بازگشت

المعجزة والعمر الطويل


وقد عرفنا حتي الآن أنّ العمر الطويل ممکن علمياً، ولکن لنفترض أنه غير ممکن علمياً، وأنّ قانون الشيخوخة والهرم قانون صارم لا يمکن للبشرية اليوم، ولا علي خطّها الطويل أن تتغلب عليه، وتغيّر من ظروفه وشروطه، فماذا يعني ذلک؟ إنه يعني أنّ إطالة عمر الإنسان - کنوح أو کالمهديّ - قروناً متعدّدة، هي علي خلاف القوانين الطبيعية التي أثبتها العلم بوسائل التجربة والاستقراء الحديثة، وبذلک تصبح هذه الحالة معجزة عطّلت قانوناً طبيعياً في حالة معيّنة للحفاظ علي حياة الشخص الذي أنيط به الحفاظ علي رسالة السماء، وليست هذه المعجزة فريدة من نوعها، أو غريبة علي عقيدة المسلم المستمدّة من نصّ القرآن والسنّة، [1] فليس قانون الشيخوخة والهرم أشدّ صرامة من قانون انتقال الحرارة من الجسم الأکثر حرارة إلي الجسم الأقل حرارة حتي يتساويا، وقد عطّل هذا القانون لحماية حياة إبراهيم (ع)، حين کان الأسلوب الوحيد للحفاظ عليه تعطيل ذلک القانون. فقيل للنار حين ألقي فيها إبراهيم (قلنا يا نار کوني برداً وسلاماً علي إبراهيم) الأنبياء: 69، فخرج منها کما دخل سليماً لم يصبه أذيً، إلي کثير من القوانين الطبيعية التي عطّلت لحماية أشخاص من الأنبياء وحجج الله علي الأرض، فَفُلق البحر لموسي، [2] وشبّه للرومان أنهم قبضوا علي عيسي [3] ولم يکونوا قد قبضوا عليه، وخرج النبيّ محمد (ص) من داره وهي محفوفة بحشود قريش التي ظلّت ساعات تتربّص به لتهجم عليه، فستره الله تعالي عن عيونهم وهو يمشي بينهم. [4] کلّ هذه الحالات تمثل قوانين طبيعية عطّلت لحماية شخص، کانت الحکمة الربانية تقتضي الحفاظ علي حياته، فليکن قانون الشيخوخة والهرم من تلک القوانين.

وقد يمکن أن نخرج من ذلک بمفهوم عام وهو أنه کلّما توقّف الحفاظ علي حياة حجة لله في الأرض علي تعطيل قانون طبيعي، وکانت إدامة حياة ذلک الشخص ضرورية لإنجاز مهمّته التي أعدّ لها، تدخّلت العناية الربانية في تعطيل ذلک القانون لإنجاز مهمته التي أعدّ لها، وعلي العکس إذا کان الشخص قد انتهت مهمته التي أعدّ لها ربانياً فإنه سيلقي حتفه ويموت أو يستشهد وفقاً لما تقرّره القوانين الطبيعية.

ونواجه عادة بمناسبة هذا المفهوم العام السؤال التالي: کيف يمکن أن يتعطّل القانون؟ [5] وکيف تنفصم العلاقة الضرورية التي تقوم بين الظواهر الطبيعية؟ وهل هذه إلاّ مناقضة للعلم الذي اکتشف ذلک القانون الطبيعي، وحدّد هذه الععلاقة الضرورية علي أسس تجريبية واستقرائية؟!

والجواب: أنّ العلم نفسه قد أجاب عن هذا السؤال بالتنازل عن فکرة الضرورة في القانون الطبيعي، وتوضيح ذلک: إنّ القوانين الطبيعية يکتشفها العلم علي أساس التجربة والملاحظة المنتظمة، فحين يطّرد وقوع ظاهرة طبيعية عقيب ظاهرة أخري يستدلّ بهذا الاطّراد علي قانون طبيعي، وهو أنّه کلّما وجدت الظاهرة الأولي وجدت الظاهرة الثانية عقيبها، غير أنّ العلم لا يفترض في هذا القانون الطبيعي علاقة ضرورية بين الظاهرتين نابعة من صميم هذه الظاهرة وذاتها، وصميم تلک وذاتها لأنّ الضرورة حالة غيبية، لا يمکن للتجربة ووسائل البحث الاستقرائي والعلمي إثباتها، ولهذا فإنّ منطق العلم الحديث يؤکد أنّ القانون الطبيعي - کما يعرّفه العلم - لا يتحدّث عن علاقة ضرورية، بل عن اقتران مستمر بين ظاهرتين، [6] فإذا جاءت المعجزة وفصلت إحدي الظاهرتين عن الأخري في قانون طبيعي لم يکن ذلک فصماً لعلاقة ضرورية بين الظاهرتين.

والحقيقة أنّ المعجزة بمفهومها الدينيّ، قد أصبحت في ضوء المنطق العلمي الحديث مفهومة بدرجة أکبر مما کانت عليه في ظلّ وجهة النظر الکلاسيکية إلي علاقات السببيّة.

فقد کانت وجهة النظر القديمة تفترض أنّ کلّ ظاهرتين اطّرد اقتران إحداهما بالأخري فالعلاقة بينهما علاقة ضرورة، والضرورة تعني أنّ من المستحيل أن تنفصل إحدي الظاهرتين عن الأخري، ولکن هذه العلاقة تحوّلت في منطق العلم الحديث إلي قانون الاقتران أو التتابع المطّرد [7] بين الظاهرتين دون افتراض تلک الضرورة الغيبيّة.

وبهذا تصبح المعجزة حالة استثنائية لهذا الاطّراد في الاقتران أو التتابع دون أن تصطدم بضرورة أو تؤدّي إلي استحالة.

وأما علي ضوء الأسس المنطقية للاستقراء، [8] فنحن نتّفق مع وجهة النظر العلمية الحديثة، في أنّ الاستقراء لا يبرهن علي علاقة الضرورة بين الظاهرتين، ولکنّا نري أنّه يدلّ علي وجود تفسير مشترک لا طّراد التقارن أو التعاقب بين الظاهرتين باستمرار، وهذا التفسير المشترک کما يمکن صياغته علي أساس افتراض الضرورة الذاتية، کذلک يمکن صياغته علي أساس افتراض حکمة دعت منظّم الکون إلي ربط ظواهر معيّنة بظواهر أخري باستمرار، وهذه الحکمة نفسها تدعو أحياناً إلي الاستثناء فتحدث المعجزة.


پاورقي

[1] أي أنّ الأمر يصبح من قبيل المعجز، وهو ما نطق به القرآن، وجاء في صحيح السنّة المطهّرة، والإعجاز حقيقة رافقت دعوة الأنبياء، وادّعاء سفارتهم عن الحضرة الإلهيّة، وهو ما لا يسع المسلم إنکاره أو الشک فيه، بل إنّ غير المسلم يشارک المسلم في الاعتقاد بالمعجزات.

[2] إشارة إلي قوله تعالي: (فأوحينا إلي موسي أن اضرب بعصاک البحر فانفلق فکان کلّ فرق کالطّود العظيم) الشعراء: 63.

[3] إشارة إلي قوله تعالي: (وما قتلوه وما صلبوه ولکن شُبِّهَ لهم...) النساء: 157.

[4] راجع: سيرة ابن هشام 2: 127، فقد نقل هذه الحادثة وهي مجمعٌ عليها.

[5] قد يقال: إنّ القانون بصفته قانوناً لابدّ يطّرد، ولا يتصور التعطيل والانخرام، وقد لا حظ بعضهم أنّ الانخرام إنّما هو بقانون آخر، کما هو الأمر بالنسبة إلي قانون الجاذبية، الذي يستلزم جذب الأشياء إلي المرکز، ومع ذلک فإنّ الماء يصعد بعملية الامتصاص في النباتات من الجذر إلي الأعلي بواسطة الشعيرات، وهذا بحسب قانون آخر هو (الخاصيّة الشعريّة). راجع: القرآن محاولة لفهم عصري / الدکتور مصطفي محمود.

[6] وقد بسط الشهيد الصدر القول في هذه المسألة في کتابه فلسفتنا فراجع، ص 295 و 299.

[7] راجع: فلسفتنا ص282 وما بعدها.

[8] راجع بسط وشرح النظرية في الأسس المنطقية للاستقراء حيث توصّل الإمام الشهيد الصدر (ره) إلي اکتشاف مهمّ وخطير علي صعيد نظرية المعرفة بشکل عام.