المعجزة و أبعادها
يلاحظ أن الناس کانوا يطالبون الرسل وسائر الأولياء بالمعجزات وربما طالبوهم بمعجزة معينة، فکانوا يستجيبون لهم ويطلقون المعجزات خاصة إذا عرفوا إخلاص الطلب وبراءة الطالب.
1- فلماذا المعجزة؟
2- وما هي المعجزة؟
والجواب عن السؤال الأول: أن الأنبياء يدّعون أنهم علي اتصال بالله عز وجلّ، ويکلمهم الله بشکل من الأشکال التي بينها بقوله:
(ما کان للبشر أن يکلمه الله إلا وحياً أو من وراء حجاب أو يرسل رسولاً) [1] .
وربما يدّعون أکثر من ذلک کالمعراج:
(ثم دنا فتدلي فکان قاب قوسين أو أدني) [2] .
وکالعلوم الغريبة:
(يا أيها الناس علمنا منطق الطير وأوتينا من کل شيء) [3] .
والأوصياء باعتبار أنهم امتداد للأنبياء بشکل أو بآخر، ويدعون الناس إلي اتباعهم علي هذا الأساس..
والناس جميعاً يعلمون - بالفطرة - أن الله هو مصدر الکون والحياة..
... عبر هذه کلها کان من الطبيعي أن يطالبهم الناس بإثبات علاقتهم بالله!.
ولا يمکن إثبات علاقة بشر بالله إلا عن طريق المعجزات التي تثبت أن لصاحبها علاقة فوقية.
هذا هو الجواب عن السؤال الأول: لماذا المعجزة؟
وأما الجواب عن السؤال الثاني: ما هي المعجزة؟
إن المعجزة ليست تفجيراً في نظام الکون، ولا استعلاءً علي نظام الکون، ولا مفهوماً فوقياً يحجر علي العقول.
وإنما هي نوع بسيط من التعامل مع القوي الفوقية، وهي بالنسبة إلي البشر العادي: خرق للمألوف بغير المألوف.
ومن نافلة القول: أن الحياة المعجزية ليست صرعة خرافية تفوح بالشهرة وأرضها من ترابة النجوم، وسمائها تسطع بأقمار المجد الزائف..
وإنما هي حياة واقعية ولکنها أعلي من الحياة العادية بدرجة.
ذلک: أن الکون مؤلف من مجموعات متنوعة من الطاقيات والماديّات.. وهذه مسلطة علي بعضها البعض، ويلاحظ أن ما هو ألطف وأضعف ظاهراً مسلط علي ما هو أظهر حجماً وأکثف.
ففي الماديات الحديد مسلط علي التراب ومشتقاته من نبات وحيوان والنار مسلطة علي الحديد، والماء مسلط علي النار، والهواء مسلط علي الماء والنور مسلط علي الهواء...
وعلي العموم الطاقيات مسلطة علي الماديات.
فالروح مسلطة علي الجسد، والجاذبية مسلطة علي الأجسام الکثيفة في مدي معين. والنسبية العامة مسلطة علي الأجرام الضخمة في آماد بعيدة.
هذا کله في مجال المحسوس المألوف.
وإذا استطعنا الخروج عن مجال المحسوس المألوف - ولو بأذهاننا - تتراءي أمامنا آفاق من الطاقيات التي تتحکم في جميع الماديات والطاقيات المحسوسة.
وتبدو السلطات متدرجة في شکل هرمي قاعدته الواسعة مؤلفة من الماديات..
وفوقها الطاقيات المحسوسة أو المألوفة.
وفوقها الطاقيات غير المحسوسة وغير المألوفة، التي يعبر عنها بالروحانيات - حسب المصطلح - من الجن، والشيطان، والملائکة، وأرواح الناس.. وهي الطاقيات العاقلة المکلفة.
وفوقها الکلمات...
وفوقها الأسماء...
وفوقها.. وقمتها الله - جل جلاله - الذي هو مصدر جميع الماديات، والطاقيات وهو محيط بکل شيء. ومهيمن علي کل شيء.
إذن: فالله - سبحانه وتعالي - هو الخالق الذي منه تبتدئ الأشياء، وإليه تعود.
ثم الأسماء.. وهي القوي العظمي لأن الله خلقها بلا وسائط وهي من قدرته الخاصة به.
ثم الکلمات.. وهي قوي کبري، قد خلقها الله - تعالي - بواسطة الأسماء..
ثم الروحانيات.. التي خلقها الله بواسطة الکلمات.
ثم الماديات التي خلقها الله سبحانه بواسطة بعض الروحانيات وهي:
(فالمدبرات أمراً) [4] .
والبشر العادي لا يستطيع تفهم ما هو خارج عن وسطه الذي نشأ وترعرع فيه، فإذا تفوّق علي جواذب هذا الوسط يؤهل لتفهم بعض تلک الآفاق الطاقية، وربما للتعامل مع بعض مخلوقاتها - بنسبة تفوقه علي مستلزمات وسطه - وقد يؤشر إلي هذا التفوق، وذاک السقوط قوله تعالي:
(واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فاتبعه الشيطان فکان من الغاوين ولو شئنا لرفعناه بها ولکنه أخلد إلي الأرض واتبع هواه..) [5] .
فمن يرتفع عن الوسط العادي الذي تعيشه عامة الناس، ويتعامل مع أدني طبقة من الطاقيات غير المألوفة يستطيع تحريک جميع الماديات، والطاقيات المتصلة بالماديات بشکل غير مألوف لا تستطيعه سلطات الأرض وثقافة الأرض.
وهذه هي أدني درجات التفوق التي يتعاطاها الأولياء العاديون وربما المرتاضون أيضاً - في حدود خاصة بنسبة التفوق الروحي -، وهکذا کل من استعلي علي شهواته الجسدية ومطامحه الأرضية مدة لا تقل عن أربعين يوماً - غالباً -..
کطي الأرض.. والمشي علي الماء.. ومخاطبة الروحانيات.. والاطلاع علي ما وراء الحواجز والمسافات..
وربما: الإشراف علي الزمان، والإخبار عما انطوي في ضمير الماضي، أو لا يزال جنيناً في أحشاء المستقبل.
ولهذه الدرجة طريقان: الطريق الرحماني الذي يؤدي إلي (الکرامة) والطريق الشيطاني الذي ينتهي إلي (السحر) أو (التسخير).
ومن انحدر من سلالة عالية لم تتلوث بجواذب الأرض ومستلزمات الوسط العادي علي الإطلاق..
(وتقلبک في الساجدين) [6] .
(أشهد أنک کنت نوراً في الأصلاب الشامخة والأرحام المطهرة لم تنجسک الجاهلية بأنجاسها، ولم تلبسک من مدلهمات ثيابها) [7] .
فمن کان له مثل هذا التراث المقدس الذي يعصمه عن الانهيار والانزلاق - وهي صفة العصمة - ثم يواصل سيره التصادعي - کما نلاحظ في أربعينات النبي (صلّي الله عليه وآله) في غار حراء، واعتکافات جميع الأولياء.
فإنه يستطيع أن يستوعب طبقات عليا من الطاقيات، وربما يوفق للتعامل معها - حسب مستواه - فيأتي بما يعجز عنه کثير من الناس حتي أصحاب الکرامات کإحياء الرميم، وفلق البحر، ورد الشمس، وشق القمر...
وهذه هي (المعجزة) التي تختص بأصحاب العصمة من الأنبياء والأوصياء والملائکة - علي اختلاف درجاتهم - الذين يتعاملون مع الکلمات.
پاورقي
[1] سورة الشوري: الآية 51.
[2] سورة النجم: الآية 9.
[3] سورة النمل: الآية 16.
[4] سورة النازعات: الآية 5.
يلاحظ أن هذه مصطلحات لا نکاد نعرف مغزاها، فإنها غالباً أعمق من تفکير البشر، وقدرته المعنوية...
[5] سورة الأعراف: الآياات 175 - 176.
[6] سورة الشعراء: الآية 219.
[7] من زيارة وارث التي يزار بها الحسين (عليه السلام).