بازگشت

البشر في کل الاتجاهات


- وبما أن البشر يعتمد علي تجربته الشخصية أکثر مما يعتمد علي تجربة غيره، وحتي أکثر مما يعتمد علي الغيب - إذا کان مؤمناً به -.

- وبما أن لکل جديد وهجاً يغري، وکيل الوعود جزافاً سهل، والغريق يبحث عن أي يد تمد إليه.

- وبما أن البشر - لا زال - يعتقد بأنه قادر علي استيعاب الحياة، وعلي وضع أفضل الخطط التي تسعده عبر الحياة وتستنفد أهدافه فيها، وعلي قيادة نفسه بنفسه في معزل عن السماء.

بذلک کله، اندفع في کل اتجاه من أقصي اليمين إلي أقصي الشمال، يلبي کل نداء، ويتحرک مع أية ريح کما أتقن وصفه الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام): (... وهمج رعاع. أتباع کل ناعق، يميلون مع کل ريح، لا يلجئون إلي رکن وثيق، ولا يستضيئون بنور العلم..). فکانت حصيلته تناقضات عشوائية، الناجح فيها هو الأقوي في النطاح، والفاشل فيها من له أدني تروٍّ وأناة، وضياع في خطوط متحرکة ودوامات تدوخ وتبتلع، وتضحيات هائلة في الأرواح والأعصاب والأفکار، يتبعها تخلف وقنوط.

وهذه الرحلة: رحلة التجربة التي بدأتها الأمة - بعد فترة وجيزة من تکوّنها - عبر الأديان والفلسفات والأحزاب والمبادئ، بحثاً عن الأفضل، بعد انحرافها عن دينها الحق، علي إثرعوامل کثيرة أهمها:

- اتجاهها إلي قيادة مفروضة عليها، ومحسوبة عليها، واضطهادها قادتها السماويين.

- وعدم استيعابها دينها الحق، نتيجة لانجراف عديد من الرواة والمحدثين الذين ائتمنوا علي سنة رسول الله (صلّي الله عليه وآله) في تيار تلک القيادة المفروضة المحسوسة علي الأمة.

علي أثر ذلک أصيبت الأمة، وأصيب البشرية. أصيبت الأمة بإصابتين:

- أصيبت الأمة في ذاتها کخير أمة أخرجت للناس، يفترض فيها أن تکون أکثر الأمم مناعة وسعادة، فکانت أکثر الأمم تمزقاً وشقاءً، کما تنبأ الرسول الأکرم (صلّي الله عليه وآله) حين قال: (تتداعي عليکم الأمم کتداعي الأکلة علي قصعتها...)، (... تأتيکم الفتن کقطع الليل المظلم... تدع الحليم حيران...) (... قالوا: أوَ عن قلة فينا يا رسول الله؟ قال: کلا، ولکن غثاء کغثاء السيل).

- وأصيبت الأمة في مرکزها، کأمة مرشحة لقيادة البشرية جمعاء، فلم تکن أمة قائدة لبقية الأمم، ولم تکن أمة قائدة لأمة أخري تقودها إلي الخير أو إلي ما يمکن أن يسمي خيراً، وإنما کبقرة حلوب تحلب ولا تسمن، أو کما في بعض الحديث: (.. غرضاً يرمي...).

وأصيبت البشرية بإصابة واحدة:

أصيبت البشرية في قيادتها الروحية، فخسرت القيادة التي تبشرها بحضارة الروح، وتضمها إلي حضارة المادة، ووجد في ظل تفاعل هاتين الحضارتين مجتمعاً إنسانياً غنياً بمعطيات تلبي کل نداءات الإنسان، وتدفع عجلة التطور إلي الأمام بمحرکين. فبقيت البشرية - بما فيها الأمة الإسلامية - تعاني صراعاً داخلياً حاداً بين العقل والضمير الأخلاقي من جهة، وبين الغرائز من جهة. والعقل معصوم لا يتلوث بالشذوذ، فهو رسول من رسولي الله إلي الإنسان کما في الحديث: (إن لله علي الناس حجتين: رسول باطن هو العقل، وعقل ظاهر هو الرسول). والضمير الأخلاقي حرّ شجاع لا يصمت ولا يتلعثم، فهو محکمة الله في داخل الإنسان، المعبّر عنه في منطق القرآن (بالنفس اللوّامة) [سورة القيامة: الآية 2]. (بل الإنسان علي نفسه بصيرة ولو ألقي معاذيره) [سورة القيامة: الآية 15]. إلا أن العقل والضمير لا يکفيان لقيادة الإنسان فالعقل، وإن کان قوي الحجة، واضح الصوت، إلا أنه يشبه رجل الدين الحصيف الجليل، الذي يعترف به الجميع. ولا ينفذون کلمته. لأنه غير مسلح بالإرهاب والإغراء.

والضمير الأخلاقي، وإن کانت محکمته مستمرة طول العمر، وصوته جهوري يعکره سعادة من يخالفه نهاراً ويؤرقه ليلاً، إلا أنها تشبه المحاکم العائلية، التي تصدر أحکاماً خلقية للتنبيه، أو تصدر أحکاماً قضائية مع وقف التنفيذ. والإنسان لا يخضع إلا للقوة المنفّذة.

بينما الغرائز تشبه عصابة مغامرة من الشباب الأقوياء، التي لا تتورع عن شيء في سبيل مآربها، فيجتاح منطق العقل والضمير الأخلاقي، بغرورها العنيف. وربما تسخر العقل من أجل التخطيط لمآربها بالعنف، کما قد تسخر العصابات الشريرة، الخبرات الخيرة لجرائمها تحت التهديد بالقوة.

إذن فالعقل والضمير الأخلاقي لا يکفيان لتوجيه الإنسان وقيادة غرائزه، ولذلک کان العقل والضمير الأخلاقي يستغيثان السماء دائماً، لإمدادهما بالرسل.