جاز عند مخالفينا مثل هذه الحال لسربانک ملک الهند فينبغي أن لا يحيلوا مثل ذلک في حجة الله في التعمير ولا قوة إلا بالله.
[ صفحه 298]
پاورقي
[1] هو معاذ بن معاذ العنبري قاضي البصرة عامي وثقه ابن معين وأبو حاتم وعبد الله هو ابن أخ جويرية وثقه أبو حاتم. وعمه جويرية وثقه أحمد (تهذيب التهذيب).
[2] «ثوائي» أي اقامتي وفي رواية «فيهم» مکان «عندهم».
[3] في نسخة «وصبح ليل».
[4] الشلو ـ بالکسر ـ: بقية الشيء، والمشلي من الرجال: الخفيف اللحم. وفي رواية «وبقيت شلوا».
[5] حزبه أمر أي نزل به مهم أو أصابه غم.
[6] الهنيدة: المائة من الابل وغيرها، وقال أبو عبيدة: هي اسم لکل مائة وانصات الرجل إذا أجاب.
[7] في رواية «بعد ابيضاضه».
[8] شرخ الشباب أوله أو نضارته.
[9] من عبد القيس بن أفصي بن دعمي بن أسد بن ربيعة بن نزار.
[10] في بعض النسخ «الاشوس».
[11] في رواية السجستاني «فاضحوا».
[12] في بعض النسخ «رداد بن کعب». وأورده أبو حاتم السجستاني في «المعمرون» بعنوان جعفر بن قرط بن کعب بن قيس بن سعد وذکر له شعرا، ولعله کعب بن رداة النخعي کما ذکره ابن الکلبي علي قول السجستاني.
[13] لدة الرجل: تربه والجمع لدات.
[14] السبات: النوم والراحة وفي بعض النسخ «ذي بتات» والبتات: متاع البيت. وفي رواية السجستاني «من مسقط الشمس إلي الفرات».
[15] في رواية «قد انضيت».
[16] في بعض النسخ «فابلي» وفي البحار «فابکي». وزاد في کتاب أبي حاتم السجستاني: وقد کنت دهرا أهزم الجيش، واحدا وأعطي فلا منأ عطائي ولا نزرا.
[17] في بعض النسخ والکتب «عوام بن المنذر».
[18] جآجئ جمع جؤجؤ وهو الصدر، وقيل: عظامه، وهو المراد هنا.
[19] أي فزع لما ظن أنه أراد بابي الوليد اياه.
[20] هو عبيد بن الابرص الاسدي الشاعر من بني سعد بن ثعلبة بن دودان بن أسد وقتله کما في هامش «المعمرون» المنذر بن ماء السماء وهو أحد فحول الشعراء الجاهلي.
[21] الفراقد جمع فرقد، وهو النجم الذي يهتدي به.
[22] يوم مهران ويوم تستر يومان من ايام المسلمين المشهورة في تاريخ الفتوحات الاسلامية ببلاد الفرس. والاشعار في کتاب السجستاني مصرعها الاول ساقط وجعل المصراع الثاني مکانه وهکذا إلي آخرها.
[23] قال ابن دريد: مسحاج بن سباع. وفي «المعمرون» مسجاح بن خالد بن الحارث بن قيس بن نصر بن عائذة بن ذهل بن مالک بن بکر بن سعد بن ضبة. وقال: زعموا أنه قال ـ ثم ذکر ما في المتن من الشعر وزاد:
ومفقود عزيز الفقد تأتي
منيتـه ومأمول وليد
.
[24] في بعض النسخ «بليت وآن لي أن قد أبيد» وکذا في «المعمرون».
[25] هو غير لقمان الذي عاصر داود النبي عليه السلام.
[26] راجع مجمع الامثال ص 372.
[27] قال لبيد بن ربيعة الجعفري من بني کلاب فيه:
ولقد رأي لبد النسور تطايرت
رفع القــوادم کالفقير الاعزل
من تحته لقمان يرجو نهضـه
ولقـد رأي لقمـان ألا يـأتلي
وقال الضبي فيه:
أو لم تـر لقمان أهلکـه
ما افتات من سنة ومن شهر
وبقاء نسر کلما انقرضت
أيـامه عادت إلـي نسـر
وقال النابغة الذبياني:
أمست خلاء وأمسي أهلها احتملوا
أخني عليها الذي أخني علي لبد
وأخني أي أفسد.
[28] في بعض النسخ «حباب».
[29] في «المعمرون» عاش أربعمائة سنة وعشرين سنة.
[30] قال السجستاني «سبعمائة» وذکر له حکاية.
[31] اسمه حنظلة بن الشرقي وهو من بني کنانة بن القين وفي «المعمرون» عاش مائتي سنة. وقد يظهر من القاموس کونه شاعرا.
[32] أولها «ولقد سئمت من الحياة وطولها، وعمرت من عدد الستين مئينا».
[33] بقية وصيته: «أوصيکم بالناس شرا، طعنا وضربا، قصروا الاعنة، واشرعوا الاسنة، وارعوا الکلاء وان کان علي الصفا، وما احتجتم إليه فصونوه، وما استغنيتم عنه فأفسدوه علي من سواکم، فان غش الناس يدعو إلي سوء الظن، وسوء الظن يدعوا إلي الاحتراس» انتهي. راجع نسخة اخري من وصية «دويد» امالي السيد رحمه الله ج 1 ص 171.
ونظير ذلک الکلام وصية جده نهد بن زيد. وکأن معاوية بن أبي سفيان قرأ هذه الوصية وعمل بها حين بعث سفيان بن عوف الغامدي إلي غارة الانبار حيث أوصاه ـ کما في شرح الحديدي ـ بان اقتل من لقيت ممن ليس علي مثل رأيک، وأخرب کل ما مررت به من القري وانتهب الاموال ـ الخ. وکذا في وصية يزيد ابنه حين بعث مسلم بن عقبة إلي المدينة في فتنة ابن الزبير.
[34] في «المعمرون» خمسمائة سنة وقال: کان من دهاة العرب في زمانه.
[35] في «المعمرون» «عاش اربعين وثلاثمائة سنة».
[36] الهضبة: المطرة. وفي رواية «قصبة».
[37] أي يميل في المشي.
[38] اللغب: التعب والاعياء.
[39] في بعض النسخ «نصير الشجري».
[40] في بعض النسخ «سمعت أبا الحسين».
[41] في بعض النسخ «أبا الحسن» وکذا فيما يأتي.
[42] الهرمان ـ بالتحريک ـ: بناعان اوليان بمصر بناهما ادريس لحفظ العلوم فيهما عن الطومان. أو بناء سنان بن المشلشل، أو بناء الاوائل لما علموا بالطوفان من جهة النجوم وفيها کل طب وسحر وطلسم. وهناک أهرام صغار کثيرة (القاموس).
[43] البلاط: الحجارة المفروشة في الدار.
[44] أي سفينة صغيرة.
[45] تماوت. تظاهر أنه مات وأظهر التخافت والتضاعف.
[46] العرمرم: الجيش الکثير.
[47] في بعض النسخ «لذي نهبة» وفي بعضها «لذي هيبة».
[48] في بعض النسخ «تتثلم».
[49] في نسخة «تهجم».
[50] علي العلات أي علي کل حال.
[51] منسوب إلي عبد شمس بجوار أو ولاء أو حلف.
[52] شبه الجزور بالهضاب وهو الحبل المنبسط.
[53] کذا ولعل الصواب «جعفر بن قرط» بضم القاف وسکون الراء وهو جعفر بن قرط بن کعب بن قيس بن سعد. وذکر ابن الکلبي أنه جعفر بن قرط بن عبد يغوث بن کعب ابن ردة الشاعر.
[54] في «المعمرون» مائتي سنة.
[55] السغب: الجوع وفي رواية «ولکني امرء قومي شعوب».
[56] في رواية «ايها» وکلاهما کلمة زجر.
[57] في بعض النسخ «الرهوب» وفي بعضها «الرکوب».
[58] الرذي من أثقله المرض والضعف من کل شيء (القاموس).
[59] جمع الخوان: ما يؤکل عليه الطعام.
[60] في بعض النسخ «تستثيروا السباع».
[61] في بعض النسخ «لئلا تستثقلوا».
[62] في رواية «عن صراحة النسب». وفي بعض النسخ «عن النصيحة». وفي وصية أکثم بن صيفي «يا بني لا يغلبنکم جمال النساء عن صراحة النسب.
[63] في رواية «وکونوا أنجادا عند الملمات تغلبوا».
[64] النجعة وزان الرقعة طلب الکلاء في موضعه وفي رواية «واحذروا النجعة التي في المنعة».
[65] في رواية «فلئن تلاموا وبکم قوه خير من أن تعاونوا بالعجز».
[66] في بعض النسخ «لغير مکرمة فتخلقوها ولا تحتشموا أهل الدناءة فتقصروا بها» وفي بعض النسخ «ولا تحتشموها». والتجشم: التکلف.
[67] في رواية «وابتنوا المباني بالادب ومصافاة أهل الحباء». والحباء: العطاء بلا جزاء.
[68] المشرفية سيوف جيدة تنسب إلي مشارف الشام.
[69] في بعض «النسخ» ومن الاذي کثرة العتاب».
[70] القرع ـ بالفتح ـ: الضرب، والمراد أن ينبه الانسان صاحبه عند خطئه. وأصل المثل أن عامر بن الظرب طعن في السن وأنکر قومه من عقله شيئا، فقال لبنيه: اذار أيتموني خرجت من کلامي وأخذت في غيره فاقرعوا إلي المحجن بالعصا فکانوا يقرعونه والارض.
[71] في «المعمرون» مائة وثمانين سنة وفي بعض النسخ «عاد بن شداد».
[72] النساء: 99.
[73] في بعض النسخ (حبيشا).
[74] في بعض النسخ (وأخذت).
[75] أي ان کان ملکا.
[76] لعل المعني الله يعلم حيث يجعل رسالاته.
[77] أي کلفتني.
[78] في بعض النسخ «فالاختلاط عجز» والصريمة: العزيمة في الشيء. والصرم القطع.
[79] الخلي: الخالي من الهم والحزن خلاف الشجي والمثل معروف والمعني أني في هم عظيم لهذا الامر الذي أدعوکم إليه وأنتم فارغون غافلون فويل لي منکم. (البحار)
[80] رقأ الدم: جف وسکن، والرقوء ـ کصبور ـ: ما يوضع علي الدم ليرقئه والمعني أنها تعطي في الديات فتحقن بها الدماء.
[81] العدم ـ بالضم وبضمتين وبالتحريک الفقدان وغلب علي فقدان المال.
[82] في بعض النسخ «من فئتين».
[83] في بعض النسخ «الريبة».
[84] يعني الزيارة يوما ويوما لا موجبة للحب.
[85] کذا والظاهر «الاقتصاد في السعي أبقي للجمال» کما في رواية السجستاني، و اما الجمام کما في الصلب: الراحة، والقوة.
[86] أي سکن. وفي بعض القراءات «ودع» أي راح نفسه.
[87] في بعض النسخ الحديث «الجزع عند النازلة آفة التجمل».
[88] کذا. وفي جمهرة الامثال ج 1 ص 320 ومجمع الامثال ص 698 «ويل لعالم أمر من جاهله».
[89] في بعض النسخ «عما لا تسألوا».
[90] القعقعة: حکاية صوت السلاح، وقعقعت عمدهم تقعقعت: وارتحلوا يعني إذا اجتمعوا وتقاربوا وقع بينهم الشر فتفرقوا. أو معناه لا بد من الافتراق بعد الاجتماع. أو من غبط بکثرة العدد واتساق الامر فهو بمعرض الزوال والانتشار.
[91] في اکثر النسخ «فروة بن ثعلبة بن نفاية» والظاهر تصحيف.
[92] وقال شعرا منها:
ان مصاد بن جناب قد ذهب
أدرک من طول الحياة ما طلب
والموت قدر يدرک يوما من هرب
.
[93] تقدم الاختلاف في جده أهو يسار أو بشار.
[94] في البحار «عيسي بن يزيد بن رئاب».
[95] في بعض النسخ «عبد الله».
[96] في بعض النسخ «أبو علي بن همام».
[97] في بعض النسخ «العسکري» وفي بعضها السکوني.
[98] النهمة ـ بفتح النون ـ بلوغ الهمة والشهوة في الشيء ويقال: له في هذا الامر نهمة أي شهوة.
[99] المئناث: التي اعتادت أن تلد الاناث وکذلک الرجل لانهما يستويان في مفعال. ويقابله المذکار وهي التي تلد الذکور کثيرا.
[100] النساک: العباد. وزبره أي زجره.
[101] المربط ـ بفتح الباء وکسرها ـ موضع ربط الدواب.
[102] الذبحة ـ بضم الذال وفتح الباء، والعامة تسکن الباء ـ: ورم حار في العضلات من جانب الحلقوم التي بها يکون البلع. وقال العلامة: وقد يطلع الذبحة علي الاختناق. والشيخ لا يفرق بينهما، وقيل هي ورم اللوزتين (بحر الجواهر).
[103] القموص ـ علي وزان چموش ـ وبمعناه.
[104] في بعض النسخ «استمسکت».
[105] في بعض النسخ «وبينا هي تشتمه إذا شتمت منه». ولعل الصواب «بينا هي تسمنه إذ سمنت منه».
[106] في بعض النسخ «الفجرة مکان البررة».
[107] الجدب: القحط، مقابل الخصب.
[108] الضاري من الکلاب ما لهج بالصيد وتعود أکله.
[109] السورة ـ بالفتح ـ: الحدة.
[110] في بعض النسخ «الحشد» وهو الجماعة.
[111] الکد: السعي والجد. والکدح في العمل: المجاهدة فيه.
[112] المجن: الترس وکل ما وقي من السلاح.
[113] لعله جمع خان وهو الحانوت والفندق. وفي بعض النسخ «المخابي».
[114] کذا بالياء في جميع النسخ والمظنون أنه تصحيف والصواب بوداسف والکلمة مرکبة من «بوذا» و «سف» وقيل: بوذا هو الاسم الديني لمؤسس الديانة البوذية ومعناه باللغة السنسکريتية: العالم الذي وصل الحصول علي البوذة وهو العلم الکامل. لکن لم أجد في موضع يدخله أداة التعريف وعلي ما قيل ليس باسم علم بل هو صفة، وبناء عليه يجوز أن يدخله «أل» ويقال «البوذا» والعلم عند الله.
[115] جمع الظئر: المرضعة.
[116] في بعض النسخ «يستثقلون بمکانه».
[117] أي لا يستطيع تحولا.
[118] رتق الفتق: أصلحه. يقال: هو راتق أي مصلح الامر.
[119] في بعض النسخ «ما دهاه».
[120] الفرق ـ محرکة ـ: الخوف.
[121] الحاضن فاعل من حضنه أي جعله في حضنه ـ والحضن ما دون الابط لي االکشح أو الصدر والعضدان وما بينهما ـ أي الحافظ والمؤدب.
[122] في بعض النسخ «فأتي عليه رجلان من السؤال».
[123] تقلص أي انضم وانزوي.
[124] أي شديد الشهوة، يعني فيل مست، اغتلم الشراب: اشتدت سورته.
[125] الفاغر: الفاتح فاه.
[126] في بعض النسخ «فيما جعلکم الله أولي بالحق منهم».
[127] في بعض النسخ «أهل الحق».
[128] في بعض النسخ «قرم» ولعل الصواب «قرلي».
[129] في بعض النسخ «وزهادة عن الدنيا».
[130] في بعض النسخ «وأبصارنا إليه خاشعة».
[131] في بعض النسخ «ما لا يرغب فيها مالا الا له».
[132] الحتف: الموت من غير قتل والجمع حتوف. والراصد: المراقب.
[133] أي مسرورا، والحبر ـ بفتح الحاء وکسرها ـ السرور والجمع حبور وأحبار.
[134] في بعض النسخ «مشعوفا».
[135] العقدة: الضيعة وهي المتاع والعقار.
[136] الاهبة: العدة، يقال: أخذ للسفر أهبته أي أسبابه.
[137] في بعض النسخ «شر» مکان «سوء».
[138] هذه اللفظة يمکن أن يکون بالجيم والراء أي لم تخطأ، أو بالحاء المهملة علي صيغة المفعول أي لم تمنع من فهمه. أو بالخاء المعجمة أي لم تترک، أو بالراي أي لم تشک.
[139] انبه ـ بشد النون ـ: عنفه ولامه.
[140] أي تام الحسن.
[141] نضد المتاع ـ بشد الضاد وتخفيفها ـ رتبه وضم بعضه إلي بعض متسقا أومر کوما والسماط: الشيء المصطف. وسماط الطريق جانباه.
[142] الذعر. الخوف والفزع.
[143] في بعض النسخ «رسول البلاء».
[144] أناخ البلاء علي فلان: أقام عليه، وأناخ به الحاجة: أنزلها به. أناخ الجمل: أبرکه.
[145] طرق القوم: أتاهم ليلا.
[146] نحاه عنه أي أبعده عنه وأزاله ـ والنجدة: الشجاعة والشدة والبأس.
[147] في بعض النسخ «وان حجب لم يحتجب».
[148] يشتمل خ ل.
[149] في بعض النسخ «ولا يستحيل بهم الاطماع عن نصيحتي» وفي بعضها «لا يستميل».
[150] في بعض النسخ «إلي الدنيا».
[151] الشرک: آلة الصيد.
[152] صحا السکران: ذهب سکره وأفاق.
[153] فرک الثوب: دلکه، الشيء عن الثوب أزاله وحکه حتي تفتت.
[154] يعني فمها.
[155] أي لا زوج لهن.
[156] ترعرع الصبي: نشأ وشب.
[157] جلب القوم: ضجوا واختلطت اصواتهم، والجلاب والمجلب ـ بشد اللام ـ: المصوت.
[158] أي علي مهلک يعني امهل وتأن.
[159] من المداراة.
[160] في بعض النسخ المصححة «التنقير» والتنقير التفتيش کما في النهاية.
[161]
[162] الطلاق: 11 ـ 1.
[163] الاعراف: 175.
[164] أباده أي أهلکه.
[165] في بعض النسخ «لم يمنعهم وما منعه».
[166] عطف علي ما سبق من أخبار المعمرين.
[167] بقتح القاف وتشديد النون وآخره جيم، موضع ببلاد الهند. (المراصد).
[168] في بعض النسخ «دخلت إلي العرب».
[169] يعني الموضع الذي يجمع فيه الحصيد والقمح ويداس.