بازگشت

مقدمة


الحمدللّه رب العالمين لا شريک له، والصلاة والسلام علي خاتم رسله، وسيد انبيائه محمد واهل بيته الطاهرين وعلي اصحابه المخلصين.

لم تکن فکرة الکتابة في موضوع الامام المهدي المنتظر (ع) علي ما له من اهمية بالغة علميا ودينيا واردة لدي حتي بوصفها مشروعا للمستقبل... فانا اعلم مدي مالابس هذا الموضوع من تصورات بسبب الخلاف السياسي والمذهبي بين الفرق الاسلامية من جهة، وبسبب التنظيرات الغنوصية الباطنية من جهة اخري. واعلم ايضاما دخل الاحاديث المتصلة به نتيجة لذلک من وضع وتحريف، وما شاب التصورات حوله من غموض وخلط وتشويش... هذا يضاف الي ما في مفردات تاريخه (ع)، اصلا، بحکم کونه آخر اوصياء الرسول (ص)، من امور غامضة لا بد منها لاتصالها بالظروف الموضوعية وما تحتمه کيفية التعامل معها في طرف، وبالارادة والخطة الالهية الخاصة بمستقبل الرسالة، والامة بل البشرية بعامة في طرف آخر. کل ذلک وغيره يحتاج، في البحث والفرز والمعالجة والتفسير، الي وقت وجهد لا املکهما. ثم ان بين يدي بحوثا واطاريح حالت ظروف شخصية، ذاتية وموضوعية، دون اتمامها حتي الان... وکان من دعائي ان يفسح اللّه سبحانه لي مدي استطيع به انجازهابالکيفية التي اطمح اليها في المادة والمنهج والاسلوب. وافرزت الظروف، في السنوات الاخيرة، مناخا کون احوالا نفسية وفکرية ساعدت علي ان ينجم مرة اخري في العراق وخارجه في اوساط العامة من الشيعة علي ماتناقله الناس واشتهر بينهم افراد يدعون الصلة بالامام المهدي المنتظر (ع) ويتجاوزون ذلک الي التبليغ عنه بما يناقض بعضه ثوابت الدين، وضرورياته بل والي ادعاء بعض منهم انه الامام (ع) عينه. وتلک هي دعوي البابية والمهدوية نفسها کما عرفنا علي امتداد التاريخ الاسلامي. انها تبدا بدعوي البابية للامام (ع) فالمهدوية، ثم تنتهي بعدئذ الي دعوي النبوة بمعناها الاصطلاحي المستقل الذي ينسخ ويؤسس، بل الي دعوي الربوبية بناء علي نظرية الوحدة المطلقة. وسنتحدث عنهم بربط ما اشتهر عن الجدد بالمعروف عن القدماء، وتاسيسا علي ما هو الثابت من القواعد والتنظيرات المشترکة لمثل هذه الدعاوي. ان مقام المهدية، بل النبوة في السلوک العرفاني الصوفي المغالي، حق لمن بلغ مرحلة الفناء، او درجة الولاية الکبري کما يسمونها طبقا لتحديداتهم في الاسفارالاربعة. وقد ظهر، في تاريخهم، عدد غير قليل ادعي ذلک علي القاعدة والنهج اللذين اشرنا اليهما. ولا يختلف الغلاة من الشيعة کما يثبت تاريخهم بدءا من ابي الخطاب، والمغيرة بن سعيد، ومحمد بن فرات، ومحمد بن بشير، وابي منصور العجلي ونظائرهم في السابق، وانتهاء بخر بابي ومغال في اللاحق، عن غلاة الصوفية من حيث القاعدة والمنطلق الاساس، وما يقوم عليهما من تنظيرات وممارسات.. الا في الاسلوب الذي يمليه عليهم التلاؤم مع مفاهيم الاوساط الشيعية في حرکتهم داخلها ابتداء، وفي المراحل الاولي. انهم يتحدثون للناس في البداية عما للرسول (ص) والائمة من اهل بيته (ع) من رتبة روحية سماوية متقدمة مبدا ومعادا.. ثم يبنون علي ذلک: القول بالامام الکوني الذي يعني الاسم الظاهر، او العالم ککل ومع ان من يقول بذلک غيرهم... يري ان الاسم غير المسمي، وانه لا يخرج بما هو في ذاته عن کونه ممکنا مرکبا ذا وجودعرضي فهو فقير بالذات لا استقلال له عن واجب الوجود سبحانه. فان هؤلاء يرون انه عينه تعالي، وهو ما تبرا منه الائمة (ع) انفسهم من دون استثناء ولعنوا القائلين به بل والمتوقفين عن لعنهم، ودعوا عليهم باذي والحاح. وامتد الغلاة وهذا هو المهم من القول بالامام الکوني المطلق الي القول بتشخصه في المقيد، فهو يتمثل عبر التاريخ بهذا الفرد، او ذاک.. فيکون هذا التشخص عين الامام.. الذي هو عين اللّه. وهو قريب، في الصورة، من نظرية المثل والممثول في الفکر الامامي الاسماعيلي مع فارق اقتصار هؤلاء علي السلالة الاسماعيلية. وان ذکر بعضهم ايمانهم بالولادة الروحانية التي اضافوا بها من ليس من السلالة اصلا اليها، علاوة علي فارق آخر هو ان من له مثلا من الممثولات انما يبدا من العقل الاول لا من الذات الالهية المتعالية عن الصفة، فهم بهذا اقل غلوا. وبذلک، جعل هؤلاء، مقام النبي والامام نوعيا لا شخصيا. فليس الامام المنتظر (ع) عندهم، اذن، شخص محدد کانسان ذاتا، ونسبا، وموقعا، وتاريخا، وغيبة، وظهورا.... کما وردت به الاحاديث المتواترة عن الرسول (ص) والائمة الاثني عشر من اهل بيته (ع) وعن الصحابة والتابعين... بل هو اي شخص من اهل السلوک او العارفين، بلغ بزعمهم درجة الولاية الکبري. ولذلک يجب التنبيه الي انه لا يجوز ان تؤخذ دعوي الصلة بالامام المهدي المنتظر (ع) لدي هؤلاء علي مفهومها الظاهر وان ادعوه خداعا للعوام بل في الاطار الذي ذکرناه علي انهم، طبقا لنظرية الوحدة المطلقة، لا يرون کل ما ذکر من الاشخاص المعينين من الرسل والائمة (ع) الا اسماء لا تحمل معني، انها وهم، وباللغة الهندوسية صاحبة هذه النظرية اصلا: (مايا).. وانما قصدوا باستعمالها ما اشرنا اليه من الانسجام مع المفاهيم الموروثة والمقدسة والمفهومة عند الناس ابتداء وافتضاض قلوب المتدينين الملتزمين منهم وعقولهم، ريثما يمکن تلقيحها برائهم وتفسيراتهم الباطنية.... والا فان دعوي البابية للامام (ع) بل دعوي المهدوية حتي لو صحتا لاتسمحان لهم کما هو واضح بحکم کون الامام (ع) وصيا للرسول (ص) وامتدادا له في الدين والدعوة: ان ياتوا بما هو علي مستوي المناقضة مع موقع الامام (ع) نفسه ومع ثوابت الرسالة، وضرورياتها. بل مع البديهيات والضروريات العقلية احيانا، وهؤلاء کما هو ثابت بالتواتر کما ستقراه في الجزء الثاني من هذا الکتاب ان شاء اللّه قد جاءوا بذلک وفي جانبي الاصول، والفروع معا وبما لا يقبل بعضه الاعتذار والتاويل... کان اول مدع لذلک، في عصر الغيبة الصغري، بين سنتي 260 و328 ه، وبهذا المسلک والاسلوب، الحسين بن منصور الحلاج الذي قتل سنة 309 ه والذي ادعي البابية ثم المهدية والنبوة، ثم انتهي الي دعوي الربوبية، ويبدو لنا ان من تقدمه ومن تاخر عنه في الجراة علي دعوي البابية کان علي مثل رايه اصلا کالشريعي والهلالي،والبلالي، والنمري، والشلمغاني الذين صدر التوقيع من الامام المهدي (ع) بلعنهم ودمغهم بالکفر والالحاد. قال الشيخ الطوسي، رحمه اللّه، المتوفي سنة 460 ه، وهو ينبه الي قواعد هؤلاء واساليبهم وما ينتهون اليه في ما نقله لنا عن هارون بن موسي قال: «ان کل هؤلاءالمدعين (يعني: مدعي البابية) انما يکون کذبهم اولا علي الامام (ع) وانهم وکلاؤه فيدعون بذلک الضعفة الي موالاتهم ثم يترقي بهم الامر الي قول الحلاجية ». وحين نقلت ام کلثوم، ابنة الشيخ ابي جعفر محمد بن عثمان العمري، رحمه اللّه (النائب الثاني للامام المهدي (ع) في الغيبة الصغري)، الي الشيخ ابي القاسم الحسين بن روح رحمه اللّه (النائب الثالث)، ما عرفته علي اثر زيارة ام ابي جعفر بن بسطام لها من ان ابن ابي العزاقر الشلمغاني (الذي ادعي البابية آنذاک فصدر التوقيع بلعنه) قال لال بسطام وقد استکتمهم اياه علي انه من الاسرار: بان الرسول (ص) قد حل في ابي جعفر محمد بن عثمان العمري وان عليا (ع) حل في الحسين بن روح و ان الزهراء قد حلت في ام کلثوم... قال لها الشيخ ابن روح رضوان اللّه عليه: «يا بنية، اياک ان تمضي الي هذه المراة بعد ما جري منها، ولا تقبلي لها رقعة ان کاتبتک، ولا رسولا ان انفذته اليک، ولا تلقيها بعد قولها... فهذا کفر بااللّه والحاد، قد احکمه هذا الرجل الملعون ليجعله طريقا الي ان يقول لهم: ان اللّه قد اتحد به، وحل فيه کما يقول النصاري في المسيح (ع) ويعدو الي قول الحلاج لعنه اللّه». ويؤکد تاريخ اصحاب هذه الدعاوي، بعدئذ، انها لم تصدر الا من هذه الاوساط وعلي اساس القاعدة نفسها والمسار والاسلوب نفسيهما. کتب الشيخ المحدث علي بن حسام الحنفي، المعروف بالمتقي الهندي، صاحب کتاب کنز العمال، المتوفي قبل 960 ه، في کتابه «البرهان في علامات امام آخرالزمان » ردا علي محمد بن يوسف الجونبوري، المتوفي سنة 910 ه، الذي ادعي المهدوية في الهند فاغوي وضلل خلقا کثيرا... فقال في مقدمته: «ومعلوم عند اهل الحق ان کثيرامن المشايخ (يعني مشايخ غلاة الصوفية) صدرت منهم دعوي المهدوية »، واعتذر عنهم باشارة بليغة مؤدبة: بانها من لوازم احوالهم. ولکن الحال وهذا المهم لا يعبر عن الحقيقة والواقع، لذلک قال رحمه اللّه: «وصفتهم کانت مخالفة لما ورد في شان المهدي (ع) من الاحاديث النبوية، وآثار الصحابة والتابعين ».والحق ان الامر کما يقول بشهادة الواقع التاريخي. فان قائمة من ادعي ذلک منهم طويلة في القديم والحديث، وقد ذکرنا عددا کبيرا ممن انشا منهم، علي اساس هذه الدعوي، طوائف في الجزء الثاني من هذا الکتاب، ويکفينا ان نشير هنا الي امثلة قريبة، کمدعي البابية اولا ثم المهدية والنبوة ثانيا وثالثا: علي بن محمد رضا الشيرازي المعروف ب«الباب »، والذي اعدمبفتاوي الفقهاء بعد محاکمته في سنة 1263 ه، وعنه امتدت بعدئذ طائفة البهائية التي استقلت في تعاليمها عن الاسلام جملة. فقد اجاب هذا الباب، حين سئل لدي محاکمته عما شاع من دعواه المهدوية، وما اذا کان يقصد المهدي النوعي ام الشخصي قائلا: «بل انا عين ذلک المهدي الشخصي! انا الرجل الذي تنتظرونه منذ الف عام ». ولم يبال بان يجرؤ فيدعي، رغم ما کشفه منطقه وکتاباته من جهل فاضح، ان مقامه يتقدم مقام النبي محمد (ص) فمقامه النقطة ومقام محمد الالف! وزعم ان هذيانه الهزيل، اسلوبا ولغة ومضمونا، في کتابه «البيان » يفوق القرآن، وان کل کلمة منه کما خيل له معجزة... واشباه ذلک. والغي اتباعه، في مؤتمر «بيداء بديشت الشريعة »، الاسلامية وخطبت قرة العين (زارين تاج) التي يسمونها الطاهرة مطالبة بالاباحة. اما مدعي المهدوية في الهند الميرزا غلام احمد بن مرتضي القادياني، المتوفي سنة 1908م، الذي انشا طائفة لا تزال قائمة حتي الان.. فقد ادعي انه عين المسيح الموعود، وانه کل الانبياء، وانه راي نفسه ذات مرة الخالق نفسه سبحانه وقام بعملية الخلق کاملة! ولا تعليل لذلک وامثاله، من جراة وتقحم في القول والفعل، بغير ما اشرنا اليه من مسالکهم وما تؤدي اليه بطبيعتها من هلوسات، طبقا للمتوقع من رؤي الواصلين لهامنهم ومقاماتهم، او الخلق بالخيال لما تصوروه طبقا لما تحدث عنه ابن عربي والا علي اساس القول بالوحدة المطلقة، لا کحالة شهود آنية ضمن حالة استغراق في النظرالي اللّه تعالي ليعتذر عنها: بالحال، والمحو، والسکر، والغياب، والشطح، والنظر بالعين اليمني وما اشبه مما ذکروه في الاعتذار عن بعض اهل بل بوصفه قاعدة ثابتة تمثل في نظرهم الحقيقة السلوک المطلقة، ولذلک اسقطوا علي اساسها التکليف بنفي المکلف موضوعا، وقالوا ما شاءوا، واسسوا طوائف استقلت عن الاسلام جملة...لکن القول بنظرية الوحدة لا يعلل الا الجراة واللاابالية، اما ما يرون ويسمعون وياتون به فله اسباب اخري سنتحدث عنها في فصول الجزء الثاني من هذا الکتاب بالتفصيل ابتداء من الاسس... ولا يکتفي الغنوصيون والباطنيون، من اصحاب الطرق الضالة جميعها، وفي جميع الامم (کالبراهمة، والبوذيين، واليهود، والنصاري، والمسلمين)، ومنهم مدعو البابية والمهدوية، علي ما عرف من تاريخهم، بالدعوة النظرية المجردة، او برسم مناهج سلوکية خاصة من شانها ان تهيي النفوس والاذهان لقبول آرائهم والايمان بمقاماتهم، بل يتوسلون لاثبات خصوصيتهم بالامکانات والقوي الروحية التي هي امکانات ذاتية لدي کل انسان تتجلي وتقوي حتي تبرز بالفعل بما يتوسلون به الي صقل انفسهم وتقوية اراداتهم: من الرياضات الخاصة المعروفة لديهم جميعهم کالعزلة، والصمت، والصوم المتواصل بصورها اللامشروعة وترک اللحوم والسهر وايثار الجلوس في الظلمة او قلة الضوء، واشباه ذلک. وقد تحصل ايضا بتلبس کائن روحي من عالم آخر بالاسباب السابقة نفسها، وبفتح ذواتهم المطلسمة اصلا عناية من اللّه تعالي للصلة بها من قبل هذه الکائنات اختيارا،واستدعائها تلباثيا کما هو المعروف في تحضير الارواح، وعند حصولها بهذه الصورة او تلک يکون ما هو شائع في اوساطهم وفي غيرها من الکشف النسبي والرؤية عن بعد وقراءة الافکار، وخلع البدن اراديا... وغير ذلک مما اثبتت الدراسات التاريخية والباراسايکولوجية المعاصرة انتشارها لدي کل الامم دونما فرق بين ملتزم ومتحلل ومؤمن وکافر. بل يتوسل اصحاب هذه المسالک، کما اشرنا في الهامش الاول من هذه المقدمة، بالسحر والشعوذة والاستحضار والاستخدام والتسخير لاحداث ما يسمي بالظواهرالخارقة.. وهي ايضا مما اثبتت الدراسات التاريخية والبارسايکولوجية الحديثة شيوعها عند جميع الامم کذلک، من دون فرق بين الملتزم والمتحلل من افرادها.... بماانها آثار وضعية لاعمال معينة... وبذلک نفت خصوصيتها، ودلالتها علي سمو الذات، او الطاعة اللّه والقرب منه... وهو ما يحاول هؤلاء الادعياء: الايهام به... بل هي علي العکس تماما، لحرمتها شرعا، وسيلة وغاية... ومن اخطر ما عرف من وسائل هؤلاء ان يوجهوا الارواح السفلية المسخرة لهم بما توسلوا به من الخلوة والاوراد المعروفة، کامثال ما يذکره البوني في منبع اصول الحکمة، الي ان تتلبس الموصولين بهم وتناجيهم ليوهموهم انهم اصبحوا بذلک علي صلة بالامام الکوني او بااللّه او بالملائکة لا فرق. وحين يري هؤلاء البؤساء، واغلبهم ساذجون او جهلة، علي الاقل بهذه العوالم، انهم اصبحوا يسمعون ما لا يسمعه غيرهم، ويرون ما لا يراه سواهم، وحين يخبرون بنبافيتحقق، او يرون حدثا بعيدا مکانيا فيتاکد، او يقرا لهم طوية انسان فتبرز بعدئذ، او يستحوذ عليهم وينطق بالسنتهم او يتصرف بهم ويوجههم وامثال هذه الظواهرالمعروفة لدي المروجين قدماء ومحدثين من دون خصوصية دين او التزام، يزدادون اعتقادا بانهم اصبحوا مقربين، وموصولين بالفعل.. وعندها تتاکد تنظيرات مدعي البابية والمهدوية وتوجيهاته وبشاراته عندهم ويصبحون بالايحاء الدائم والمناجاة المستمرة رهن اشارته وقيد امره ونهيه حتي في ما جاوز حدود اللّه، وخالف سبيله، وخرج علي منطق العقل، وميزان الاخلاق العامة.. وقد يشتد هذا التلبس الشيطاني علي بعضهم احيانا فتربد وجوههم، وتتغير سحناتهم، ويصابون بالک آبة ويلزمون البيوت ويترکون الطعام اياما او اسابيع، وقد تختلج بعض جوارحهم او يثغون کالشاة او يرغون کالبقرة ولکنهم وهذا موضع العجب لا يرون في ذلک باسا... فهم کما يعتقدون علي صلة بالامام... بل هم يرون انفسهم في نعمة رغم ما انزله بهم من اذي، واصارهم اليه من منکر.. اذ لا ينبغي في نظرهم لاحد ان يحد الامام او يضع تصرفاته في نطاق المعقول واللامعقول، والجائز واللاجائز... وما ذلک الا لجهلهم باللّه وصفاته اولا، وبالامام (ع)بوصفه حجة للّه ثانيا، وبمعني الحد واللاحد ثالثا... ولعدم معرفتهم ايضا الفرق بين المامة الملک، والمامة الشيطان... ان ما اشرت اليه واقع قائم لدي اصحاب هذه الدعاوي، بشواهده، وليس خيالا. ان الارواح او الموجودات اللامادية لا يمکن التحقق من هويتها، ومعرفة انتمائها لنثق بها، او نحذر منها، وان طبيعة ما اعط ي اللّه من الاختيار في عالم الجن والانس يسمح لها بالادعاء والاغواء، ولم يضمن اللّه لنا العصمة منها ابتلاء الا بالعقل، بوصفه حجة ذاتية باطنة وبالدين بوصفه حجة موضوعية ظاهرة، ولذلک فان المعيار الذي يجب ان يظل ماثلا دائما امام من يبتلي بالصلة بها اذا لم يمکنه طردها هو تطابق مفاهيمها وصورة تعاملها، وما تعطيه من تعاليم ومعلومات.. مع منطق العقل، والدين،وما يعطيانه من قيم وموازين بمعني ان لا يعط ي لما استقلت به قيمة وان لا يعير «لادعاءاتها بالا». لقد ذکر القرآن الکريم، في عدد من آياته التي يمکن الرجوع اليها، في مادة جن وشيطان وقرين، من المعجم المفهرس لالفاظ القرآن الکريم، ما يوجب الاحتياط والحذرمن الانسياق وراء ما توحيه کائنات هذا العالم الخفي من الجن والشياطين خوفا من السقوط في الهاوية التي يتردي بها امثال هؤلاء. فقال تعالي: (قل اندعو من دون اللّه ما لا ينفعنا ولا يضرنا ونرد علي اعقابنا بعد اذ هدانا اللّه کالذي استهوته الشياطين في الارض حيران) [الانعام: 71]. وقال تعالي: (وکذلک جعلنا لکل نبي عدوا شياطين الانس والجن يوحي بعضهم الي بعض زخرف القول غرورا ولو شاء ربک ما فعلوه فذرهم وما يفترون، ولتصغي اليه افئدة الذين لا يؤمنون بالاخرة، وليرضوه وليقترفوا ما هم مقترفون) [الانعام: 112 و113]. وقال تعالي: (وان الشياطين ليوحون الي اوليائهم ليجادلوکم) [الانعام: 121]. وقال تعالي: (انهم اتخذوا الشياطين اولياء من دون اللّه ويحسبون انهم مهتدون) [الاعراف: 30]. وقال سبحانه ردا علي من يزعم من هؤلاء انه انما کان يطيع الملائکة.. (ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائکة اهؤلاء اياکم کانوا يعبدون، قالوا سبحانک انت ولينا من دونهم بل کانوا يعبدون الجن اکثرهم بهم مؤمنون) [سبا: 40 و41]. ورد الرسول (ص) والائمة، من اهل البيت (ع)، علي من زعم من الغلاة.. انه راي وسمع وتجلي له کما ستقرا ذلک في ما ادعاه بعض الغلاة في الفصل الخاص بهم من الجزءالثاني قائلين... انه شيطانک انه المذهب، او المتکون..... وجاءت احاديث کثيرة تقول: ان علي يمين کل انسان ملک يوحي له بالطاعة وعلي يساره شيطان يامره بالمعصية. وفي ذلک، وفي التجارب التي يقدمها التاريخ ما فيه من بلاغ وحجة، وقد کتب الباراسايکولوجيون والروحيون المعاصرون تحت عنوان: مس او استحواذ او تلبس، اوضربة الشيطان، حوادث ماساوية کثيرة جدا تتصل بذلک، سنتحدث عن بعضها في الجزء الثاني ايضا من هذا الکتاب. علي انه من الممکن، بل من الواقع قطعا، ان يکون بعض هؤلاء الادعياء وبعض اتباعهم مريضا مصابا بالبرانويا او الذهان والهلوسة (بصرية او سمعية او شمية اوذوقية). فان بين هؤلاء المرضي کما يقول اطباء الامراض النفسية والعقلية من لا يشعر بانه مريض، بل يتخيل نفسه قديسا ووليا موصولا ونبيا وما اشبه، ويمشي بوقار،ويجلس بصمت واطراق وبشي ء من الغياب. وقد يري ان الناس حمقي ومجانين وانهم لجهلهم لا يعرفون قدره ولا قيمة افکاره، بل ان بعض هؤلاء کما يقول الاطباء من يتمتع بهيمنة ومنطق، وقدرة علي الاقناع في جوانب معينة وقد يملک قابلية علي الاستبصار... الا انه يبدو خارج الموازين العقلية والشرعية، ويبدو مخلطا بصورة بائسة في جوانب اخري.... وهناک شواهد کثيرة علي ان بعض هؤلاء الادعياء وبعض اتباعهم من هذا الصنف قطعا، وانهم لذلک رغم اذاهم يستحقون العطف بحکم حالهم المرضية، وانهم اذا لم يعوا ما يقولون او يفعلون غير مسؤولين. وذلک احد الاسباب التي جعلت بعض المؤمنين يرفض الانسياق مع حملة التشهير ببعضهم، لانها تخلط الحق بالباطل، وتجمع البري ء والمذنب رغم ما ناله من ذلک آلدي الناس من اذي. لکنه يري مع ذلک ان مکان المرضي، اذا کانت امراضهم سارية کهؤلاء: الابعاد والعزل کالمصاب بالايدز والجذام والکوليرا.. حماية لعباد اللّه والضعفاء من خلقه علي ان البعض الاخر من هؤلاء المدعين ليس کذلک قطعا والادعياء الجدد بناء علي ما اشتهر عنهم من قواعد واقوال وممارسات، واساليب ووسائل لا يختلفون عن اسلافهم الماضين الذين حدثنا التاريخ عنهم بشي ء، وهو ما نرجو مخلصين ان يتنبه اليه بالمقارنة مع ما قدمناه بعض من يحسن الظن بهم، فنحن نؤمن بان في المتصلين بهؤلاء من لا يطلب الا اللّه ولا يريد الا القرب منه ومرضاته اصلا.. الا انه صار دون ان يريد بما اشرنا اليه من وسائلهم هذه وغيرها في حال هو اشبه بحال الامبراطور الذي اوهمه النساجان الماکران بانه يرتدي الثياب التي نسجاها له رغم انه يري نفسه ويراه الناس عاريا... فهم لا يعدون ان يکونوا مخدوعين وباستهواء وهو ما يجعلني اري ان ما ساورده في هذا الکتاب، من هذه الجهة، لهم لا عليهم. وبوصول النزر، مما ذکرناه، عما اشتهر عن هؤلاء، من خلال اسئلة المؤمنين، صدرت عن بعض کبار المراجع فتاوي منشورة واخري شفوية بتکذيب هؤلاء الادعياء جملة وتضليلهم، واسقاط عدالة المنضوين اليهم والمؤمنين بهم اذا کانوا يعلمون بما صدر عنهم من مخالفات وعلي غير شبهة. ولا شک في ان لهذه الفتاوي اثرها في تحذير المؤمنين الملتزمين بالشرع الواثقين بمراجعه الاعلام حفظهم اللّه وابعادهم بذلک عنهم، وتضييق دائرة حرکتهم في اوساطهم... لکنها قليلة الاثر لدي آخرين من المؤمنين ممن لا يقنع الا بالتعرف المباشر وتکوين الراي في مسائل کهذه. اما بالنسبة للموصولين بهؤلاء، فمن الصعب ان يصغي اليها احد منهم، فضلا عن التاثر بها. فمن ياخذ بتصوره عن الامام مباشرة، او بوساطة هؤلاء الادعياء، او بوساطة ما اصحبوهم اياها من الشياطين لا يرجع الي الفقهاء بشي ء اصلا. ومن المعروف، في تاريخ ادعياء البابية والمهدوية ومن يمتون اليهم في المسلک اصلا، انهم يصورون الفقهاء لاتباعهم علي انهم اصحاب نفوس، وعناوين، وکبر وانهم اهل رسوم وفکر لا يدرکون الحقائق ولا يانسون بالصلة، وانهم اعداء الامام (ع) وهذا هو موقفهم مع کل من يابي ان يصغي اليهم والي شياطينهم او يقيم لها ولهم وزنا. ثم ان من لا يبالي بان يکون علي مستوي المناقضة مع نصوص القرآن الکريم (الذي لا ياتيه الباطل من بين يديه، ولا من خلفه) ومع ثوابت سنة المعصومين (ع)؟ کيف يمکن ان يتاثر بفتوي؟ لذلک کان من رايي ان يکون التصدي لهؤلاء علي الصعيد الفکري والفلسفي، بدراسة مفصلة لتاريخ هؤلاء الادعياء بدءا من اول ناجم منهم في التاريخ الاسلامي وبيان اسسهم الفلسفية ومنطلقاتهم واساليبهم ووسائلهم والشواهد عليها من اقوالهم وافعالهم وما قاله کبار العلماء والعارفون فيهم، رجاء ان ينتبه بعض من غرر بهم هؤلاء، اومن يمکن ان يغرروا بهم في المستقبل... وهي مهمة صعبة نسبيا... وجاءت ذکري مولد الامام المهدي المنتظر ثاني عشر ائمة اهل البيت (ع)، في شهر شعبان من سنة 1417 ه 1997م، فالقيت في حفل اقيم بالمناسبة کلمة تحدثت فيهابايجاز عن الامام (ع). وکان مما ذکرته بعد تواتر الاحاديث فيه لدي المسلمين من اهل السنة والشيعة من دلائل الاثبات: ظهور دعوات البابية والمهدوية علي امتداد التاريخ الاسلامي في الوسط السياسي، والصوفي المغالي وان ذلک ما کان ليکون لو لم يوجد للمهدي المنتظر (ع) اساس ثابت ومتواتر لدي الامة تتوارثه جيلا بعد آخر حتي ينتهي الي الرسول (ص) والائمة الطاهرين من اهل بيته (ع).. وانطلقت من ذلک لابين ما تصدي به العلماء لهؤلاءالادعياء بدءا من الاول منهم.. وکان مما ذکرته، عدا ما مر مضمونه: اولا: عدم تطابق تاريخ هؤلاء الادعياء مع ما اخبر به الرسول (ص) والائمة من اهل بيته (ع) وما جاء عن بعض الصحابة والتابعين (رض) من تحديد لهوية الامام (ع)اسماونسبا، وصفات وموقعا، وزمانا وخفاء ولادة وغيبة وظهورا. ثانيا: لم تسبق اي واحد منهم، او ترافقه، او تتاخر عنه العلامات والايات التي تتصل بالامام المنتظر (ع) في هذه الازمنة الثلاثة المتصلة به کما جاء في هذه الاحاديث. ثالثا: عدم تطابق علم اي واحد منهم وخلقه وسلوکه علي المستوي العام والخاص مع ما هو معروف عن ائمة اهل البيت (ع) وبروز نزعة الادعاء والتامر عليهم، وکثرة الشطط والتناقض عندهم. رابعا: لم يتحقق علي يد اي واحد منهم ما يفترض تحقيقه لدي ظهور الامام (ع) علي مستوي العالم فضلا عن الامة، ومنها ان يملا الارض قسطا وعدلا وان يوحد العالم ويجعل الاسلام کما انزل محوره وميزانه.. بل علي العکس فان کل واحد من هؤلاء ترک جرحا جديدا وسبيل فرقة مضافا. بل ان بعضهم ارتکب، من المظالم، ما استغاثت الامة منه باللّه واستشفعت اليه بالامام وآبائه (ع) ليخلصهم من شروره. خامسا: ان الامام المهدي المنتظر (ع) ثاني عشر الائمة من اوصياء النبي (ص) قال في التوقيع الصادر لنائبه الرابع علي بن محمد السمري، المتوفي سنة 328، بعد ان اخبره بالغيبة الکبري «وسياتي لشيعتي من يدعي المشاهدة فمن ادعي المشاهدة قبل الصيحة والسفياني فهو کذاب مفتر». ولا شک في ان الدافع لمثل هذا التحذير ما اعلمه اللّه به من ظهور هؤلاء الادعياء وخداعهم للمؤمنين باسمه (ع)، فاراد ان ينبههم الي عدم قبول ذلک منهم، والا فان اهل العلم والايمان اجل واخشي للّه من ان يفعلوا شيئا من ذلک. سادسا: ان الامام المهدي المنتظر (ع) امر، في التوقيع الذي رواه محمد بن يعقوب الکليني رحمه اللّه عن اسحاق بن يعقوب عن محمد بن عثمان العمري، ان يرجع في معرفة الاحکام الشرعية الي رواة حديثهم (ع) ولو کان هناک طريق آخر للصلة المباشرة في الغيبة لنبه اليه فقال (ع): «واما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها الي رواة حديثنا فانهم حجتي عليکم، وانا حجة اللّه». سابعا: ان خروج هؤلاء الادعياء المدعين للمهدية والنبوة نفسه هو احدي العلامات التي تسبق ظهور الامام (ع)، فقد ورد في حديث عن رسول اللّه (ص) رواه الشيخ المفيدفي الارشاد قال فيه: «لا تقوم الساعة حتي يخرج المهدي (ع) من ولدي ولا يخرج المهدي (ع) حتي يخرج ستون کذابا کلهم يقول: انا نبي ». ثامنا: يکفي في تکذيبهم القاطع مع غض النظر عن کل ما قدمناه مناقضة ما صدر عنهم لکتاب اللّه (الذي لا ياتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه) ولثوابت السنة الشريفة فهما لا يفترقان حتي القيامة، کما جاء في حديث الثقلين.