قضية المصلح المنتظر
ولسنا في هذه المحاولة، إلا أمام القضية الأخيرة، وهي قضية المصلح المنتظر (عليه السلام)، التي تعبر عن إحدي المعادلات الثابتة، لأنها تتعلق بإحدي الغرائز المتأصلة في البر.
فالبشر - بمقتضي ترکيبته الخاصة - لا يستقيم علي طريقة، بغض النظر عن هوية الطريقة، فلا يبقي علي الحق، ولا يدوم علي الباطل، ولا يواصل الخير، ولا يستمر علي الشر، ويکره الديمومة علي شيء، مهما کانت حقيقة ذلک الشيء، وإنما يفضل التأرجح بين الأضداد، فالشجرة تدأب في منهجها ابتداءً من انطلاقها من النواة حتي نهايتها بلا تمزق بين المناهج، والجبل يواصل برنامجه منذ نشوئه حتي انتهاء عمره الطبيعي بلا تبعثر بين البرامج، والنجمة تنفّذ خطّتها من ميلادها حتي وفاتها بدون أدني انزلاق، والنحلة تؤدي کل واجباتها حتي تسقط ضحية في مسيرة الواجب بلا تردد، ولکنه الإنسان، الذي لا يستطيع توظيب حياته في خط (.. فقال لها وللأرض ائتيا طوعاً أو کرهاً قالتا أتينا طائعين).
ولعل غريزة التأرجح بين الأضداد - أو غريزة التطور - وکّلت بالإنسان لتقليبه في المعادلات المختلفة، حتي تکشف کل مخابئه. وتنمي کل ما في أعماقه من نوايا ورکائز، فتحقق بذلک هدفاً من أهداف الحياة. وهو تجربة الإنسان (وأن لو استقاموا علي الطريقة لأسقيناهم ماءً غدقاً لنفتنهم فيه). [سورة الجن: الآية 15 - 16].
فاستجابة لهذه الغريزة نجد الإنسان دائم الاندفاع بين أقطاب الإغراء الکثيرة المتنوعة، فهو يجب الشيء ويتدفق نحوه بلهفة حتي إذا تشبع منه أعرض عنه واتجه نحو ضده بشدة.
- مثلاً: إنه يجب السفر، فيواصله حتي يجوب الأقطار التي کان يفکر فيها، ثم يخلد إلي مدينة فلا يخرج منها مدي سنوات، ثم يبدأ من جديد رحلات واسعة.
- مثلاً: قد تري إنساناً محافظاً لا تذکر له هفوات، ثم تجده ينفلت بعشوائية، وبعد حين يعاود سيرته الأولي.
- مثلاً: قد يظهر جيل محارب يتتبع الخلافات البسيطة، فيتمسک بها لإشعال الفتن والحروب، يعقبه جيل مسالم يتنازل عن أغلي ما لديه هروباً من المواجهة المسلحة.
- مثلاً: قد يقبل الناس علي الأدب أو المسرح أو الرسم، حتي يقدّمونه علي الخبز والماء، ثم يعرضون عنه حتي يفلس تجّاره.
وهکذا الدين، قد يظهر نبيّ أو إمام يحرک فطرة الناس في اتجاه الدين فيتهافتون علي جوامعه ومجامعه باندفاع مخيف، ثم تتوتر الفطرة فيهم فيتجاهلون کل شيء منه بحيث يتحير دعاته. ويتساقطون تحت تيار الإلحاد، ولا يأخذ التيار مداه، حتي يبدأ بالانحسار، ويتوب الناس إلي رشدهم في اتجاه الدين من جديد، وکأنّه يطرح عليهم لأول مرة، ولم يطرح عليهم لأول مرة، وإنما هي دورة البشر الذي لا يطيق السير علي خط واحد.
ولهذا کلما ظهر نبي أو إمام، واستطاع أن يعلي کلمة الدين - عرف أن ثورته تستهلک بعده، وأن خلفائه يعانون الثورة المعاکسة - فيبشرهم بأن الردة لن تکون القاضية، وأن المطاف الأخير سيکون لدينه. وأن الله سيظهر من يجدده، ويقود الناس إلي الصراط المستقيم.
فما من نبي إلا وبشر بمصلح عالي الصوت، شديد الوطء، يحرک التيار، وأمر الناس بالصبر عبر الخريف، وانتظار ذلک المصلح، والالتفات حوله إذا أدرکوه.
لقد بشر نوح بإبراهيم، وبشر إبراهيم بموسي، وبشر موسي بعيسي، وبشر عيسي بمحمد، وبشر محمد بظهور المهدي ونزول المسيح، عليهم الصلاة والسلام.
فما ظهر دين إلا وطرح فکرة المصلح المنتظر، والديانات الحية اليوم کلها تهيئ لمصلح منتظر وإن اختلفت الأسماء، فاليهودية تبشر بالمسيح، والمسيحية تبشر بأحمد، والإسلام يبشر بالمهدي.