الغيب الله
الاحتجاج: أبي منصور أحمد بن علي بن أبي طالب الطبرسي: ج2 ص280 - 281: عن أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي (رحمه الله) قال: حدثني محمد بن إبراهيم بن إسحاق الطالقاني، عن الشيخ أبي القاسم الحسين بن روح رضي الله عنه قال: ومما خرج عن صاحب الزمان صلوات الله عليه رداً علي الغلاة من التوقيع جواباً لکتاب کتب إليه علي يدي محمد بن علي بن هلال الکرخي:...
يا محمد بن علي؛ تعالي الله وجلّ عمّا يصفون، سبحانه وبحمده، ليس نحن شرکاؤه في علمه ولا في قدرته، بل لا يعلم الغيب غيره، کما قال في محکم کتابه تبارکت أسماؤه: (قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله) [1] .
وأنا وجميع آبائي من الأوليين: آدم ونوح وإبراهيم وموسي، وغيرهم من النبيين، ومن الآخرين محمد رسول الله، وعليّ بن أبي طالب، وغيرهم من مضي من الأئمة صلوات الله عليهم أجمعين، إلي مبلغ أيّامي ومنتهي عصري، عبيد الله عزّ وجلّ، يقول الله عزّ وجلّ:
(من أعرض عن ذکري فإن له معيشةً ضنکاً ونحشره يوم القيامة أعمي قال ربّ لم حشرتني أعمي وقد کنت بصيراً قال کذلک أتتک آياتنا فنسيتها وکذلک اليوم تنسي) [2] .
يا محمد بن علي قد آذانا جهلاء الشيعةِ وحمقاؤهم، ومن دينه جناح البعوضة أرجح منه.
فأشهد الله الذي لا إله إلا الله هو وکفي به شهيداً، ورسوله محمداً (صلّي الله عليه وآله)، وملائکته وأنبيائه وأوليائه (عليهم السلام) وأشهدک وأشهد کلّ من سمع کتابي هذا: أنّي بريءُ إلي الله وإلي رسوله ممن يقول: إنّا نعلم الغيب، ونشارکه في ملکه، أو يحلّنا محلاًّ سوي المحلّ الذي رضيه الله لنا وخلقنا له، أو يتعدّي بنا عمّا قد فسّرته لک وبينته في صدر کتابي.
وأشهدکم: أن کلّ من نبرأ منه فإن الله يبرأ منه وملائکته ورسله وأولياؤه.
وجعلت هذا التوقيع الذي في هذا الکتاب أمانةً في عنقک وعنق من سمعه، أن لا يکتمه من أحد من مواليّ وشيعتي، حتي يظهر علي هذا التوقيع الکلّ من الموالي، لعلّ الله عزّ وجلّ يتلافاهم فيرجعون إلي دين الله الحقّ، وينتهون عمّا لا يعلمون منتهي أمره، ولا يبلغ منتهاه، فکلّ من فهم کتابي ولا يرجع إلي ما قد أمرته ونهيته، فقد حلّت عليه اللعنة من الله وممّن ذکرت من عباده الصالحين [3] .
وأما ندامة قوم شکّوا في دين الله علي ما وصلونا به [4] فقد أقلنا من استقال فلا حاجة إلي صلة الشاکين.
پاورقي
[1] سورة النمل، آية 65.
[2] سورة طه آية 124 - 126.
[3] الغلاة في تاريخ البشر کثيرون، فما من نبي ولا وصي ظهرت علي يده معجزات باهرة إلا وغالي فيه جمع من أتباعه في حياته أو بعد وفاته. وقد ابتدأ تاريخ عبادة الأصنام بغلاة اتخذوا أنبيائهم تماثيل توجهوا إليها بشکل من أشکال العبادة.
لأن الناس لا يألفون إلا ما هو في مستواهم، ولا يصدمهم أحد بما هو أرفع إلا وترتبک مقاييسهم ثم يتخبطون في انفعال وارتجال.
والناس لا يألفون سوي المتعاملين مع القوي المتاحة لجميعهم، فإذا ظهر نبي أو وصي يتعامل مع قوي أعلي کثير في محبيه من يغالي فيه وفي أعدائه من يتهمه بالسحر أو بالجنون.
وقد اضطر أصحاب الرسالات التغييرية إلي إثبات ارتباطهم بالسماء بالمعجزات، فآمن بهم الحکماء وألحد فيهم الجهلاء.
والأئمة (عليهم السلام) مارسوا المعجزات لأسباب لعل أهمها إلفات الرأي العام إليهم حتي يتقبل منهم الأحکام التي ما أتيح للرسول الأکرم (صلّي الله عليه وآله) بيانها أو بيّنها ولم تحفظ عنه. فابتلوا ببلاء الأنبياء، مضافاً إلي أن تطرف أعدائهم في التنکيل بهم وبمحبيهم أدي إلي تطرف أنصارهم في التوغل في التمجيد بهم إلي غير المقبول وغير المعقول - بعامل رد الفعل - ولکن الأئمة تحملوا انقسام الناس حولهم إلي محب غال وعدو قال قل بينهما النمط الأوسط واثقين من عدالة غربال التاريخ.
وأهم ما يتورط فيه الغلاة تجاه صاحب المعجزة أمران:
1- الغيب، حيث يجدونه ينبئ عما تحجبه الحواجز والمسافات أو يخبر عما لا زال ضميراً في أحشاء المستقبل.
2- القدرة، حيث يرونه يشق القمر أو يفلق البحر أو يحيي الرميم أو يتصرف في سائر الموجودات بدون وسيلة يمکنهم تعاطيها.
وعلي أثر الصدمة بهاتين الظاهرتين يفقدون توازنهم، ويستنتجون أن صاحب المعجزة هو الله أو لا أقل من أنه يشاطر الله علمه وقدرته.
وفي هذا التوقيع يعالج الإمام المهدي مشکلة الغلاة، ويکشف المؤشرات التي يملکها کإمام معصوم للرد عليهم بشکل قاطع يرفض أي تفسير أو تبرير، ويرکز علي الأمرين السابقين:
فأولاً: علم الغيب مختص بالله، ولا يعلم الغيب غيره أحد ممن في السماوات والأرض.
س: کيف ذلک وقد سجل القرآن إعلان عيسي ابن مريم لبني إسرائيل:(... وأنبئکم بما تأکلون وما تدخرون في بيوتکم) سورة آل عمران، آية 49.
وثبت في السنة أن جميع المعصومين کانوا يخبرون عن الحوادث التي تقع في شتي أقطار الدنيا وفي أعمق أبعاد المستقبل بذات الاطمئنان الذي يتحدثون به عن الحوادث الجارية تحت حواسهم، وقد صدقهم التاريخ إلا في موارد معدودة أسرعوا إلي بيان سبب تخلف الحادث من کلامهم، کموت العريس في ليلة زفافه في الحديث المشهور عن عيسي ابن مريم.
ج: علم الغيب شيء والإطلاع علي الغيب شيء آخر، وعلم الغيب خاص بالله تعالي، وقد أعلن أوليائه ذلک، فجري علي لسان النبي قرآناً يقول: (ويقولون لولا أنزل عليه آية من ربه فقل إنما الغيب الله فانتظروا إني معکم من المنتظرين) سورة يونس، آية 20.
وسئل الإمام علي (عليه السلام) عما أخبر بها من الملاحم: هل من علم الغيب؟ فقال: (کلا! وإنما هو تعلم من ذي علم).
فالله واسع محيط بالغيب وبالشهود علي حد سواء، فيعلم کل شيء أولاً وبالذات، وأما غيره من الأولياء فليست لهم ذوات شمولية حتي يحيطوا بالغيب أو بالشهود فيعلموه بإحاطتهم، وإنما ذواتهم محدودة لا تحيط بالغيب - کما لا تحيط حتي بالشهود -.
ولکن الله قد يمدهم فتمتد ذواتهم عبر الغيب فيطلعون عليه، کما قال سبحانه: (عالم الغيب فلا يظهر علي غيبه أحداً إلا من ارتضي من رسول فإنه يسلک من بين يديه ومن خلفه رصداً) سورة الجن، آية 26 - 27. وقال تعالي: (وما کان الله ليطلعکم علي الغيب ولکن الله يجتبي من رسله من يشاء...) سورة آل عمران، آية 179.
فإخبار الأولياء بالغيب لم يکن علماً بالغيب، وإنما اطلاعاً عليه بإذن الله، کما أن خلق عيسي للوطواط لم يکن بقدرته الذاتية، وإنما بالصلاحية المخوّلة له من قبل الله حسب ما روي القرآن عنه قوله: (إني أخلق لکم من الطين کهيئة الطير فأنفخ فيه فيکون طيراً بإذن الله) سورة آل عمران، آية 49.
وإذا أردنا التنظير لمجرد التقريب إلي الأذهان - ولا تنظير للخالق بالخلق - نستهدي إلي القول بأن من المفروض أن يکون رئيس الدولة علي علم بکل ما يجري في بلاده، عن طريق الأجهزة المتاحة له، وليس من المفروض أن يطلع الموظفون في الدولة علي المتغيرات المتوالدة في البلاد، ولکن رئيس الدولة قد يطلع موظفاً أو أکثر علي بعض المعلومات لسبب من الأسباب.
ويؤکد هذه الحقيقة ما وقع من (البداء) في إخبار بعض المعصومين بحوادث لم تقع، کإخبار عيسي ابن مريم بموت العريس في ليلة زفافه.
والسبب - لظاهرة البداء - أن المقتضيات الأولية لمجريات الأمور تسجل في لوح يعرف بـ(لوح المحو والإثبات) مع التحفظ تجاه المفاجآت. بينما تسجل النتائج النهائية للمتغيرات - مع مراعاة المفاجآت في لوح آخر يسمي بـ(اللوح المحفوظ) کما يطلق عليه: (أم الکتاب). وقد أشار القرآن إلي هذين اللوحين بقوله: (يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الکتاب) سورة الرعد: الآية 39.
وأرواح المعصومين قد تتصل بـ(لوح المحو والإثبات) فينقلون المثبتات الواردة فيه، وهم يعلمون أنها معرضة للمفاجآت. وربما تتطلع أرواحهم علي (اللوح المحفوظ) فينقلون عنها معلومات يؤکدون أنها حتمية.
وقد عبر الإمام علي (عليه السلام) عن تعرض مثبتات لوح المحو والإثبات للمفاجآت بقوله: (لولا آية في کتاب الله لأخبرتکم بما کان وما يکون وما هو کائن إلي يوم القيامة) فقالوا: وما هي يا أمير المؤمنين؟ قال: (قوله تعالي: (يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الکتاب)).
وقد قال الإمام علي (عليه السلام) هذا ليضع احتمال المفاجآت علي کثير من المغيبات التي أخبر عنها بعض المعصومين، وإلا فالإمام علي نفسه من المطلعين علي اللوح المحفوظ بمقتضي قوله تعالي: (قل کفي بالله شهيداً بيني وبينکم ومن عنده علم الکتاب) سورة الرعد: الآية 43 والمعني بقوله سبحانه: (ومن عنده علم الکتاب) هو الإمام علي حسب ما ثبتت روايته عن النبي (صلّي الله عليه وآله).
ثانياً: أن جميع الأنبياء والأوصياء، ابتداءً من أول الأنبياء - وهو آدم - وانتهاءً بآخر الأوصياء - وهو الإمام المهدي - کلهم عبيد مخلصون لله عز وجل، وليس بينهم أحد ادعي الربوبية، ولا في أي واحد منهم أي مفهوم من مفاهيم الألوهية، کلما هنالک أنهم کانوا أکثر عبادة وإخلاصاً لله من غيرهم، فخولهم الله صلاحيات أظهروا بما المعجزات.
هذا هو الحق الذي لا مراء فيه، ومن ادعي ذلک فهو مبطل مهما کانت المعجزات التي ظهرت علي أيديهم عظيمة وباهرة. إذ لا أحد أعرف بأولياء الله منهم أنفسهم، وکلهم کرسوا طاقاتهم وضحوا بأنفسهم في سبيل الدعوة لله ونبذ الأنداد. فمن قال غير ما قالوا فهو ممن تنطبق عليه الآية الکريمة: (ومن أعرض عن ذکري...) سورة طه: الآية 124.
[4] الإمام المهدي تعرض لحملة شديدة من قبل أجهزة الخلافة العباسية وکل أعداء الإسلام والتشيع قبل ميلاده وبعده. لأنهم - جميعاً - رغم عدائهم المستحکم للنبي وآله کانوا علي يقين من صدقهم فيما يقولون، والأحاديث الواردة عن الرسول وآله حول شخصية الإمام المهدي ومواصفاته متواترة - لفظاً أو معني - وفيها ترکيز علي أنه (يملأ الأرض عدلاً وقسطاً کما ملئت ظلماً وجوراً) فکل الطواغيت والمنحرفين کانوا - ولا زالوا - يحذرون مفاجئته الکبري، فيعبرون عن فزعهم منه بالتربص به والتشويش عليه.
وقد استغل أعداؤه ظاهرة خفاء حمله وغيبته عن المجتمعات لتشديد النکير علي المؤمنين به. خاصة وأن أکثرهم محرومون من زيارته والخواص الذين يحضون بلقائه لا يقولون إلا لخواصهم. وقد أدي هذا الأسلوب من التعامل مع الجماهير إلي وقوع الأکثرية الساحقة حتي من الشيعة فريسة إعلام الأعداء. ولکن الله لم يأذن له إلا بهذا الأسلوب في انتظار الوقت المناسب.
وقد أرسل بعض الشيعة هدايا نفيسة وعينية إلي الإمام بواسطة بعض المتصلين به، ثم شکوا في أمره ولم يلبثوا أن ندموا علي إظهار شکهم فيه، فقبل الإمام أعذارهم، ولکنه رفض قبول هداياهم بعد ذلک. واعتبر شکهم فيه شکاً في الدين، لأن الوصاية عمق طبيعي للنبوة والنبوة من أصول الدين. وعلي العموم، القيادة السماوية من الدين والشک فيها شک في الدين وقد صح عن النبي الأکرم (صلّي الله عليه وآله) قوله: (من أنکر خروج المهدي فقد أنکرني).