بازگشت

لماذا کل هذا الحرص علي إطالة عمره؟


ونتناول الآن السؤال الثاني، وهو يقول:

لماذ کلّ هذا الحرص من الله سبحانه وتعالي علي هذا الإنسان بالذات، فتعطّل من أجله القوانين الطبيعية لإطالة عمره؟ ولماذا لا تترک قيادة اليوم الموعود لشخص يتمخّض عنه المستقبل، وتنضجه إرهاصات اليوم الموعود فيبرز علي الساحة ويمارس دوره المنتظر.

وبکلمة أخري: ما هي فائدة هذه الغيبة الطويلة وما المبرّر لها؟

وکثير من الناس يسألون هذا السؤال وهم لا يريدون أن يسمعوا جواباً غيبياً، فنحن نؤمن بأنّ الأئمّة الاثني عشر مجموعة فريدة [1] لا يمکن التعويض عن أي واحد منهم، غير أنّ هؤلاء المتسائلين يطالبون بتفسير اجتماعي للموقف، علي ضوء الحقائق المحسوسة لعملية التغيير الکبري نفسها والمتطلّبات المفهومة لليوم الموعود.

وعلي هذا الأساس نقطع النظر مؤقّتاً عن الخصائص التي نؤمن بتوفّرها في هؤلاء الأئمّة المعصومين، [2] ونطرح السؤال التالي:

إننا بالنسبة إلي عملية التغيير المرتقبة في اليوم الموعود، بقدر ما تکون مفهومة علي ضوء سنن الحياة وتجاربها، هل يمکن أن نعتبر هذا العمر الطويل لقائدها المدّخر عاملاً من عوامل إنجاحها، وتمکّنه من ممارستها وقيادتها بدرجة أکبر؟

ونجيب عن ذلک بالإيجاب، وذلک لعدة أسباب منها ما يلي:

إنّ عملية التغيير الکبري تتطلّب وضعاً نفسياً فريداً في القائد الممارس لها، مشحوناً بالشعور... بالتفوّق والإحساس بضآلة الکيانات الشامخة التي أعدّ للقضاء عليها، وتحويلها حضاريّاً إلي عالم جديد.

فبقدر ما يعمر قلب القائد المغيّر من شعور بتفاهة الحضارة التي يصارعها، وإحساس واضح بأنها مجرّد نقطة علي الخط الطويل لحضارة الإنسان، يصبح أکثر قدرة من الناحية النفسية [3] علي مواجهتها والصمود في وجهها ومواصلة العمل ضدّها حتي النصر. ومن الواضح أنّ الحجم المطلوب من هذا الشعور النفسي يتناسب مع حجم التغيير نفسه، وما يراد القضاء عليه من حضارة وکيان، فکلما کانت المواجهة لکيان أکبر ولحضارة أرسخ وأشمخ، تطلّب زخماً أکبر من هذا الشعور النفسي المفعم.

ولما کانت رسالة اليوم الموعود تغيير عالم مليء بالظلم وبالجور، تغييراً شاملاً بکلّ قيمه الحضارية وکياناته المتنوّعة، فمن الطبيعي أن تفتش هذه الرسالة عن شخص أکبر في شعوره النفسي من ذلک العالم کله، عن شخص ليس من مواليد ذلک العالم الذين نشأوا في ظل تلک الحضارة التي يراد تقويضها واستبدال حضارة العدل والحق بها لأنّ من ينشأ في ظل حضارة راسخة، تعمر الدنيا بسلطانها وقيمها وأفکارها، يعيش في نفسه الشعور بالهيبة تجاهها لأنّه ولد وهي قائمة، ونشأ صغيراً وهي جبّارة، وفتح عينيه علي الدنيا فلم يجد سوي أو جهها المختلفة.

وخلافاً لذلک، شخص يتوغّل في التاريخ عاش الدنيا قبل أن تري تلک الحضارة النور، ورأي الحضارات الکبيرة سادت العالم الواحدة تلو الأخري ثمّ تداعت وانهارت، [4] رأي ذلک بعينيه ولم يقرأه في کتاب تاريخ..

ثمّ رأي الحضارة التي يقدّر لها أن تکوّن الفصل الأخير من قصة الإنسان قبل اليوم الموعود، رآها وهي بذور صغيرة لا تکاد تتبيّن..

ثمّ شاهدها وقد اتّخذت مواقعها في أحشاء المجتمع البشري تتربّص الفرصة لکي تنمو وتظهر..

ثمّ عاصرها وقد بدأت تنمو وتزحف وتصاب بالنکسة تارة، ويحالفها التوفيق تارة أخري..

ثمّ واکبها وهي تزدهر وتتعملق وتسيطر بالتدريج علي مقدّرات عالم بکامله، فإنّ شخصاً من هذا القبيل عاش کلّ هذه المراحل بفطنة وانتباه کاملين، ينظر إلي هذا العملاق - الذي يريد أن يصارعه - من زاوية ذلک الامتداد التاريخي الطويل الذي عاشه بحسّه، لا في بطون کتب التاريخ فحسب، ينظر إليه لا بوصفه قدراً محتوماً، ولا کما کان ينظر (جان جاک روسو) [5] إلي الملکيّة في فرنسا، فقد جاء عنه أنه کان يرعبه مجرّد أن يتصوّر فرنسا بدون ملک، علي الرغم من کونه من الدعاة الکبار فکريّاً وفلسفيّاً إلي تطوير الوضع السياسي القائم وقتئذ لأنّ (روسو) هذا نشأ في ظل الملکيّة، وتنفس هواءها طيلة حياته، وأما هذا الشخص المتوغّل في التاريخ، فله هيبة التاريخ، وقوّة التاريخ، والشعور المفعم

بأنّ ما حوله من کيان وحضارة وليد يوم من أيام التاريخ، تهيّأت له الأسباب فوجد، وستتهيأ الأسباب فيزول، فلا يبقي منه شيء کما لم يکن يوجد منه شيء بالأمس القريب أو البعيد، وأنّ الأعمار التاريخية للحضارات والکيانات مهما طالت فهي ليست إلاّ أياماً قصيرة في عمر التاريخ الطويل.

هل قرأت سورة الکهف؟

وهل قرأت عن أولئک الفتية الذين آمنوا بربّهم وزادهم الله هديً؟ [6] وواجهوا کياناً وثنيّاً حاکماً، لا يرحم ولا يتردّد في خنق أي بذرة من بذور التوحيد والارتفاع عن وحدة الشرک، فضاقت نفوسهم ودبّ إليها اليأس وسدّت منافذ الأمل أمام أعينهم، ولجأوا إلي الکهف يطلبون من الله حلاً لمشکلتهم بعد أن أعيتهم الحلول، وکبر في نفوسهم أن يظل الباطل يحکم ويظلم ويقهر الحقّ ويصفّي کلّ من يخفق قلبه للحقّ.

هل تعلم ماذا صنع الله تعالي بهم؟

إنه أنامهم ثلاثمئة سنة وتسع سنين [7] في ذلک الکهف، ثمّ بعثهم من نومهم ودفع بهم إلي مسرح الحياة، بعد أن کان ذلک الکيان الذي بهرهم بقوّته وظلمه قد تداعي وسقط، وأصبح تاريخاً لا يرعب أحداً ولا يحرّک ساکناً، کلّ ذلک لکي يشهد هؤلاء الفتية مصرع ذلک الباطل الذي کبر عليهم امتداده وقوّته واستمراره، ويروا انتهاء أمره بأعينهم ويتصاغر الباطل في نفوسهم.

ولئن تحقّقت لأصحاب الکهف هذه الرؤية الواضحة بکلّ ما تحمل من زخم وشموخ نفسيّين من خلال ذلک الحدث الفريد الذي مدّد حياتهم ثلاثمئة سنة، فإنّ الشيء نفسه يتحقّق للقائد المنتظر من خلال عمره المديد الذي يتيح له أن يشهد العملاق وهو قزم، والشجرة الباسقة وهي بذرة، والإعصار وهو مجرد نسمة. [8] .

أضف إلي ذلک، أن التجربة التي تتيحها مواکبة تلک الحضارات المتعاقبة، والمواجهة المباشرة لحرکتها وتطوّراتها لها أثر کبير في الإعداد الفکري وتعميق الخبرة القيادية لليوم الموعود لأنها تضع الشخص المدّخر أمام ممارسات کثيرة للآخرين بکلّ ما فيها من نقاط الضعف والقوة، ومن ألوان الخطأ والصواب، وتعطي لهذا الشخص قدرة أکبر علي تقويم الظواهر الاجتماعية بالوعي الکامل علي أسبابها، وکلّ ملابساتها التاريخية.

ثمّ إنّ عملية التغيير المدّخرة للقائد المنتظر تقوم علي أساس رسالة معينة هي رسالة الإسلام، ومن الطبيعي أن تتطلب العملية في هذه الحالة قائداً قريباً من مصادر الإسلام الأولي، قد بنيت شخصيّته بناءً کاملاً بصورة مستقلة ومنفصلة عن مؤثرات الحضاره التي يقدّر لليوم الموعود أن يحاربها.

وخلافاً لذلک، الشخص الذي يولد وينشأ في کنف هذه الحضارة وتتفتّح أفکاره ومشاعره في إطارها، فإنّه لا يتخلّص غالباً من رواسب تلک الحضارة ومرتکزاتها، وإن قاد حملة تغييريّة ضدها.

فلکي يضمن عدم تأثر القائد المدّخر بالحضارة التي أعدّ لاستبدالها، لابدّ أن تکون شخصيته قد بنيت بناءً کاملاً في مرحلة حضارية سابقة هي أقرب ما تکون في الروح العامة ومن ناحية المبدأ إلي الحالة الحضارية التي يتجّه اليوم الموعود إلي تحقيقها بقيادته. [9] .


پاورقي

[1] إشارة إلي معتقد الإماميّة الاثني عشريّة المستند إلي أدلة المعقول والمنقول، وبالأخص إلي حديث الثقلين المتواتر «إني ترکت فيکم ما إن تمسّکتم بهما لن تضلوا بعدي أبداً، کتاب الله وعترتي أهل بيتي». راجع: صحيح مسلم 4: 1874 وراجع الصواعق المحرقة لابن حجر: ص 89، قال: ثمّ اعلم أنّ لحديث التمسّک بذلک طرقاً کثيرة وردت عن نيّف وعشرين صحابيّاً.

وکذلک إلي قوله (ص):«لن يفترقا حتي يردا عليّ الحوض...»، وإلي قوله (ص): «الخلفاء بعدي اثنا عشر کلهم من قريش». ومفاد ذلک کلّه تقرير هذا المعني.

[2] تحدّث النبيّ الأکرم محمد (ص) کثيراً عن خصائصهم وأدوارهم، ووظيفتهم ومهمّاتهم، وأنهم حملة الشريعة، وسفن النجاة، وأمان الأمّة، وعصمتها من الضلال، کما إليه الإشارة في حديث الثقلين، وحديث لن يفترقا، وکلاهما يؤکّدان عصمتهم، إذ لا يعقل أنهم عصمة الأمّة من الضلال، وأنهم لن يفترقا عن القرآن المعصوم، وهم غير معصومين!!

راجع في هذا المطلب: الأصول العامّة للفقه المقارن / العلاّمة محمد تقي الحکيم / مبحث حجّية السنّة: ص 169 وما بعدها.

[3] أن يکون القائد التاريخي مهيّئاً نفسياً ومعدّاً إعداداً مناسباً لأداء المهمة، أمرٌ مفروغ منه، ولو رجعنا إلي القرآن الکريم لوجدناه يتحدّث عن هذه المسألة في تاريخ الأنبياء بصورة واضحة جدّاً، وبخاصة فيما يتعلّق بالنبيّ نوح (ع)، وهو أمرٌ يلفت الانتباه والنظر، وربّما يکون للتشابه والاتّفاق في الدور والمهمة التي أوکلت لهما، کما نبّه الشهيد الصدر (ره) إليه.

راجع: مع الأنبياء / عفيف عبدالفتاح طبارة.

[4] ويمکن أن تقرّب هذا المعني بما عشناه وشاهدناه من صعود الاتّحاد السوفيتي وترقّيه حتي صار القطب الثاني في العالم، وتقاسم هو وأمريکا النفوذ الحضاري والهيمنة السياسية، ورکبا معاً أجواء الفضاء، ثمّ شهدنا انهيار الاتّحاد السوفيتي وتفکّک أوصاله بمثل تلک السرعة القياسية في الانهيار، فکم کان لذلک من أثر؟ وکم کان فيه من عبرة؟ وکم فيه من دلالة عميقة؟

[5] جان جاک روسو (1712 ـ 1778 م) کاتب وفيلسوف فرنسي اعتبره بعض النقّاد الوجه الأبعد نفوذاً في الأدب الفرنسي الحديث والفلسفة الحديثة، وقد مهّدت کتاباته ومقالاته للثورة الفرنسية، وأشهر مؤلفاته العقد الاجتماعي، راجع: موسوعة المورد / منير البعلبکيّ 8: 169.

[6] إشارة إلي الآية القرآنية المبارکة: (إنهم فتيةٌ آمنوا بربّهم وزدناهم هديً...)الکهف: 13، وراجع تفسيرها في الکشّاف / الزمخشري 2: 706، نشر دار الکتاب العربي ـ بيروت.

[7] إشارة إلي الآية: (ولبثوا في کهفهم ثلاث مائة سنين وازدادو تسعاً...)الکهف: 25.

[8] وکلّ ذلک له مدخليّة في تربيته وإعداده الإعداد الخاص، بما في ذلک امتلاکه النظرة الشمولية العميقة، فضلاً عن شهوده بنفسه ضآلة أولئک المتعملقين الذين يملؤون الدنيا ضجيجاً وصخباً، ويسترهبون الناس، وهذا الشهود يؤهّله أکثر فأکثر لأداء مهمته الکونية في التغيير، أي ملئه للأرض عدلاً بعدما ملئت ظلماً، هذا بغمض النظر عن مؤهّلاته الذاتية، والعناية الربّانيّة الخاصة.

[9] ولا ينبغي أن يُشکِل أحدٌ بأنّ النبيّ محمد (ص) مع عالمية رسالته ومهمّته التغييرية الکبري، إلاّ أنه عاش في کنف الحضارة الجاهلية، ولم يتأثر بها، وکذا الأنبياء السابقون، فما هو الوجه في هذا الرأي؟

فجوابه:

أ - إنّ النبيّ (ص) قد أخضع فعلاً إلي حالة عزلة تامة عن الحضارة الجاهلية، وأنه کما ورد في السيرة النبوية قد حبّب إليه الخلاء، وکان يذهب إلي غار حراء يتحنّث فيه، وکذا الأنبياء کانوا يتنزّهون عمّا عليه مجتمعهم، وکانوا يعتزلون، وإليه الإشارة في قوله تعالي: (فلمّا اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهبنا له إسحاق) مريم: 49.

ب ـ إنّ النبيّ المرسل يوحي إليه، ويسدّد مباشرة من السماء، ويبلّغ بالأعمال والخطوات التي يتخّذها خطوةً، والإمام (ع) لا يوحي إليه ـ کما هو عقيدة الإمامية ـ، ولا يبلّغ بالأمور مباشرة من السماء، نعم يکون مسدّداً وتحت العناية الربانيّة، ولذلک فهو يحتاج إلي إعداد خاص. ففي نفس الوقت الذي يکون فيه قريباً ومتّصلاً بالحضارة الإسلامية، مستمدّاً من آبائه (ع) الأصالة والمعرفة والعلم، يکون مطّلعاً علي التجارب البشرية والحضارات في صعودها وعوامل تکوّنها وقوّتها، وکذلک إخفاقاتها وعوامل ضعفها وانهيارها، فيستمد الخبرة والقدرة والإحاطة بالأمور جميعاً، هذا مع اعتقادنا بقدرات الإمام العلمية الذاتية التي وهبها الله تعالي له، وبکونه مسدّداً من السماء، کما سيتوضّح في المبحث الرابع.