اقوال المفسرين
أغلب المفسرين من غير الاِمامية يمرون في تفاسيرهم بهذه الآية مروراً سريعاً، ويوجزون القول بکلمات معدودة، ويمکن إجمال حصيلة آرائهم في نقطتين:
[ صفحه 36]
الاَُولي: إنّها إخبار عن يوم القيامة [1] ، وبيان إجمالي لحال المکذبين عند قيام الساعة بعد بيان بعض مباديها [2] .
الثانية: إنّها من الاُمور الواقعة بعد قيام القيامة [3] ، وإنّ المراد بهذا الحشر هو الحشر للعذاب بعد الحشر الکلي الشامل لجميع الخلق [4] ، أي هو حشر بعد حشر.
وهذا الکلام لا يستند إلي أساس علمي، وترتيب الآيات وارتباطها ببعضها ينفيه کما أسلفنا، ولاَنَّ تفسير الحشر الاَول بيوم القيامة سيوقع التناقض في حقّ الله تعالي، فکيف يقول تعالي سنحشر من کلِّ أُمّة فوجاً يوم القيامة، وسنحشر الناس جميعاً يوم القيامة؟ قال ابن شهر آشوب: لاخلاف أنَّ الله يحيي الجملة يوم القيامة، فالفوج إنّما يکون في غير القيامة [5] .
يقول السيد الطباطبائي: لو کان المراد الحشر إلي العذاب، لزم ذکر هذه الغاية دفعاً للابهام، کما في قوله تعالي: (ويومَ نَحشرُ أعداءَ اللهِ إلي النَّارِ فهُم يُوزعُونَ حتي إذا ما جَاؤُها) [6] ، مع أنّه لم يذکر فيما بعد هذه الآية إلاّ العتاب والحکم الفصل دون العذاب، والآية کما تري مطلقة لم يشر فيها إلي شيءٍ يلوح إلي هذا الحشر الخاص المذکور، ويزيدها إطلاقاً قوله
[ صفحه 37]
بعدها: (حتي إذا جاءُوها) فلم يقل: حتي إذا جاءوا العذاب أو النار أو غيرها.
ويؤيد ذلک أيضاً وقوع الآية والآيتين بعدها بعد نبأ دابة الاَرض، وهي من أشراط الساعة، وقبل قوله: (ونُفِخَ في الصُّورِ) إلي آخر الآيات الواصفة لوقائع يوم القيامة، ولا معني لتقديم ذکر واقعة من وقائع يوم القيامة علي ذکر شروعه ووقوع عامة ما يقع فيه، فإنَّ الترتيب الوقوعي يقتضي ذکر حشر فوج من کلّ أُمّة لو کان من وقائع يوم القيامة بعد ذکر نفخ الصور وإتيانهم إليه داخرين.
وقد تنبّه لهذا الاِشکال بعض من حمل الآية علي الحشر يوم القيامة، فقال: لعل تقديم ذکر هذه الواقعة علي نفخ الصور ووقوع الواقعة للايذان بأنّ کلاً ممّا تضمّنه هذا وذاک من الاَحوال طامّة کبري وداهية دهياء، حقيقة بالتذکير علي حيالها، ولو روعي الترتيب الوقوعي لربّما توهّم أن الکل داهية واحدة.
قال: وأنت خبير بأنّه وجه مختلق غير مقنع، ولو کان کما ذکر لکان دفع توهّم کون الحشر المذکور في الآية في غير يوم القيامة بوضع الآية بعد آية نفخ الصور مع ذکر ما يرتفع به الاِبهام المذکور أولي بالرعاية من دفع هذا التوهّم الذي توهّمه.
فقد بان أنَّ الآية ظاهرة في کون هذا الحشر المذکور فيها قبل يوم القيامة [7] .
[ صفحه 38]
أمّا القائلون بالحشر الخاص بعد حشر يوم القيامة فهو رأي غريب لايستند إلي شيء من القرآن الکريم أو السُنّة المطهّرة الناطِقَينِ بوحدة يوم المعاد.
ثانياً: قوله تعالي: (وعدَ اللهُ الَّذينَ آمنُوا منکُم وعملُوا الصَّالِحاتِ ليستَخلِفَنَّهُم في الاَرضِ کما استخلفَ الذينَ من قبلِهِم ولُيمکِنَنَّ لهُم دينَهُم الذي ارتضي لهمُ وليُبَدِلَّنهُم مِن بعدِ خَوفِهِم أمناً يعبُدونَني لا يُشرِکُونَ بي شَيئاً) [8] .
روي الشيخ الکليني قدس سره بالاسناد عن عبدالله بن سنان، قال: سألت أبا عبدالله عليه السلام عن قول الله جل جلاله (وعدَ اللهُ الَّذينَ آمنُوا) الآية، فقال عليه السلام: «هم الاَئمة عليهم السلام» [9] .
وقال الطبرسي: المراد بالذين آمنوا وعملوا الصالحات النبي وأهل بيته عليهم السلام، وتضمّنت الآية البشارة لهم بالاستخلاف والتمکين في البلاد وارتفاع الخوف عنهم عند قيام المهدي عليه السلام منهم، ويکون المراد بقوله تعالي: (کما استخلفَ الذينَ من قبلِهِم) هو أن جعل الصالح للخلافة خليفة مثل آدم وداود وسليمان عليهم السلام، ويدلّ علي ذلک قوله تعالي: (إنّي جَاعِلٌ في الاَرضِ خليفةً) [10] وقوله (يا داود إنّا جعلناکَ خليفةً في الاَرضِ) [11] وقوله: (فقد آتينا آلَ إبراهيمَ الکتابَ والحکمةَ وآتيناهُ مُلکاً عظيماً) [12] .
[ صفحه 39]
قال: وعلي هذا إجماع العترة الطاهرة، وإجماعهم حجة لقوله صلي الله عليه وآله وسلم: «إنّي تارک فيکم الثقلين کتاب الله وعترتي أهل بيتي لن يفترقا حتي يردا عليَّ الحوض» وأيضاً فإنّ التمکين في الاَرض علي الاطلاق لم يتّفق فيما مضي فهو منتظر، لاَنّ الله عزَّ اسمه لا يخلف وعده [13] .
قال الحر العاملي قدس سره: وهذا أوضح تصريح في نقل الاجماع علي رجعة النبي والاَئمة عليهم السلام، ويظهر ذلک جلياً من ضمائر الجمع في الآية [14] ، ومن الافعال المستقبلة الکثيرة، ولفظ الاستخلاف والتمکين والخوف والاَمن والعبادة وغير ذلک من التصريحات والتلويحات التي لا تستقيم إلاّ في الرجعة [15] .
ثالثاً: قوله تعالي: (قَالُوا رَبنَا أمَّتنَا اثنَتينِ وأحييتَنَا اثنتينِ فاعتَرفنَا بِذُنُوبِنَا فَهَل إلي خُروجٍ مِنْ سَبِيلٍ) [16] .
قال الشيخ المفيد قدس سره: قال سبحانه مخبراً عمّن يحشر من الظالمين أنّه يقول يوم الحشر الاَکبر: (رَبنَا أمَّتنَا اثنَتينِ) الآية، وللعامة في هذه الآية تأويل مردود، وهو أن قالوا: إنَّ المعني بقوله تعالي: (رَبنَا أمَّتنَا اثنَتينِ) أنّه خلقهم أمواتاً بعد الحياة، وهذا باطل لا يجري علي لسان العرب، لاَنَّ الفعل لا يدخل إلاّ علي ما کان بغير الصفة التي انطوي اللفظ علي معناها، ومن خلقه الله مواتاً لا يقال إنّه أماته، وإنّما يدخل ذلک فيمن طرأ عليه
[ صفحه 40]
الموت بعد الحياة، کذلک لا يقال أحيا الله ميتاً، إلاّ أن يکون قبل إحيائه ميتاً، وهذا بيّن لمن تأمله.
وقد زعم بعضهم أنَّ المراد بقوله: (رَبنَا أمَّتنَا اثنَتينِ) الموتة التي تکون بعد حياتهم في القبور للمُساءلة، فتکون الاُولي قبل الاِقبار والثانية بعده، وهذا أيضاً باطل من وجه آخر، وهو أنَّ الحياة للمساءلة ليست للتکليف فيندم الاِنسان علي ما فاته في حياته، وندم القوم علي ما فاتهم في حياتهم المرتين يدلُّ علي أنّه لم يرد حياة المساءلة، لکنه أراد حياة الرجعة التي تکون لتکليفهم والندم علي تفريطهم فلا يفعلون ذلک فيندمون يوم العرض علي ما فاتهم من ذلک [17] .
إذن فالمراد بالموتتين موتة عند انتهاء آجالهم، والموتة الثانية بعد عودتهم إلي الحياة، وتفسير منکري الرجعة بأنَّ الموتة الثانية قبل خلقهم حين کانوا عدماً لا يستقيم، لاَنّ الموت لا يکون إلاّ للحي، ويلزم هذا وجودهم أحياء وهم في العدم، فلا يبقي إلاّ ما بيّناه للخروج من هذا التناقض.
رابعاً: قوله تعالي: (وأقسَمُوا باللهِ جَهدَ أيمانِهِم لا يبعثُ اللهُ من يَموتُ) إلي قوله تعالي: (ليُبيّنَ لهُم الذي يَختلِفُونَ فِيه وليعلمَ الذينَ کفروا أنَّهم کانُوا کاذِبين) [18] .
روي الشيخ الصدوق والکليني وعلي بن إبراهيم والعياشي وغيرهم
[ صفحه 41]
أنّها نزلت في الرجعة [19] ، ولا يخفي أنّها لا تستقيم في إنکار البعث، لاَنّهم ما کانوا يقسمون بالله بل کانوا يقسمون باللات والعزي، ولاَنّ التبيين إنّما يکون في الدنيا لا في الآخرة [20] .
خامساً: قوله تعالي: (کيفَ تکفُرونَ باللهِ وکُنتُم أمواتاً فأحياکُم ثُمَّ يُميتُکُم ثُمَّ يُحييکُم ثم إليه تُرجَعُونَ) [21] .
قال ابن شهرآشوب: (هذه الآية تدلُّ علي أنَّ بين رجعة الآخرة والموت حياة أُخري، ولا ينکر ذلک لاَنّه قد جري مثله في الزمن الاَول، قوله في قصة بني إسرائيل: (ألم ترَ إلي الذينَ خرجُوا من ديارِهم)، وقوله في قصة عزير أو أرميا: (أو کالذِي مرَّ علي قريةٍ)، وقوله في قصة إبراهيم: (ربِّ أرِني کيف تُحيي الموتي)) [22] .
وقال الشيخ الحر العاملي: وجه الاستدلال بهذه الآية أنّه أثبت الاِحياء مرتين، ثم قال بعدها (ثُمَّ إليهِ تُرجعُونَ) والمراد به القيامة قطعاً، والعطف ـ خصوصاً بثمّ ـ ظاهر في المغايرة، فالاِحياء الثاني إما في الرجعة أو نظير لها، وبالجملة ففيها دلالة علي وقوع الاِحياء قبل القيامة [23] .
سادساً: قوله تعالي: (ونُريدُ أن نَمُنَّ علي الَّذينَ استُضعفُوا في الاَرض
[ صفحه 42]
ونَجعَلَهُم أئمةً ونجعلهُم الوارِثينَ) إلي قوله تعالي: (ما کانُوا يَحذَرُون) [24] .
روي الشيخ الکليني والصدوق بالاسناد عن الباقر والصادق عليهما السلام: «أنّ المراد بالذين استضعفوا هم الاَئمة من أهل البيت عليهم السلام وأنَّ هذه الآية جارية فيهم عليهم السلام إلي يوم القيامة» [25] .
وروي السيد الرضي قدس سره بالاسناد عن الصادق عليه السلام، قال: «قال أمير المؤمنين عليه السلام: لتعطفنَّ علينا الدنيا بعد شماسها عطف الضروس علي ولدها، ثم تلا قوله تعالي: (ونُريدُ أن نَمُنَّ علي الَّذينَ استُضعفُوا)» [26] ، وفي روايات عديدة أنَّ ذلک يکون إذا رجعوا إلي الدنيا وقتلوا أعداءهم وملکوا الاَرض [27] .
قال الحر العاملي: وهذه الآية تدلُّ علي أنَّ المنّ علي الجماعة المذکورين وجعلهم أئمة وارثين والتمکين لهم في الاَرض وحذر أعدائهم منهم، کلّه بعدما استضعفوا في الاَرض، وهل يتصور لذلک مصداق إلاّ الرجعة، وهل يجوز التصدي لتأويلها وصرفها عن ظاهرها ودليلها بغير قرينة، وضمائر الجمع وألفاظه في المواضع الثمانية يتعين حملها علي الحقيقة، ولا يجوز صرفها إلي تأويل بعيد ولا قريب، إلاّ أن يخرج الناظر فيها عن الانصاف ويکذّب الاَحاديث الکثيرة المتواترة في تفسير الآية
[ صفحه 43]
بالرجعة [28] .
سابعاً: قوله تعالي: (وحرامٌ علي قريةٍ أهلَکنَاها أنَهُم لا يرجِعُونَ) [29] .
روي علي بن إبراهيم والطبرسي وغيرهما بالاسناد عن الاِمام الصادق عليه السلام قال: «کلُّ قرية أهلک الله أهلها بالعذاب لا يرجعون في الرجعة، وأمّا في القيامة فيرجعون، ومن محض الاِيمان محضاً وغيرهم ممن لم يهلکوا بالعذاب، ومحضوا الکفر محضاً يرجعون» [30] وهذه الآية أوضح دلالة علي الرجعة، لاَنّ أحداً من أهل الاِسلام لا ينکر أنّ الناس کلهم يرجعون إلي القيامة، من هلک ومن لم يهلک، فقوله: (لا يَرجِعُونَ) يعني في الرجعة، فأما إلي القيامة فيرجعون حتي يدخلوا النار [31] .
ثامناً: قوله تعالي: (إنّا لَنَنصُرُ رُسُلَنا والَّذِينَ آمنُوا في الحياةِ الدُنيا ويومَ يقُومُ الاَشهادُ) [32] .
روي عن الاِمام الباقر والصادق عليهما السلام من عدّة طرق «أنّ هذا النصر يکون في الرجعة، ذلک لاَنَّ کثيراً من الاَنبياء والاَوصياء قُتِلوا وظُلمِوا ولم ينصروا، وأنّ الله لا يخلف الميعاد» [33] .
[ صفحه 44]
وسئل الشيخ المفيد قدس سره في المسائل الحاجبية عن هذه الآية، حيثُ قيل له: في هذه الآية تأکيد، فقد أوجب تعالي بأنّه ينصرهم في الحالين جميعاً في الدنيا والآخرة، وهذا الحسين بن علي عليهما السلام حجة الله قتل مظلوماً فلم ينصره أحد؟
فأجاب الشيخ المفيد قدس سره بوجوه، إلي أن قال: وقد قالت الاِمامية أنَّ الله تعالي ينجز الوعد بالنصر للاَولياء قبل الآخرة عند قيام القائم عليه السلام والکرة التي وعد بها المؤمنين، وهذا لا يمنع من تمام الظلم عليهم حيناً مع النصر لهم في العاقبة [34] .
پاورقي
[1] تفسير ابن کثير 3: 388. وتفسير البيضاوي 2: 183.
[2] روح المعاني 20: 26.
[3] تفسير الرازي 24: 218.
[4] روح البيان، للبروسوي 6: 373.
[5] متشابه القرآن 2: 97.
[6] سورة فصلت 41: 19.
[7] الميزان، للطباطبائي 15: 397.
[8] سورة النور 24: 55.
[9] الکافي 1: 150: 3.
[10] سورة البقرة 2: 30.
[11] سورة ص 38: 26.
[12] سورة النساء 4: 54.
[13] مجمع البيان، للطبرسي 7: 239.
[14] الايقاظ من الهجعة، للحر العاملي: 38.
[15] المصدر السابق: 74.
[16] سورة غافر 40: 11.
[17] المسائل السروية: 33.
[18] سورة النحل 16: 38 ـ 39.
[19] الکافي 8: 50: 14. وتفسير القمي 1: 385. وتفسير العياشي 2: 259: 26. والاعتقادات، للصدوق: 62.
[20] الايقاظ من الهجعة، للعاملي: 76.
[21] سورة البقرة 2: 28.
[22] متشابه القرآن 2: 97. والآيات من سورة البقرة 2: 243 و 259 و 260 علي التوالي.
[23] الايقاظ من الهجعة، للحر العاملي 8: 84.
[24] سورة القصص 28: 5 ـ 6.
[25] الکافي، للکليني 1: 243: 1. ومعاني الاَخبار، للصدوق: 79.
[26] خصائص الاَئمة، للسيد الرضي: 70 مجمع البحوث الاِسلامية ـ مشهد.
[27] تفسير القمي 1: 25 و 106 و 2: 297. ومختصر بصائر الدرجات، للحسن بن سليمان: 42 و 46 و 167. والرجعة، للاسترآبادي: 129 دار الاعتصام.
[28] الايقاظ من الهجعة، للحر العاملي: 75.
[29] سورة الانبياء 21: 95.
[30] تفسير القمي 1: 24. ومختصر بصائر الدرجات، للحسن بن سليمان: 41. وبحار الاَنوار، للمجلسي 53: 60: 49. والايقاظ من الهجعة، للحر العاملي: 89.
[31] بحار الاَنوار 53: 52: 29.
[32] سورة غافر 40: 51.
[33] تفسير القمي 2: 258. ومختصر بصائر الدرجات، للحسن بن سليمان: 45. وکامل الزيارات، لابن قولويه: 63: 3.
[34] المسائل الحاجبية: 74.