بازگشت

المقدمة


الحمد لله رب العالمين والصلاة علي خاتم أنبيائه والسلام علي خاتم خلفائه، وعلي عباد الله الصالحين.

الناس - عادة - يؤمنون بالمألوف بلا محاکمة، لا لأنهم استوعبوه، وإنما لمجرد أنهم وجدوه واقعاً إلي جانبهم، أو لمجرد أنهم وجدوا المجتمع يردده من حولهم.

فالجميع يعترفون بالشمس، لأنهم وجدوها منذ فتحوا أعينهم للنور، ولو لم تکن الشمس في مرمي أنظارهم ووصفت لهم بحجمها الضخم وحرکتها الدقيقة السريعة ولهيبها القوي العالي دون أن يأکل من جرمها شيئاً مدي مليارات السنين، لما اعترفوا بها.. ولکنهم حيث وجدوها، اعترفوا بها، وحاولوا أن يفلسفوا غوامضها - في کل جيل حسب الأفکار الحاکمة عليه - ليجعلوها مطواعة لمرتکزاتهم.

ومن هذا النوع اعترافهم بالأرض والنجوم والأجواء وسائر الظواهر الکونية.

وعملية تکوّن الإنسان، وتسلسله معترف بها من قبل جميع الناس، لأنهم تکوّنوا بها ويجدون الآخرين يتکوّنون بها، أما لو کان الإنسان بدواً من الأرض، وکان يقال له: أن نوعاً من الحيوان يتکوّن بتلاقح الدورة المنويّة من الذکر بالبويضة من الأنثي، وکانت توصف له عملية الإنجاب حتي الولادة لکان يعتبرها خبطاً في الخيال، کما يصعب عليه الاعتراف بأن عيسي (عليه السلام) خلق من غير أب... لا لشيء إلا لمجرد أنه لم يألف إلا طريقة واحدة في خلقة الإنسان.

ومن هذا النوع اعترافهم بطريقة خلقة المبيضات، وطرائق خلقة الزواحف والهوام والبراغش وسائر الحيوانات والنباتات الترابية والمائية.

فاعترافهم بالظواهر الکونية وطرائق الخلقة في مسلسلات المخلوقات ليس ناتجاً من استيعابها وتصديقها، وإنما هو وليد ضغط الأمر الواقع علي الذهنية العامة للتسليم له.

والناس جميعاً - قبل القرن العشرين کانوا يعترفون بمعطيات (هيئة بطليموس) من تراکب السماوات السبع والعرش والکرسي وتراکب الأرضين السبع کطبقات البصل - حسب تعبيراتهم - ومن کون الأرض مرکز الکون، ومن حرکة جميع السماوات والکواکب والنجوم... إلي آخر معطيات فلسفة أرسطو وطب جالينوس وسائر العلوم التي کانت سائدة في تلک الأجيال. وما کان يتردد أحد في شيء منها إلا ويتهم بالخيانة العظمي - متمثلة في الکفر والزندقة والإلحاد - ثم يعدم قتلاً بالسيف أو جلداً بالسوط أو حرقاً بالنار.

ومن هذا النوع کان اعترافهم بالروحانيات والعلوم الغريبة.

وهم - جميعاً - في هذا القرن يعترفون بجميع معطيات العلوم الحديثة من الفسيولوجيا والبيولوجيا والتکنولوجيا، وانتهاءً بالنسبية العامة والديالکتيک، ولا يتردد أحد في شيء منها إلا ويتهم بالخيانة العظمي - متمثلة في السخافة والجمود والرجعية - ثم يعدم طرداً عن المجالات الحيوية.

ومن هذا النوع إنکارهم للروحانيات والعلوم الغريبة.

لا لأن أولئک اعترفوا بمعطيات علومهم عن استيعاب وتصديق، ولا لأن هؤلاء يعترفون بمعطيات علومهم عن استيعاب وتصديق... وإنما لأن کل واحد من أولئک عندما تفتق فيه الوعي وجد المجتمع من حوله يردد أشياءً فرددها معه، کما يکرر عاداته وتقاليده معه، شأن الطفل الذي يدخل مدرسة، فيردد مع زملائه أناشيدهم ويرفع صوته أو يخفضه معهم، ربما دون أن يفهم حرفاً منها.

ولذلک حارب الناس جميع الأنبياء والمصلحين والمجددين وأوائل المکتشفين، لا لشيء إلا لأنهم طرحوا أفکاراً لم يکن يرددها المجتمع، فمن استطاع منهم أن ينجو من الإعدام، ويواصل الکفاح حتي يقنع المجتمع بأفکاره أصبح عظيماً تنحني أمامه رؤوس من بادروا إلي حربه بلا هوادة... لا لأن المجتمع لم يکن يرددها ثم استطاع أن يلقنها للمجتمع.

وبهذه الببغاوية نعاهم القرآن معزياً رسول الله، قائلاً: (ذلک مبلغهم من العلم) وأعذرهم الرسول متجاوباً مع القرآن، قائلاً: (اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون).