بازگشت

کيف اکتمل اعداد القائد المنتظر؟


ونأتي الآن علي السؤال الثالث القائل: کيف اکتمل إعداد القائد المنتظر مع أنه لم يعاصر أباه الإمام العسکري إلاّ خمس سنوات تقريباً؟ وهي فترة الطفولة التي لا تکفي لإنضاج شخصية القائد، فما هي الظروف التي تکامل من خلالها؟

والجواب: إنّ المهديّ (ع) خلف أباه في إمامة المسلمين، وهذا يعني أنه کان إماماً بکلّ ما في الإمامة من محتويً فکري وروحي في وقت مبکر جداً من حياته الشريفة.

والإمامة المبکّرة ظاهرة سبقهُ إليها عددٌ من آبائه (ع)، فالإمام محمد بن علي الجواد (ع) تولّي الإمامة وهو في الثامنة من عمره [1] ، والإمام علي بن محمد الهادي تولّي الإمامة وهو في التاسعة من عمره [2] ، والإمام أبو محمد الحسن العسکري [3] والد القائد المنتظر تولّي الإمامة وهو في الثانية والعشرين من عمره، ويلاحظ أنّ ظاهرة الإمامة المبکّرة بلغت ذروتها في الإمام المهديّ والإمام الجواد، ونحن نسمّيها ظاهرة لأنها کانت بالنسبة إلي عدد من آباء المهديّ (ع) تشکّل مدلولاً حسيّاً عملياً عاشه المسلمون، ووعوه في تجربتهم مع الإمام بشکل وآخر، ولا يمکن أن نُطالب بإثبات لظاهرة من الظواهر أوضح وأقوي من تجربة أُمّة. [4] ونوضح ذلک ضمن النقاط التالية:

أ - لم تکن إمامة الإمام من أهل البيت مرکزاً من مراکز السلطان والنفوذ التي تنتقل بالوراثة من الأب إلي الابن، ويدعمها النظام الحاکم کإمامة الخلفاء الفاطميّين، وخلافة الخلفاء العباسيّين، وإنما کانت تکتسب ولاء قواعدها الشعبية الواسعة عن طريق التغلغل الروحي، والإقناع الفکري لتلک القواعد بجدارة هذه الإمامة لزعامة الإسلام، وقيادته علي أُسس روحية وفکرية.

ب - إنّ هذه القواعد الشعبية بنيت منذ صدر الإسلام، وازدهرت واتّسعت علي عهد الإمامين الباقر والصادق (ع)، وأصبحت المدرسة التي رعاها هذان الإمامان في داخل هذه القواعد تشکّل تيّاراً فکرياً واسعاً في العالم الإسلامي، يضم المئات من الفقهاء والمتکلّمين والمفسّرين والعلماء في مختلف ضروب المعرفة الإسلامية والبشرية المعروفة وقتئذ، حتي قال الحسن بن عليّ الوشا: إنّي دخلت مسجد الکوفة فرأيت فيه تسعمئة شيخ، [5] کلّهم يقولون حدّثنا جعفر بن محمد.

ج - إنّ الشروط التي کانت هذه المدرسة وما تُمثّله من قواعد شعبيّة في المجتمع الإسلامي، تؤمن بها وتتقيّد بموجبها في تعيين الإمام والتعرّف علي کفاءته للإمامة، شروط شديدة لأنها تؤمن بأنّ الإمام لا يکون إماماً إلاّ إذا کان أعلم علماء عصره. [6] .

د - إنّ المدرسة وقواعدها الشعبية کانت تقدم تضحيات کبيرة في سبيل الصمود علي عقيدتها في الإمامة لأنها کانت في نظر الخلافة المعاصرة لها تشکّل خطّاً عدائياً، ولو من الناحية الفکرية علي الأقل، الأمر الذي أدّي إلي قيام السلطات وقتئذ وباستمرار تقريباً بحملات من التصفية والتعذيب، فقُتل من قُتل، وسُجن من سُجن، ومات في ظلمات المعتقلات المئات. وهذا يعني أنّ الاعتقاد بإمامة أئمّة أهل البيت کان يکلّفهم غالياً، [7] ولم يکن له من الإغراءات سوي ما يحسّ به المعتقد أو يفترضه من التقرّب إلي الله تعالي والزلفي عنده.

هـ - إنّ الأئمّة الذين دانت هذه القواعد لهم بالإمامة لم يکونوا معزولين عنها، ولا متقوقعين في بروج عالية شأن السلاطين مع شعوبهم، ولم يکونوا يحتجبون عنهم إلاّ أن تحجبهم السلطة الحاکمة بسجن أو نفي، وهذا ما نعرفه من خلال العدد الکبير من الرواة والمحدّثين عن کلّ واحد من الأئمّة الأحد عشر، ومن خلال ما نقل من المکاتبات التي کانت تحصل بين الإمام ومعاصريه، وما کان الإمام يقوم به من أسفار من ناحية، وما کان يبثّه من وکلاء في مختلف أنحاء العالم الإسلامي من ناحية أخري، وما کان قد اعتاده الشيعة من تفقّد أئمّتهم وزيارتهم في المدينة المنوّرة عندما يؤمّون الديار المقدّسة من کلّ مکان لأداء فريضة الحجّ، [8] کلّ ذلک يفرض تفاعلاً مستمراً بدرجة واضحة بين الإمام وقواعده الممتدّة في أرجاء العالم الإسلامي بمختلف طبقاتها من العلماء وغيرهم.

و - إنّ الخلافة المعاصرة للأئمّة (ع) کانت تنظر إليهم وإلي زعامتهم الروحية والإمامية بوصفها مصدر خطر کبير علي کيانها ومقدّراتها، وعلي هذا الأساس بذلت کلّ جهودها في سبيل تفتيت هذه الزعامة، وتحمّلت في سبيل ذلک کثيراً من السلبيّات، وظهرت أحياناً بمظاهر القسوة والطغيان حينما اضطرّها تأمين مواقعها إلي ذلک، وکانت حملات الاعتقال والمطاردة مستمرّة للأئمّة [9] أنفسهم علي الرغم ممّا يخلّفه ذلک من شعور بالألم أو الاشمئزاز عند المسلمين وللناس الموالين علي اختلاف درجاتهم.

إذا أخذنا هذه النقاط الست بعين الاعتبار، وهي حقائق تاريخية لا تقبل الشکّ، أمکن أن نخرج بنتيجة، وهي: أنّ ظاهرة الإمامة المبکّرة کانت ظاهرة واقعية ولم تکن وهماً من الأوهام لأنّ الإمام الذي يبرز علي المسرح وهو صغير فيعلن عن نفسه إماماً روحيّاً وفکريّاً للمسلمين، ويدين له بالولاء والإمامة کلّ ذلک التيّار الواسع، لا بدّ أن يکون علي قدر واضح وملحوظ، بل وکبير من العلم والمعرفة وسعة الأفق والتمکّن من الفقه والتفسير والعقائد لأنه لو لم يکن کذلک لما أمکن أن تقتنع تلک القواعد الشعبية بإمامته، مع ما تقدم من أنّ الأئمّة کانوا في مواقع تتيح لقواعدهم التفاعل معهم، وللأضواء المختلفة أن تُسلّط علي حياتهم وموازين شخصيّتهم. فهل تري أنّ صبيّاً يدعو إلي إمامة نفسه وينصّب منها علماً للإسلام وهو علي مرأيً ومسمع من جماهير قواعده الشعبية، فتؤمن به وتبذل في سبيل ذلک الغالي من أمنها وحياتها بدون أن تکلّف نفسها اکتشاف حاله، وبدون أن تهزّها ظاهرة هذه الإمامة المبکّرة لاستطلاع حقيقة الموقف وتقويم هذا الصبيّ الإمام؟ [10] وهب أنّ الناس لم يتحرکوا لاستطلاع المواقف، فهل يمکن أن تمرّ المسألة أيّاماً وشهوراً، بل أعواماً دون أن تتکشّف الحقيقة، علي الرغم من التفاعل الطبيعي المستمرّ بين الصبيّ الإمام وسائر الناس؟ وهل من المعقول أن يکون صبيّاً في فکره وعلمه حقّاً، ثمّ لا يبدو ذلک من خلال هذا التفاعل الطويل؟

وإذا افترضنا أنّ القواعد الشعبية لإمامة أهل البيت لم يُتح لها أن تکتشف واقع الأمر، فلماذا سکتت الخلافة القائمة ولم تعمل لکشف الحقيقة إذا کانت في صالحها؟ وما کان أيسر ذلک علي السلطة القائمة لو کان الإمام الصبيّ صبيّاً في فکره و ثقافته کما هو المعهود في الصبيان، وما کان أنجحه من أسلوب أن تقدّم هذا الصبي إلي شيعته وغير شيعته علي حقيقته، وتبرهن علي عدم کفاءته للإمامة والزعامة الروحيّة والفکرية. فلئن کان من الصعب الإقناع بعدم کفاءة شخص في الأربعين أو الخمسين قد أحاط بقدر کبير من ثقافة عصره لتسلّم الإمامة، فليس هناک صعوبة في الإقناع بعدم کفاءة صبيّ اعتيادي مهما کان ذکيّاً وفطناً للإمامة بمعناها الذي يعرفه الشيعة الإماميون، [11] وکان هذا أسهل وأيسر من الطرق المعقّدة وأساليب القمع، والمجازفة التي انتهجتها السلطات وقتئذ.

إنّ التفسير الوحيد لسکوت الخلافة المعاصرة عن اللعب بهذه الورقة، [12] هو أنها أدرکت أنّ الإمامة المبکّرة ظاهرة حقيقيّة وليست شيئاً مصطنعاً.

والحقيقة أنها أدرکت ذلک بالفعل بعد أن حاولت أن تلعب بتلک الورقة فلم تستطع، والتأريخ يحدّثنا عن محاولات من هذا القبيل وفشلها، [13] بينما لم يحدّثنا إطلاقاً عن موقف تزعزعت فيه ظاهرة الإمامة المبکّرة أو واجه فيه الصبيّ الإمام إحراجاً يفوق قدرته أو يزعزع ثقة الناس فيه.

وهذا معني ما قلناه من أنّ الإمامة المبکّرة ظاهرة واقعية في حياة أهل البيت وليست مجرّد افتراض، کما أنّ هذه الظاهرة الواقعية لها جذورها وحالاتها المماثلة في تراث السماء الذي امتدّ عبر الرسالات والزعامات الربّانيّة

ويکفي مثالاً لظاهرة الإمامة المبکّرة في التراث الربّاني لأهل البيت (ع) يحيي (ع) إذ قال الله سبحانه وتعالي: (يا يحيي خذ الکتاب بقوّة وآتيناه الحکم صياً)مريم: 12.

ومتي ثبت أنّ الإمامة المبکّرة ظاهرة واقعية ومتواجدة فعلاً في حياة أهل البيت لم يعد هناک اعتراض فيما يخصّ إمامة المهديّ (ع) وخلافته لأبيه وهو صغير. [14] .


پاورقي

[1] راجع: الفصول المهمّة لابن الصباغ المالکيّ المکّيّ (ت / 855 هـ). وراجع: الإرشاد / الشيخ المفيد: ص 316 وما بعدها.

[2] راجع: التتمّة في تواريخ الأئمّة / السيد تاج الدين العاملي من أعلام القرن الحادي عشر الهجري، نشر مؤسّسة البعثة - قم. وراجع: الصواعق المحرقة لابن حجر: ص 123 ـ 124، إذ ذکر طرفاً من سيرة الإمام وکراماته.

[3] راجع: التتمّة في تواريخ الأئمّة / السيد تاج الدين العاملي من أعلام القرن الحادي عشر الهجري، نشر مؤسسة البعثة ـ قم. وراجع: الصواعق المحرقة لابن حجر: ص 123 ـ 124، إذ ذکر طرفاً من سيرة الإمام وکراماته.

[4] راجع: الإرشاد / الشيخ المفيد: ص 319 وما بعدها. والصواعق المحرقة: ص 123 ـ 124.

فقد أوردا قصة المحاورة التي دارت بين الإمام الجواد (ع) ويحيي بن أکثم زمن المأمون، وکيف استطاع الإمام (ع) أن يثبت أعلميّته وقدرته علي إفحام الخصم وهو في تلک السن المبکّرة.

[5] راجع: المجالس السنيّة / السيد الأمين العاملي 5: 209، وهذه قضية مشهورة تناقلها الخاص والعام. وراجع: صحاح الأخبار / محمد سراج الدين الرفاعي: ص 44، نقلاً عن الإمام الصادق والمذاهب الأربعة / أسد حيدر 1: 56. وقال ابن حجر في الصواعق المحرقة ص 120: جعفر الصادق، نقل الناس عنه من العلوم ما سارت به الرکبان، وانتشر صيته في جميع البلدان، وروي عنه الأئمّة الأکابر کيحيي بن سعيد وابن جريج ومالک والسفيانين وأبي حنيفة وشعبة وأيوب السختياني....

[6] کون الإمام أعلم أهل زمانه أمرٌ متسالم عليه عند الإمامية. راجع: الباب الحادي عشر / العلاّمة الحلّيّ، هذا وقد عُرّضوا لأکثر من اختبار صلوات الله وسلامه عليهم لإثبات هذا المدّعي، ونجحوا فيه.

راجع: الصواعق المحرقة لابن حجر: ص 123، فقد نقل تفصيلاً في هذه المسألة عن مسائل يحيي بن أکثم للإمام الجواد (ع).

[7] إنّ الاعتقاد بإمامة الأئمّة کلّف أتباعهم غالياً، وهذا ثابت تاريخياً، وليس إلي إنکاره من سبيل، والشاهد يدلّ علي الغائب أيضاً. راجع: مقاتل الطالبيّين لأبي الفرج الأصفهاني.

[8] وقد أوصي الأئمّة بذلک أتباعهم کما هو لسان الروايات الکثيرة.

راجع: أصول الکافي 1: 322 / کتاب الحجّة - باب 2 إنّ الواجب علي الناس بعدما يقضون مناسکهم أن يأتوا الإمام فيسألونه عن معالم دينهم، ويعلمونه ولايتهم ومودّتهم له.

55 - راجع في تاريخ الأئمة (ع)، وتعرّضهم للاضطهاد والمطاردة والسجن والقتل أحياناً:

أ ـ الفصول المهمّة لابن الصبّاغ المالکي.

ب ـ مقاتل الطالبيّين لأبي الفرج الأصفهاني.

ج ـ الإرشاد للشيخ المفيد.

[9] إشارة إلي الإمام المهديّ (ع)، ومن قبل إلي الإمام الجواد مثلاً.

[10] أي علي أنه يجب أن يکون أفضل الناس، وأعلم الناس کما هو معتقد الإماميّة الاثني عشريّة.

راجع: حقّ اليقين في معرفة أُصول الدين للسيد عبدالله شُبّر (ت / 1242 هـ) 1: 141، المقصد الثالث.

[11] يقصد تقديم الإمام الصبيّ للاختبار أمام الملأ لإظهار حقيقة الأمر.

[12] قد فعل المأمون ذلک، وانکشف لدي الخاصّ من العلماء مدي ما يمتلکه الإمام الجواد (ع) من الفقه والعلم. راجع: الصواعق المحرقة لابن حجر: ص 123.

[13] وقد شاهد خاصّة الشيعة الإمام المهديّ واتّصلوا به، وأخذوا عنه، کما حصل عن طريق السفراء الأربعة. راجع: تبصرة الولي فيمن رأي القائم المهديّ / البحراني، والإرشاد / الشيخ المفيد: ص 345، وراجع تفصيلاً وافياً في دفاع عن الکافي / السيد ثامر العميدي 1: 535 وما بعدها.

[14] وقد شاهد خاصّة الشيعة الإمام المهديّ واتّصلوا به، وأخذوا عنه، کما حصل عن طريق السفراء الأربعة. راجع: تبصرة الولي فيمن رأي القائم المهديّ / البحراني، والإرشاد / الشيخ المفيد: ص 345، وراجع تفصيلاً وافياً في دفاع عن الکافي / السيد ثامر العميدي 1: 535 وما بعدها.