ما الحکمة من ذلک
اذا کان المقصود بالسؤال عن الحکمة في ان يکون للعالم مهدي منتظر اصلا، وهو ما يقوله بعضهم، مع ما يحتفظ به من تراث الرسالات السماوية، بما فيها رسالة خاتم الانبياء محمد (ص) وما بينه ضمن آفاقها اوصياؤه الاثنا عشر من اهل البيت (ع) ومع ما وصل اليه بحث الانسان ونظره وتجاربه من انجازات فکرية وعلمية وتقنية...فالجواب:
اولا: ان نسال عما اذا کان ذلک کله قد انهي مشکلة الانسانية، وما عانته وتعانيه علي امتداد تاريخها من انحرافات فکرية، وفساد اخلاقي، ومن اختلافات، وحروب وظلم بکل ما يقع تحت هذا العنوان من عناوين وممارسات، وحين يکون الجواب کما يمليه الواقع في کل اقطار الارض وتحت کل قوانين اهلها: لا. وحين لا نامل ان نري وضعا مختلفا في المستقبل مهما طال.. فان الحکمة في ظهور المهدي المنتظر (ع) تصبح مفهومة. ثانيا: اننا مع الاعتراف بما حصلت عليه البشرية من تقدم في الاتجاه المشار اليه فان قوله تعالي: (وما اوتيتم من العلم الا قليلا) [الاسراء: 85]. سيظل حقيقة مطلقة بالنسبة للانسان، اي انه سيبقي جاهلا مهما حصل من العلم. وقد تحقق العلماء من ذلک بالفعل واعترفوا به بعد ادعاءات عريضة. واذا کان لا مجال لان تغني البشرية بحال عن هدي الهي بحجة للّه موصول به علما، بحکم ما يميزه به ابتداء من رتبة وجودية سامية من حيث المبدا والمعاد، فان الحکمة في الامام المهدي المنتظر (ع) تصبح مفهومة کذلک. ان عصر وصول الانسان من السعة في العلم الي الدرجة التي يکتشف فيها جهله ازاء اسرار الکون القائمة بخالقها سعة وعمقا وتعقيدا هو العصر المؤهل لظهور المهدي(ع) استلهاما لقوله سبحانه: (سنريهم آياتنا في الافاق، وفي انفسهم حتي يتبين لهم انه الحق) [فصلت: 53]. وهو، کما يبدو لي، بعض اسباب هذه الغيبة الطويلة... ان لانقياد العلماء من الشان عند الناس ما کان لانقياد سحرة فرعون من لاثر، اما ما وراؤهم من الناس فليسوا الا تبعا... وذلک لو حصل من اهم اسرار النصر الشامل لدي الظهور مضافا لما يحمله الامام (ع) من علم يخضع فيه له امثال هؤلاء العلماء... اما اذا کان السؤال عن الحکمة قد قصد به الحکمة في ان يکون هذا المهدي المنتظر بدوره المستقبلي العظيم المعروف کما صورته الروايات هو الامام الثاني عشر (ع)نفسه، من دون غيره ممن يمکن ان يولد في المستقبل؟ کما هو في النظرية الاخري. فقد تقدمت الاجابة عنه في السؤال الاول الذي جاء بهذه الصيغة نفسها، ولا حاجة لاعادة ذلک. واذا تمت تلک الاجابة... وهي في الحقيقة ليست الا تفسيرا لما وردت به الاحاديث المتواترة عن الرسول (ص) والائمة الاثنا عشر من اهل البيت (ع) من کون المهدي المنتظر هو الامام الثاني عشر (ع) نفسه لا غيره. فان بقاءه حتي القيام بذلک الدور يکون مفروضا، ولا معني للسؤال عن الکيفية في ما هو شان ومشيئة الهية. واذا قصد بالسؤال عن الحکمة الحکمة في الغيبة اصلا، او بهذا الطول، فالجواب کما قدمناه في الغيبة الصغري هو التقية بمعني معاداة الظرف للامام (ع) ليس بوصفه شخصا کما هو في الغيبة الصغري بل بوصفه صاحب رسالة... واذا کانت الظروف اللاحقة في علم اللّه بل وبملاحظة ما اشرنا اليه بالتحليل الموضوعي لا تختلف بشي ءفان الغيبة يجب ان تقع، وان تستمر هذه المدة. فالامام المهدي (ع) نفسه قد قضي، بين الناس، في غيبته النسبية الصغري، ما يعادل عمرا بشريا طبيعيا من دون ان يبلغ ضمن الظروف شيئا قياسا بما قدره اللّه له ووعده به بعد الغيبة الکبري. ان استمرار الغيبة وطولها من دون تقدير لمدي محدد او وقت معلوم من قبل المعصومين (ع) يفرضه انتظار ان يتمخض مسار العالم وتطوره عن الظرف المؤهل لاستقبال الامام (ع). ومن المعروف ان عوامل تقدير الظرف وحصوله تدخل فيه اسباب منها الاختيارات الانسانية في ما هو سلب وما هو ايجاب وفي طول العالم وعرضه، ولذلک فان من الممکن ان يتقدم او يتاخر طبقا لما يحدث من بداءات. ومما يدل علي صحة المضمون العام لبعض ما ورد في الاجابات السابقة ما هو معلوم من ان الرسول (ص) والائمة من اوصيائه الاثني عشر (ع) من بعده کانوا يريدون کماشاء اللّه طرح الحقائق الکونية ذات العلاقة بالانسان من حيث صلته باللّه، ومن حيث علاقته بالقوانين الکونية بما فيها تلک التي تتصل بالاثار الوضعية لفکره ونواياه وافعاله سلبا او ايجابا. ثم وضع الاطار الاخلاقي والتشريعي المنسجم مع هذه الحقائق لحياته الخاصة والعامة.. ولکنهم لم يجدوا في هذه المرحلة من الناس من يرتفع في مستوي ادراکه،واستيعابه وعلمه الي القدر الذي يمکن به بلوغ الغاية، وذلک طبيعي في مرحلة التاسيس في مثل ذلک العصر، ولذلک تضمن القرآن الکريم وسنة الرسول (ص) والائمة الاثني عشر الاوصياء من بعده مستويين في الطرح في ما لا يمکن تعقله وفهمه لدي الکثير من الناس بحکم المرحلة طرح عام وآخر خاص. ان طرح ما هو اعمق مما هي اللغة العامة والفکر العام ابتداء في رسالة عامة الا للخاصة مما ينافي الحکمة قطعا، ولذلک ورد عن الامام الصادق (ع) انه قال: لا واللّه ماکلم رسول اللّه العباد بکنه عقله قط، قال رسول اللّه (ص): «انا معاشر الانبياء امرنا ان نکلم الناس علي قدر عقولهم » وقال الامام علي (ع) في حديثه لکميل بن زياد: «ان هاهنا لعلما جما لو اصبت له حملة، بلي اصبت لقنا غير مامون عليه مستعملا آلة الدين للدنيا، ومستظهرا بنعم اللّه علي عباده، وبحججه علي اوليائه، او منقادالحملة الحق لا بصيرة له في احنائه ينقدح الشک في قلبه لاول عارض من شبهة ». ومثل ذلک ورد عن آخرين من ائمة اهل البيت (ع) ومما يؤيده ويشهد له ما نعرفه من نوع اسئلة الناس واشکالاتهم ومنازعاتهم ومستواها، بدءا من عصر الرسول (ص)حتي آخر اوصيائه (ع). لذلک کان لا بد وقد استکملت رکائز الرسالة الاسلامية نظريا خلال المراحل التاريخية لوجود الرسول (ص)، واوصيائه والتي امتداد اکثر من ثلاثة قرون من دون ان تبلغ الامة بها الغاية، او ما يقرب منها کان لا بد ان تقطع الصلة الظاهرية بالامام (ع) بصورتها المفتوحة والنسبية، لتتفاعل الامة ضمن السلب والايجاب مع الرسالة فکرا و معايشة و في الداخل والخارج حتي يتبلور الفهم الصحيح او الاقرب للصحة، وبذلک تنضج الظروف الموضوعية عبر مخاض طويل لظهور الامام (ع) ليس علي مستوي المسلمين فقط بل علي مستوي العالم. ولا شک في ان ذلک بطبيعة الحال يتطلب زمنا طويلا کما قلنا وهو ما انذرت به الروايات. وهناک امر آخر صرحت به کثير من الروايات، وهو ان ظهور الامام (ع) نذير بين يدي الساعة، فان رحمة اللّه بخلقه التي اوجبت ارسال الرسل من قبل هي التي اقتضت بعدختم النبوة بمحمد (ص) وانتقال احد عشر من اوصيائه (ع) الي الدار الاخرة ان يظل الثاني عشر من اوصيائه (ع) الحجة الباقية في الارض، وان يظهر قبيل الساعة بعدطول الامد وقسوة القلوب. ولذلک سمي ب«النذر الاکبر»، ومنحه اللّه من الايات ما يؤدي به هذه المهمة کصلاة المسيح خلفه واحتفافه بالملائکة وبداية البعث الجزئي المسمي بالرجعة في زمنه ک آية بين يدي البعثالشامل. وقد ذکر الشيخ المفيد رحمه اللّه انه بعد رحيل الامام (ع) باربعين يوما تقوم القيامة الکبري، واذا کان الامر کذلک فان القيامة مربوطة بتقديرات کونية کبري تتصل بالمجموعة الشمسية، فلا مجال للاخبار عنها لا يجليها لوقتها الا هو، لکنهم ذکروا علامات کلبوث الفلک وطول السنين وغير ذلک.