بازگشت

منزلة الإمام المهدي في القرآن


کان الإمام الشهيد الشيرازي المؤلف (قدس سره) أراد في هذا الفصل أن يسجل العشرات من آيات القرآن المفسرة، والمُأوّلة (بالإمام المهدي) عليه الصلاة والسلام، ويعطي کل واحدة منها شيئاً موجزاً من التحليل والتوضيح.. لکنه - کما يبدو - لم يکن بعد قد سجل سوي مورد واحد من القرآن الحکيم حتي أسرعت إليه الأيدي الظالمة تصرع شهيداً في سبيل الإسلام.. رضوان الله عليه.

(ونريد أن نمنّ علي الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ونمکن لهم في الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما کانوا يحذرون). سورة القصص، آية 5 - 6.

هذه الآية من الآيات التي أولت برجعة الأئمة الاثني عشر (عليهم السلام)، التي تبدأ بظهور الإمام المنتظر وإن کانت في سياق الآيات الواردة في بني إسرائيل.

ودليل هذا التأويل:

1- أن هذه الآية لم ترد في القرآن بصيغة نقل إرادة سابقة، فلم ترد (وقلنا لبني إسرائيل: نريد أن نمنّ...) وإنما أوردت (الإرادة الفعلية) في القرآن، الذي نزل بعد غياب بني إسرائيل عن المسرح الديني، بنسخ شريعتهم مرتين، فقد نسخت شريعتهم، مرة بشريعة المسيح (عليه السلام) ونسخت مرة أخري بالإسلام.

فهذه (الإرادة) الإلهية التي ترويها (ونريد) إرادة قائمة لم تکن قد نفذت حين نزول القرآن.

2- أن بني إسرائيل، لم يتمکنوا في الأرض عبر أئمة مطلقاً، وإذا صحّ أن سليمان بن داود حکم الأرض کلها، وافترضناه (إماماً) فذلک إمام واحد، وهذه الإرادة لمجموعة أئمة. لهم حکومة عالمية هم جماعة من الحکام، وليس حاکماً واحداً عبّر الله عنه وعن أعوانه بصيغة الجمع بدليل کلمة (الأئمة) ومن الثابت أن رتبة (الإمامة) وهي الولاية المطلقة، لا تکون إلا لرجل واحد في عهده، فلا تکون لعدّة رجال في وقت واحد، وإنما يتوارثون هذه الرتبة بالتعاقب.

3- ووصف أولئک (الأئمة) بـ(الذين استضعفوا في الأرض) يدل علي أنهم قادمون إلي الأرض مرتين، قدموا إليها مرة فاستضعفوا، ويقدمون إليها مرة أخري فيمکنهم الله في الأرض. إذ لا يمکن أن تکون مجموعة من الناس مستضعفين في الأرض، ثم يمکنهم الله فيها فيحکموها ويکونوا أئمة بالتعاقب مع العلم بأن الإمام لا يستضعف إماماً آخر - لاشتراط العصمة فيهما - حتي نقول بأن کل واحد منهم کان مستضعفاً في حين وحاکماً في حين آخر.

4- أن کل الأفعال التي استخدمت في هذه الآية مستقبلية (نريد... نمنّ.. نجعلهم.. ونجعلهم.. نمکّن.. نري) فهذه الأفعال الستة المستقبلية لا تزال قيد التنفيذ. فتنحصر محتوي هذه الآية لمجموعة (أئمة) يحکمون الأرض، وإذا عرفنا أن النبي (صلّي الله عليه وآله) حصر الأئمة من بعده في اثني عشر إماماً عددهم عدد نقباء بني إسرائيل کما في أحاديث متواترة، من جملتها قوله (صلّي الله عليه وآله): (الأئمة بعدي اثني عشر کلهم من قريش).

وإذا عرفنا أن أيّاً من الأئمة الاثني عشر لم يتمکن في الأرض سابقاً، نعرف أن تلک (الإرادة) لم تتحقق بعد، وإنما ستحقق لهم أنفسهم في وقت لاحق.

6- أن استخدام کلمة (الوارثين) يشير إلي أن أولئک الذين بشّرهم الله تعالي - في هذه الآية - بحکومة عالمية يأتون في آخر الزمان، فيرثون الأرض من جميع الذين حکموها قبلهم، ولو کانوا حلقة في سلسلة حکام الأرض لما عبّر القرآن عنهم بـ(الوارثين). کما لم يعبّر عن سليمان وصحبه، ولا عن يوسف وأعوانه بالوارثين. فلا ينطبق هذا التعبير إلا علي جماعة يکون لهم المطاف الأخير في حکومة الأرض.

7- أن التمکين في الأرض لم يتحقق لأي إنسان منذ نزول هذه الآية فکيف بتحققه لمجموعة أشخاص. وإذا ظهر في المسلمين حاکم واحد أو مجموعة حکام - وافترضناهم أئمة - فإن أيّاً منهم لم يتمکن في الأرض کلها، وإنما تمکن في بعض الأرض، وهذه الآية تدل علي أن إرادة الله سبقت لتمکين مجموعة من الأئمة في الأرض کلها.

يضاف إلي ذلک أن من نعرفهم من حکام المسلمين لم يکونوا - جميعاً - مستضعفين في حين وحکاماً في حين آخر، وإذا کان رأس کل سلسلة من الخلفاء مستضعفاً في حين، فإن بقية خلفاء أسرته ولدوا في بيوت الخلافة، فلم يستضعفوا في أي حين.

إذن، فهذه الآية بمجموع بنودها لا يمکن أن تنطبق بدقة إلا علي (الأئمة الاثني عشر) إذا عادوا إلي الحياة في آخر الزمان وحکموا الأرض في المطاف الأخير من عمر البشر.

وهنا قد ينبض سؤال يقول: إن قول الله تعالي في بقية الآية: (ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما کانوا يحذرون) وفرعون وهامان کانا معاصرين لموسي بن عمران فکيف يمکن صرف دلالة الآية عن موسي وبني إسرائيل.

وتتوارد الأجوبة:

1- إن فرعون تطاول علي مقام الربوبية بشکل لم يتطاول عليه أحد، فلم يکتف بالکفر بالله وجحوده، ولم يکتف بادّعاء أنه أحد الآلهة - کما فعل نمرود - وإنما ادّعي أنه الربّ الأعلي وعمل برجاً ليطلع إلي إله موسي فيقتله إذا کان موجوداً - بزعمه - فلما عجز عن أن يرفع البرج إلي السماء حلّق في الجو علي سفينة فضائية يرفعها العقبان وأطلق سهماً في اتجاه السماء مدّعياً أنه قتل إله السماء... إلي آخر ما هو موجود في کتب السنّة... ثم طالت فترة حکومته أکثر من المتوقع ولم يعجّل الله عليه، حتي نشر جنوده في کثير من البلاد يعيثون فيها الفساد، بقي اسمه رمزاً أکبر للطواغيت، وحيث کان هامان وزيره وعقله المفکر بقي اسمه مقروناً باسمه، ولم تذهب من ذاکرة الناس أشباح جنودهما الذين طغوا في البلاد فأکثروا فيها الفساد. فإذا ذکر فرعون وهامان وجنودهما، ذکروا کرموز للطغيان، لا کأشخاص، والظاهر أنهم ذکروا في هذه الآية کرموز فقط.

2- لا يصح أن يکون المقصود (الذين استضعفوا في الأرض) موسي بن عمران وقومه، لأن رأسهم وهو موسي بن عمران لم يتمکن في الأرض، حتي بعد غرق فرعون، بل مات في التيه، خاصة وفي بقية الآية، (ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما کانوا يحذرون) وکأن الآية توحي بأن فرعون وهامان وجنودهما يکونون موجودين حين يتمکّن الذين استضعفوا في الأرض، ثم يرون منهم ما کانوا يحذرون - علي نحو الترتيب -.

وقد يستأذن سؤال آخر يقول: إن المستضعفين في الأرض عنوان ذمّه القرآن في بعض آياته - فمثلاً - قال: (الذين تتوفاهم الملائکة ظالمي أنفسهم...) سورة النحل: آية 28. فکيف أصبح المستضعفون في هذه الآية عنواناً بلغت الإرادة الإلهية لمنحهم رتبة الإمامة وجعلهم حکاماً عالميين؟

ويندفع جواب يقول: يمکن تصنيف المستضعفين الذين أطرهم القرآن ثلاثة أقسام:

1- المستضعفون الضعفاء، کالعجزة والقاصرين الذين لا يجدون في أنفسهم مادة الکفاح ضد المعتدين، ولا يطيقون تأمين أنفسهم ضد الحاجة فوجدهم الطغاة مادة يمکن امتصاص بقية الحياة منها ولو للديکور في الأروقة وعلي الأبواب، وهؤلاء - يمثلون قدسية الحياة ولو في أضعف مظاهرها - أمر الله بالدفاع عنهم إلي جانب الدفاع عن المقدسات، فقال: (... وما لکم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلاً) سورة نساء: الآية 98.

2- المستضعفون الأقوياء الذين يملکون طاقات کفاحية عالية، ومواهب قادرة علي تصنيفهم عباقرة وعظماء، ولکنهم أهملوا أنفسهم وقنعوا بالتوافه والحقائر، فاستساغهم الأقوياء قاعدة يشيدون عليها مجد الطغيان ولأنهم (کذلک) رضوا بأن يدفعوا ضريبة الذل علي أن يخوضوا الحياة بشجاعة المعترفين بواقع الحياة. ويستعرض القرآن مثلاً من هذا الصنف، من وجد نفسه في بلده تحت سلطة عاتية، فرضي بها علي أن يهاجر منه إلي بلد تتجاوب فيه نسائم الحرية والعدالة، ثم يصنفهم القرآن ظالمين ولکن لأنفسهم، ويعتبرهم مجرمين بين يدي ملائکة العذاب التي تتولاهم منذ لحظة الوفات، فيقول: (إن الذين توفاهم الملائکة ظالمي أنفسهم قالوا فيم کنتم قالوا کنّا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تکن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها)؟ سورة النساء: الآية 97.

3- المستضعفون الأفوياء الذين يملکون طاقات کفاحية مخيفة، ومواهب جبّارة، واستنفدوا کل طاقاتهم ومواهبهم، ولکن التيارات القاهرة تناصرت عليهم، فأصبحوا مقهورين، مثل کل الأنبياء، مثل کل العظماء، والقرآن يقف من هؤلاء موقفاً إيجابياً يظهر في ترصيد جميع العواطف والأفکار الخيّرة حولهم، وفي تبشيرهم بالفوز في المطاف الأخير، لأن القوي الذي لا يوفر شيئاً من إمکاناته لابد أن يفوز فور ما تهدأ العاصفة ويتضح الأفق، فيقول: (ونريد أن نمنّ علي الذين استضعفوا في الأرض...) سورة القصص: الآية 5.