رسالة إلي المفيد
أبو منصور أحمد بن علي بن أبي طالب الطبرسي، الاحتجاج ص322 - 324 ج2 طبع النجف 1386هـ. ذکر کتاب ورد من الناحية المقدسة حرسها الله ورعاها في أيام بقيت من صفر سنة عشر وأربعمائة علي الشيخ المفيد أبي عبد الله محمد بن محمد بن النعمان قدس الله روحه ونور ضريحه، ذکر موصله أنه يحمله من ناحية متصلة بالحجاز، نسخته.
للأخ السديد والولي الرشيد [1] الشيخ المفيد أبي عبد الله محمد بن محمد بن النعمان [2] أدام الله إعزازه، من مستودع العهد المأخوذ علي العباد [3] .
بسم الله الرحمن الرحيم. أمّا بعد سلام الله عليک أيّها الوليّ المخلص في الدين المخصوص فينا باليقين، فإنّا نحمد إليک الله [4] الذي لا إله إلا هو، ونسأله الصلاة علي سيّدنا ومولانا ونبيّنا محمد وآله الظاهرين.
ونعلمک - أدام الله توفيقک لنصرة الحق وأجزل مثوبتک علي نطقک عنا بالصدق- أنّه قد أذن لنا [5] في تشريفک بالمکاتبة وتکليفک ما تؤديّه عنّا إلي موالينا قبلک أعزهم الله بطاعته وکفاهم المهمّ برعايته لهم وحراسته.
فقف - أمدّک الله بعونه علي أعدائه المارقين من دينه - علي ما تذکره [6] واعمل في تأديته إلي من تسکن إليه، بما نرسمه إن شاء الله. نحن وإن کنّا ناوين بمکاننا النائي عن مساکن الظالمين [7] - حسب الذي أراناه الله تعالي من الصلاح، ولشيعتنا المؤمنين في ذلک مادامت دولة الدنيا للفاسقين - فإنّا نحيط علماً بأنبائکم. ولا يعزب عنّا شيء من أخبارکم [8] ومعرفتنا بالذلّ الذي أصابکم [9] مذ جنح کثير منکم إلي ما کان السلف الصالح عنه شاسعاً، ونبذوا العهد المأخوذ (منه) [10] وراء ظهورهم کأنهم لا يعلمون إنّا غير مهملين لمراعاتکم، ولا ناسين لذکرکم [11] ولولا ذلک لنزل بکم اللأواء [12] واصطلمکم [13] الأعداء، فاتقوا الله جلّ جلاله، وظاهرونا علي انتياشکم [14] من فتنة قد أنافت [15] عليکم، يهلک فيها من حمّ أجله، ويحمي عنها من أدرک أمله، وهي إمارة لأزوف [16] حرکتنا و(مبانيتکم) (مباثبتکم) بأمرنا ونهينا، والله متم نوره ولو کره الکافرون [17] .
اعتصموا بالتقيّة؛ من شبّ نار الجاهليّة [18] يحشّشها عصب أمويّة يهول بها فرقة مهديّة [19] .
أنا زعيم بنجاة من لم يرم فيها المواطن الخفيّة [20] ، وسلک في الظعن منها السبل المرضيّة [21] .
إذا حلّ جمادي الأولي من سنتکم هذه، فاعتبروا بما يحدث فيها، واستيقظوا من رقدتکم لما يکون في الذي يليها، ستظهر لکم من السماء آية جليّة، ومن الأرض مثلها بالسويّة، ويحدث في أرض المشرق ما يحزن ويقلق، ويغلب من بعد علي العراق، طوائف عن الإسلام مراق [22] تضيق بسوء فعالهم علي أهله الأرزاق، ثم تنفرج الغمة من بعد ببوار طاغوت من الأشرار، ثم يسرّ بهلاکه المتقون الأخيار ويتفق لمريدي الحج من الآفاق، ما يؤملونه منه علي توفير غلبه (عليه) منهم وإنفاق، ولنا في تيسير حجهم علي الاختيار منهم والوفاق، شأن يظهر علي نظام واتساق [23] فليعمل کل امرئ منکم بما يقرّب به من محبتنا، ويتجنّب ما يدنيه من کراهتنا وسخطنا، فإن أمرنا بغتة فجأة [24] حين لا ينفعه توبة، ولا ينجّيه من عقابنا ندم علي حوبة [25] والله يلهمکم الرشد، ويلطف لکم في التوفيق برحمته.
پاورقي
[1] في إعطاء المفيد هذه الأوصاف (الأخ السديد والولي الرشيد) والأوصاف التالية في الرسالة، والدعاء له بالدوات المتعددة في غضون الرسالة، ثم في تقديم اسمه علي اسم الإمام المهدي، تکريم ما فوقه تکريم. والمعروف أن الإمام المهدي (عجل الله فرجه) هو الذي أطلق عليه لقب المفيد.
[2] الشيخ أبو عبد الله محمد بن محمد بن النعمان بن عبد السلام البغدادي، أول من جسد المرجعية الشيعية، بعد انتهاء الغيبة الصغري وابتداء الثيبة الکبري فانعکست الصيغة المرجعية علي الطبيعة من خلاله، بعد أن بقيت برهة من الزمان فکرة فضفاضة لا تتراهي علي أحد.
ولکن المفيد تصدي للقيادة المرجعية - وبتوجيه مباشر من الإمام المهدي (عجل الله فرجه) - واجتمعت فيه مؤهلات جمعت عليه کلمة الشيعة بلا منازع. فکان أولي من تجتمع عليه کلمة الشيعة بعد الأئمة الأطهار (عليهم السلام).
وهذه الظاهرة تعبر عن مدي عظمة الرجل إذ الرجل إذا أخذنا بنظر الاعتبار ما يلي:
1- إن المطامح الشيعية - تعلقت من خلال قيادات النبي والأئمة الطاهرين (عليهم السلام) - تعلقت بنوع فريد من القيادات السماوية، عز نظيرها في الکون کله، لا في التاريخ المنظر وغير المنظر فحسب، ولذلک کانوا أشد الناس علي القيادات الأرضية. وفي الغيبة الصغري بقي النواب الأربعة - بتوجيهات الإمام المهدي (عجل الله فرجه) - يهدهدون تلک المطامح، فيبادرون بعض مراجعيهم بالجواب قبل أن يبدأ بالسؤال، أو يخبرونه بحين موته أو موعد شفائه من مرضه. بالإضافة إلي أنهم کانوا يعتبرون أنفسهم مجرد وسطاء بين الإمام المهدي وشعته، وربما يرافقون بعض الأشخاص لمقابلة الإمام فکانوا يتجاوبون مع المطامح الشيعية بشکل أو بآخر.
وبوفاة علي بن محمد السمري، وجد الشيعة أن قيادتهم انحصرت في فقهائهم، وفقهائهم لا يتميزون عنهم إلا بقسط من المعلومات، فأصيبوا بفراغ قيادي ضاغط. فإجماعهم علي الشيخ المفيد دليل علي أنهم وجدوا فيه أکثر من مجرد فقيه.
2- بمجرد إعلان الإمام المهدي (عليه السلام) الغيبة الکبري والقيادة اللامرکزية انقطاع الأبواب إليه من خلال التوقيع الذي صدر إلي إسحاق بن يعقوب علي يد محمد بن عثمان العمري عادت أفکار الفقهاء إلي ما لديها من تراث روائي في الفقه والتفسير والعقائد وغيرها وبدأوا عملية الاعتماد علي النفس في استنباط الأحکام الشرعية من أدلتها. فتفرق العلم بين أهله وکان يري رأيه حجة فيما بينه وبين الله، فاجتماعهم علي الشيخ المفيد دليل علي أنهم وجدوا فيه أکثر من مجرد فقيه.
وقد بدأ الشيخ المفيد يتجاوب مع المطامح القيادية الشيعية بعض الشيء، ويملأ شيئاً من الفراغ القيادي الذي أصيبت به الشيعة علي أثر بدء الغيبة الکبري من خلال ما يلي:
1- مواهبه الشخصية، فقد کان لغوياً جامعاً، وفقيهاً بارعاً، ومتکلماً لم ينهزم في خصام. ونکتفي في هذا المجال بتسجيل بعض ما کتب عنه أو قيل:
کتب الشيخ الطوسي في رجاله ص514: (محمد بن محمد بن النعمان جليل ثقة).
وکتب الشيخ الطوسي في (الفهرست) ص186: (محمد بن محمد بن النعمان المفيد يکني (أبا عبد الله) المعروف بابن المعلم من جملة متکلمي الإمامية، انتهت إليه رئاسة الإمامية في وقته، وکان مقدماً في العلم، وصناعة الکلام، وکان فقيهاً متقدماً فيه حسن الخاطر، دقيق الفطنة حاضر الجواب). وکتب النجاشي في رجاله ص311: (شيخنا وأستاذنا رضي الله عنه، فضله أشهر من أن يوصف في الفقه، والکلام، والرواية).
وکتب العلامة الحلي في (خلاصة الرجال) القسم الأول ص147: (محمد بن محمد بن النعمان... من أچل مشايخ الشيعة ورئيسهم وأستاذهم، وکل من تأخر عنه استفاد منه).
وکتب الشيخ عباس القمي في کتاب (الکني والألقاب) ج3 ص164: (أبو عبد الله محمد بن النعمان... کثير المحاسن، جم المناقب، حديد الخاطر، حاضر الجواب، بلغ الرواية، خبير بالأخبار والرجال والأشعار. وکان أوثق أهل زمانه بالحديث، وأعرفهم بالفقه والکلام).
وکتب بعض علماء العامة عنه: (شيخ مشايخ الإمامية، ورئيس الکلام والفقه والجدل. وکان يناظر أهل کل عقيدة، وکان کثير الصدقات عظيم الخشوع، کثير الصلاة والصوم خشن اللباس، وکان شيخاً ربعة نحيفاً أسمر... وکان کثير التقشف والانکباب علي العلم، وکان يقال: له علي کل إمامي منّة...).
قال عنه الشريف أبو يعلي الجعفري - وکان قد تزوج بنت المفيد -: (ما کان ينام الليل إلا هجعة، ثم يقوم، يصلي أو يطالع أو يدرس أو يتلو).
وکتب عنه ابن النديم: (في عهدنا انتهت رياسة متکلمي الشيعة إليه، مقدم في صناعة الکلام علي مذهب أصحابه، دقيق الفطنة ماضي الخاطر، شاهدته فرأيته بارعاً).
2- مؤلفاته: فلعل الشيخ المفيد أول من ألف بالأسلوب الموسوعي في معارف الشيعة ومجموعة مؤلفاته تعتبر موسوعة شيعية تناول فيها أکثر المواضيع التي يحتاج إليها الفقهاء والرواة والمفسرون. وقد أکثر من التأليف وأحسن.
فقد أثبت النجاشي في ترجمته قائمة بأسماء کتبه، فبلغت (174) کتاباُ. وقال الشيخ الطوسي والعلامة الحلي وغيرهما: له قريب مائتي مصنف کبار وصغار.
3- تلامذته، فقد عهد بنفسه تربية طلابه، وکانت له حوزة واسعة تضم خيرة مثقفي الشيعة في عهده حتي نصب له منبر عديد الدرجات للدرس، ولم يکن يکتفي بتثقيفهم فحسب، وإنما يعتني بتربيتهم علي التقوي والصلاح، ويکفي أنه ظهر في تلامذته الشريفان: الرضي، والمرتضي، والشيخ الطوسي...
4- جهاده، فحيث أنه جسد الشيعة علماً، ومثلهم قيادة، ترکزت ضده التحديات الطائفية، وقد هاجم المتطرفون السنة أکثر من مرة مسجده، وفتکوا بالشيعة وهم يؤدون فريضة الصلاة، وذات مرة هاجموا منزله وأحرقوا مکتبته التي کانت تضم مخطوطات نفيسة جداً، ولکنه صمد في کل تلک الأزمات واستطاع أن يتغلب - بحکمته - علي الموقف دون أن يثير حرباً طائفية.
5- علاقته بالإمام المهدي، فقد کان يتردد علي من عاصرهم من النواب الأربعة، وبقي بعدهم علي علاقته بالإمام المهدي بالمراسلة - وربما بالمشاهدة - ويذکر العلامة الحلي - في الرجال الکبير - قصة خلاصتها أن الإمام المهدي هو الذي أطلق عليه لقب: (المفيد)، والمعروف أنه هو الذي أمره بالفتوي، وعندما أخطأ في فتوي صحح الإمام فتواه، وعندما اعتزل الفتوي قال له الإمام: (أيها الشيخ المفيد منک الفتوي ومنا التسديد) ويقال: أنه عندما توفي وقف الإمام المهدي (عليه السلام) علي قبره وأبنه بهذه الأبيات:
لا صوت الناعي بفقدک إنه
يوم علي آل الرسول عظيم
إن کنـت قد غيبت في جدث الثري
فالعلم والتوحـيد فيک مقيم
والحجة المهـدي يفرح کلما تليت
عليک من الدروس علوم
وهکذا کان الشيخ المفيد نموذجاً رائعاً للمرجع الديني في ذلک الوقت المبکر، واستطاع أن يوحد کلمة الشيعة بعد أن تمکنت منهم عوامل التمزق والانهيار.
ولعل الأسباب التي وجهت اهتمام الإمام المهدي (عليه السلام) إلي الشيخ المفيد تتلخص في أمرين:
1- قابلياته النفسية، وإخلاصه الکبير وعلمه الغزير، وجهاده المتواصل وسائر المواهب التي توفرت فيه بزخم. فالمؤهلات التي جعلته أفضل أهل زمانه کان من الطبيعي أن يعطف عليه اهتمام الإمام، حتي ولو تکن قضيته المرجعية مطروحة.
2- محاولة الإمام المهدي - من خلاله - توظيف القيادة اللامرکزية في إبراز ظاهرة المرجع الأعلي، الذي لا يمنع تنمية القابليات المرجعية ضمن نظام هرمي يحافظ علي القمة، في الوقت الذي يشجع حرکة التصعيد في المتوهجة من القواعد، حتي لا ينتهي أمر المرجعية إلي إظهار عدد من الفقهاء، تتمزق بينهم الطائفة إلي کتل متنافسة أو متعايشة لا تتمکن منها إرادة شمولية واحدة تستطيع التوجيه العام في أحيان السلم، والتعبئة العامة في مواجهة التحديات.
وعندئذ يکون الفارق بين القيادتين: أن القيادة اللامرکزية تعني استناد القيادة إلي مواصفات معينة، في أي شخص توفرت، وفي أي مکان وجد. فيما القيادة المرکزية لا تکتفي بمجرد المواصفات، وإنما تنتظر تعيين الأسماء بدلالة واضحة لا لبس فيها ولا غموض.
ولد (رحمه الله) ببغداد سنة 338هـ، وتوفي لليلتين خلتا من شهر رمضان سنة 413 عن عمر يناهز السادسة والسبعين، واشترک في تشييع جثمانه ثمانون ألف نسمة، وأدي الصلاة علي جثمانه الشريف المرتضي بميدان (الاشنان) ببغداد حيث ازدحم بالمصلين علي سعته ووري جثمانه الثري في جوار الإمامين الکاظمين (عليهما السلام)، بمدينة الکاظمية، حيث مزاره الآن. ورثاه الإمام المهدي بأبيات من الشعر - مر نقلها - وقد کتبها علي ضريحه، ورثاء الشريف المرتضي ومهيار الديلمي بقصيدتين من روائع الشعر فرحمه الله وطيب ثراه.
[3] في مجموعة من آيات القرآن إشارة إلي (العهد) و(الميثاق) والإهابة بالالتزام بهما، والتأنيب علي نقض ذلک العهد، کقوله تعالي: (الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق) سورة الرعد، آية 20. (ولا تشتروا بعهد الله ثمناً قليلاً) سورة النمل، آية 95. (ألم عهد إليکم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان) سورة يس، آية 60. (ومن أوفي بما عاهد عليه الله، فسيؤتيه أجراً عظيماً) سورة الفتح، آية 10. (والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه) سورة الرعد، آية 25.
ولقد أخذ الله العهد والميثاق من الناس في عالم سابق علي هذا العالم، لعله عالم الذر الذي تحدث عنه القرآن بقوله: (وإذ أخذ ربک من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم علي أنفسهم ألست بربکم قالوا بل شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا کنا عن هذا غافلين) سورة الأعراف، آية 172.
وصيغة العهد کانت تحتوي علي بنود عديدة يمکن تبين بعضها من خلال بعض الروايات وآيات العهد والميثاق، أولها: الإيمان بالله ونبذ کل ما يعبد من دون الله. وثانيها: الإقرار بنبوة الأنبياء ووصاية أوصيائهم. وسائر أصول الدين وبعض فروعه حتي الجهاد في سبيل الله، وعدم الفرار من الزحف، کما يظهر من قوله عز وجل: (من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضي نحبه ومنهم من ينتظر) سورة الأحزاب، آية 23. (ولقد کانوا عاهدوا الله من قبل لا يولون الأدبار وکان عهد الله مسؤولاً) سورة الأحزاب، آية 15. بناءً علي أن (عهد الله) - کلما ورد في القرآن - هو العهد الذي سبق خلق الأجساد.
وهذا العهد وإن لم يدخل في ذاکرة الجسد، إلا أنه مخزون في ذاکرة الروح، التي قد يصح التعبير عنها بالعقل الباطن، ونتيجة لتفاعل الروح والجسد ينعکس هذا العهد عليهما وقد يعبر عن نفسه فيما يسمي بالضمير.
والذين يجسدون علي الأرض هذا العهد - نيابة عن الله - هم الأنبياء والأوصياء کل منهم في دوره وهذا الدور الذي نعيشه دور الإمام المهدي فهو الذي يجسد ذلک العهد.
فقوله: (مستودع العهد المأخوذ علي العباد) يعني نفسه.
[4] أحمد إليک الله: أحمد معک الله. هکذا ورد في اللغة. والمعني: أحمد الله موجهاً حمدي إليک. لأن الإنسان قد يحمد الله بينه وبين الله، وربما يحمد الله بينه وبين الناس تعليماً أو شعاراً کما قد يلبي سراً وربما يجهر بها.
[5] يظهر من هذا النص ما يلي:
أ: إن قرارات الإمام المهدي - باعتباره وصياً معصوماً - ليست قراراته الشخصية وإنما هي قرارات السماء، فهو لم يراسل الشيخ المفيد إلا بإذن من مصدر القرار، وليس معني إذنه نزول الوحي إليه بمراسلة المفيد، لأن (إذن الله) هو الاستمرار في السماح باستخدام الصلاحيات المخولة، بعدم وضع حد لها، بينما (أمر الله) هو التأسيس، عن طريق التکوين في المجال الکوني، وعن طريق الطلب في المجال الشرعي.
وبهذا توحي موارد استخدام کلمة (الإذن) في القرآن:
(فهزموهم بإذن الله) سورة البقرة، آية 251.
(وما کان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله لکل أجل کتاب) سورة الرعد، آية 38.
(کم من فئة قليلة غلبت فئة کثيرة بإذن الله) سورة البقرة، آية 249.
فإذن الله للإمام المهدي أن يطلق له حرية استخدام الصلاحيات التي خولها إياه، ضمن المقاييس المقررة له.
ب: إن هذه الرسالة فاتحة رسائل عديدة تلقاها المفيد من قبل الإمام المهدي (عليه السلام) وإن لم يصل إلينا منها إلا هذه الرسالة وتاليتها. فقوله: (أذن لنا في تشريفک بالمکاتبة، وتکليفک ما تؤديه عنا إلي موالينا... واعمل في تأديته إلي من تسکن إليه بما نرسمه) يدل علي أن الإمام المهدي (عليه السلام) اختار المفيد للقيام بدور معين مدي تبقي من حياة الثاني.
ج: إن غيبة الإمام المهدي تدرجت في ثلاث مراحل:
الأولي: مرحلة القيادة بالوسائل حيث غيّر الإمام المهدي القيادة المباشرة إلي القيادة بالوسائط فقلص إطلالاته علي جماهير الشيعة واکتفي باستقبال من يختار من علماء الشيعة ومحدثيهم، ولکن بلا موعد مسبق، وبدون مکان محدد من قبل، وذلک خلال السنوات الأخيرة من حياة والده العسکري وبعد وفاته بقليل.
الثانية: مرحلة السفراء الأربعة، حيث کان يتصل بالشيعة عبرهم، فيکتب الجواب علي رسائلهم بخطه وتوقيعه. وقد يستقبل بعض الشيعة بواسطتهم وذلک خلال ثلاثة أرباع قرن تقريباً.
الثالثة: مرحلة المراسلة، حيث حصر اتصالاته في مراسلة شخص معين هو الشيخ المفيد وهي مرحلة وسطي بين النيابة الخاصة التي تولاها النواب الأربعة، ومرحلة النيابة العامة التي يتولاها الفقهاء المراجع.
وبعدها أصبحت الغيبة الکبري، حيث لا اتصال بعامة الشيعة وإنما يتصل ببعض خواص الشيعة عبر لقاءات سريعة ومتباعدة وخاصة للغاية، مکتفياً بالقيادة المرجعية.
[6] لعله يعني بـ(ما تذکره) الروايات المتوفرة لديه.
[7] منزل الإمام المهدي وعائلته في (جزيرة خضراء) ولکنها ليست معروفة بين الجزء المنتشرة علي صخار البحار، کل ما هنالک أنها ليست خاضعة لسلطة سياسية، لأن الإمام المهدي هو الوحيد الذي يظهر وليست في عنقه بيعة لأحد ولا يعني ذلک أنه لا ينتقل في المدن ولا يلتقي الناس کل ما هنالک أنه لا يعلن عن نفسه. فعندما يظهر يقول بعض الناس: أهذا هو الإمام المهدي؟ لقد کنا نراه ولا نعرفه.
[8] إحاطة الإمام المهدي بأبناء شيعته يمکن أن تکون بإحدي الطرق التالية:
أ: الرؤية الثاقبة الشاملة التي وهبها لرسله وأوصيائهم المعصومين، وتحدث عنها في مقام استعراض المرحلة الأولي من مراحل انفتاح إبراهيم الرسالي قائلاً: (... وکذلک نري إبراهيم ملکوت السماوات والأرض وليکون من الموقنين) سورة الأنعام، آية 75. أو کما في الحديث الشريف الذي مضمونه: (إن الأرض لدي الإمام کالدرهم في کف أحدکم، يقلبها کيف يشاء).
ب: الوسائط الملکوتية التي يتعامل معها الإمام المعصوم بمقتضي مقام الولاية ففي الحديث الشريف - ما معناه -: إن الملائکة تعرض أعمال الخلائق علي ولي الله کل أسبوع مرتين.
ج: الأجهزة البشرية المؤلفة من کبار الصالحين - الذين يعبر عنهم بأوتاد الأرض - وهم علي اتصال شبه مستمر بالإمام المهدي، ويتعامل معهم تعامل الأنبياء والأوصياء مع حواريهم.
وعلي أي حال، الإمام المهدي لا يعدم الوسيلة للاطلاع علي أوضاع شيعته، إن لم تکن الوسيلة السماوية فالوسيلة الأرضية، فهو في أدني الاحتمالات - لا يقل عن أي قائد عادي يتابع أوضاع أتباعه.
[9] أي نعرف الذل الذي أصابکم، ولعل کلمة (معرفتنا) مبتدأ لخبر محذوف هو (ثابتة) أو ما بمعناه.
[10] أي من السلف، باعتبار أن السلف هو الذي عاهد النبي (صلّي الله عليه وآله) وبايعه، والخلف أقر ما عليه السلف باستمراره في الإسلام کما قبله السلف ما لم يصدر منه اعتراض.
[11] فالإمام المهدي يرعي شيعته ويدافع عنهم بمختلف الأساليب المتاحه له، وبشتي قدراته المادية والمعنوية، کما يجند أي إمام طاقاته لحماية جماعته. ولا شک أن لحماية الإمام المهدي أثراً بالغاً في صرف الأخطار عن شيعته.
[12] اللأواء: الشدة وضيق المعيشة.
[13] اصطلمکم: استأصلکم.
[14] انتياشکم: انتشالکم.
[15] أناف علي الشيء: طال وارتفع عليه.
[16] الأزوف: الاقتراب.
[17] سورة الصف: آية 8.
[18] أي اتقوا من إشعال نار الجاهلية، فإنکم إن أشعلتموها تستغلها عصابات أموية، إن لم تکن أموية النسب فأموية المسلک، وترعب بالنار ذاتها فرقة مهدية هي أنتم، فتکونوا أنتم الذين أشعلتم النار علي غيرکم ثم لا تخمد إلا وتکونوا أنتم الذين احترقتم بها.
وقال: (اعتصموا بالتقية) بدلاً من الاعتصام بالمسبقات الموروثة التي تتجمع في المذهب والمراد من التقية - هنا - ليس کتمان العقيدة التي يحاربها المجتمع وإنما الهروب من الفتنة التي يشجعها المجتمع. وعبر بـ(نار الجاهلية) عن الحرب الطائفية تشديداً في استنکارها.
[19] حش - وحشاً الحرب: هيجها. و- النار: أوقدها وحرکها بالمحش. والمحش: حديدة تحرک بها النار.
والعصب: جمع عصبة، وهي الجماعة من الرجال والخيل والطير.
[20] المواطن الخفية هي العورات أي النقاط الحساسة، لأن الإنسان الذي نازل قوماً قد يرميهم في مظاهرهم فلا يوجعهم فلا يبالون به، أو لا يکلفون أنفسهم عناء الرد عليه، وربما يناضلهم فيستهدف مقاتلتهم فلا يملکون الإعراض عليه، فيکون موقفه هو موقف من يدعوهم إلي الإجهاض عليه.
[21] الظعن منها هو الارتحال عنها.
وقد يکون في طبائع الناس شيء يوزعهم إلي تجار حروب ومصلحين، فهنالک من إذا رأي الحرائق تشتعل يروق له أن يلعب علي تناقضاتها، فلا بد أن تمتد ألسنة اللهيب إليه لتخطفه وتزج به الحومة، وإلي جانبه من إذا رأي أزمة تحيط به لا يسمح للأمر الواقع أن يأخذه إلي ما لم يخطط له، وإنما يحاول فرض موقفه علي الأزمة - بسحب مبرراتها حتي تنطفئ - أو حسن التخلص منها أن عجز عن الإصلاح.
وقد يلاحظ الفرق بين کلام الإمام المهدي - هذا - وموقفه المبدئي الثابت، فهو هنا يوجه إلي حسن التخلص من الأزمات، بينما هو يهيئ لثورة عالمية شاملة تغطي جميع مظاهر الحياة.
ولکنها ملاحظة ساذجة نتجاوز العوامل المبدئية التي تفرز المواقف والتوجيهات، فقد تکون قضية مقدسة مطروحة علي الساحة، تفرض علي القيمين عليها الکفاح دونه بلا هوادة، وربما تکون الأنانيات الانفصالية هي التي تنزف مجتمعاً لا خط له ولا هدف فعلي کل قادر أن يعجل لإيقاف النزيف أو النجاة بنفسه من النزف المهدور..
[22] المارق: النافذ من کل شيء. - ومنه المارق الخارجي لمروقه من الدين الجمع: مارقون ومراق.
[23] في هذه الرسالة وفي الرسالة التالية تنبؤات لم نحاول استباق القراء إليها، وفضلنا ترکها مفتوحة ليفسر کل حسب معلوماته ومستواه.
[24] ظهور الإمام المهدي (عليه السلام) يفاجئ العالم غير المؤمن به والمؤمن به علي حد سواء، فالعلائم المروية نظمت بشکل تحتمل تطبيقات مختلفة، ولعل الأئمة الطاهرين (عليهم السلام) تعمدوا صياغها بهذا الشکل - بأمر الله تعالي - لإبقاء کل الأجيال التي عاصرت فترة الغيبة في حالة تهيؤ وترقب، ففي أي يوم يظهر فيه يکون ظهوره مسبوقاً بعلامات ومفاجئة في الوقت ذاته.
وکما يکون ظهوره مفاجئة، تکون تلبيته لنداءات المتوسلين به مفاجئة، فمن الثابت أنه يجيب بعض المتوسلين به ولا يجيب البعض الآخر، فکل متوسل به لا يعلم هل هو ممن يجيبهم أو ممن لا يحبهم، فإذا أجابه کان مسبوقاً بوعد ومفاجئة في الوقت ذاته.
وهذه ظاهرة طبيعية في حالة الغيبة، حيث لا يستطيع أکثر الناس مقابلته ومشافهته، ليعرفوا ما إذا کان علي استعداد لإجابتهم أو لا؟
[25] لعل هذا النص يفسر بيوم الظهور (بعض آيات ربک) في قوله سبحانه: (هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائکة أو يأتي ربک أو يأتي بعض آيات ربک يوم يأتي بعض آيات ربک لا ينفع نفساً إيمانها لم تکن آمنت من قبل أو کسبت في إيمانها خيراً قل انتظروا إنا منتظرون) سورة الأنعام، آية 158.
وکأن القرآن يقول: لماذا لا يعود الکفار والفساق إلي الإيمان والصلاح، مع تکاثر البراهين والدلائل؟ هل ينتظرون أحد الأيام الثلاثة الحاسمة؟ إذا کانوا ينظرون ذلک فعليهم أن يعرفوا أنه إذا جاء أحد تلک الأيام فلا تنفع أوبة الکفار ولا توبة الفساق. فليبادروا إلي الإيمان والصلاح قبلها. وهذه الأيام الثلاثة هي:
1- يوم الموت، حيث يکشف الغطاء عن المحتضر فيري الملائکة. وقد رمز إليه القرآن بقوله: (... أن تأتيهم الملائکة).
2- يوم القيامة، حيث تظهر کل الحقائق والأسرار التي بشر أو أنذر بها الرسل والرسالات وتفعم الأجواء بأکبر قدر من الآيات الواضحة، حتي کأن الله - بکل ما يرمز إليه - قد أتي. وقد أشار إليه القرآن بقوله: (... أو يأتي ربک).
3- يوم ظهور الإمام المهدي الذي هو التحول الکبير، وقد عبر عنه القرآن بقوله: (... أو يأتي بعض آيات ربک).
فلا يمکن التشکيک في أن الظهور - باعتباره مبدأ الرجعة - أهم المنعطفات في حياة البشر، لأنه تحول من مرحلة التعامل بمقتضي الظاهر إلي مرحلة التعامل بمقتضي الواقع، وانتقال من فترة الانفلات إلي فترة الانضباط، وقفزة من دورة السکون النسبي إلي دورة الانطلاق، أي من دورة التکامل إلي دورة الکمال.
مضافاً إلي أنه حد فاصل بين التجربة الحرة والتجربة المرة.
فالظهور - بطبيعته - آية من آيات الله، علي أنه يرافق ويستتبع آيات عظيمة، منها طوارئ جوية وتغييرات جيولوجية في الأرض لم يعرفها البشر من قبل، وخروج الأموات من قبورهم، وانکشاف سرائر الناس... إلي آخر ما تدل علية أحاديث الرجعة.