ذکر الادلة التي ذکرها شيخ الطائفة علي إثبات الغيبة
قال رحمه الله: أعلم أن لنا في الکلام في غيبة صاحب الزمان عليه السلام طريقين: أحدهما أن نقول: إذا ثبت وجوب الامامة في کل حال و أن الخلق مع کونهم معصومين لا يجوز أن يخلو من رئيس في وقت من الاوقات و أن من شرط الرئيس أن يکون مقطوعا علي عصمته فلا يخلو ذلک الرئيس من أن يکون ظاهرا معلوما و الضرب فليقم فإذا علمنا أن کل من يدعي له الامامة ظاهرا ليس بمقطوع علي عصمته بل ظاهر أفعالهم و أحوالهم ينافي العصمة ممن هو غائب من الکيسانية و الناووسية و الفطحية و الواقفة و غيرهم قولهم باطل علمنا بذلک صحة إمامة ابن الحسن و صحة غيبته و ولايته و لا نحتاج إلي تکلف الکلام في إثبات ولادته و سبب غيبته مع ثبوت ما ذکرناه و لان الخحق لا يجوز خروجه عن الامة.
و الطريق الثاني أن نقول: الکلام في غيبة ابن الحسن فرع علي ثبوت إمامته و المخالف لنا إما أن يسلم لنا إمامته و يسأل عن سبب غيبته فنکلف جوابه أو (لا) يسلم لنا إمامته فلا معني لسؤاله عن غيبة من لم يثبت إمامته و متي نوزعنا في ثبوت إمامته دللنا عليها بأن نقول قد ثبت وجوب الامامة مع بقاء التکليف علي من ليس بمعصوم في جميع الاحوال و الاعصار بالادلة القاهرة و ثبت أيضا أن من شرط الامام أن يکون مقطوعا علي عصمته و علمنا أيضا أن الحق لا يخرج عن الامة.
فإذا ثبت ذلک وجدنا الامة بين أقوال بين قائل: يقول لا إمام فما ثبت من وجوب الامامة في کل حال يفسد قوله، و قائل يقول بامامة من ليس بمقطوع علي عصمته فقوله يبطل بما دللنا عليه من وجوب القطع علي عصمة الامام، و من ادعي
[ صفحه 168]
العصمة لبعض من يذهب إلي إمامته فالشاهد يشهد بخلاف قوله لان أفعالهم الظاهرة و أحوالهم تنافي العصمة، فلا وجه لتکلف القول فيما نعلم ضرورة خلافه، و من ادعيت له العصمة، و ذهب قوم إلي إمامته کالکيسانية القائلين بإمامة محمد بن الحنفية و الناووسية القائلين بإمامة جعفر بن محمد و أنه لم يمت و الواقفة الذين قالوا: إن موسي بن جعفر لم يمت فقولهم باطل من وجوه سنذکرها.
فصار الطريقان محتاجين إلي فساد قول هذه الفرق ليتم ما قصدناه و يفتقران إلي إثبات الاصول الثلاثة التي ذکرناها من وجوب الرئاسة، و وجوب القطع علي العصمة، و أن الحق لا يخرج عن الامة.
و نحن ندل علي کل واحد من هذه الاقوال بموجز من القول لان استيفاء ذلک موجود في کتبي في الامامة علي وجه لا مزيد عليه و الغرض بهذا الکتاب ما يختص الغيبة دون غيرها و الله الموفق لذلک بمنه.
و الذي يدل علي وجوب الرئاسة ما ثبت من کونها لطفا في الواجبات العقلية فصارت واجبة کالمعرفة التي لا يعري مکلف من وجوبها عليه ألا تري أن من المعلوم أن من ليس بمعصوم من الخلق متي خلوا من رئيس مهيب يردع المعاند و يؤدب الجاني و يأخذ علي يد المتقلب و يمنع القوي من الضعيف و أمنوا ذلک، وقع الفساد و انتشر الحيل، و کثر الفساد، و قل الصلاح، و متي کان لهم رئيس هذه صفته کان الامر بالعکس من ذلک، من شمول الصلاح و کثرته، و قلة الفساد و نزارته و العلم بذلک ضروري لا يخفي علي العقلاء فمن دفعه لا يحسن مکالمته و أجبنا عن کل ما يسأل علي ذلک مستوفي في تلخيص الشافي و شرح الجمل لا نطول بذکره ههنا.
و وجدت لبعض المتأخرين کلاما اعترض به کلام المرتضي ره في الغيبة و ظن أنه ظفر بطائل فموه به علي من ليس له قريحة و لا بصر بوجوه النظر و أنا أتکلم عليه فقال: الکلام في الغيبة و الاعتراض عليها من ثلاثة أوجه: أحدها أن نلزم الامامية ثبوت وجه قبح فيها أو في التکليف معها فيلزمهم أن
[ صفحه 169]
يثبتوا أن الغيبة ليس فيها وجه قبح لان مع ثبوت وجه القبح تقبح الغيبة و إن ثبت فيها وجه حسن کما نقول في قبح تکليف ما لا يطاق أن فيه وجه قبح و إن کان فيه وجه حسن بأن يکون لطفا لغيره.
و الثاني أن الغيبة تنقض طريق وجوب الامامة في کل زمان لان کون الناس مع رئيس مهيب متصرف أبعد من القبيح لو اقتضي کونه لطفا واجبا في کل حال و قبح التکليف مع فقده لانتقض بزمان الغيبة لانا في زمان الغيبة نکون مع رئيس هذه سبيله أبعد من القبيح و هو دليل وجوب هذه الرئاسة، و لم يجب وجود رئيس هذه صفته في زمان الغيبة و لا قبح التکليف مع فقده، فقد وجد الدليل و لا مدلول و هذا نقض الدليل.
و الثالث أن يقال: إن الفائدة بالامامة هي کونه مبعدا من القبيح علي قولکم و ذلک لا يحصل مع وجوده غائبا فلم ينفصل وجوده من عدمه، و إذا لم يختص وجوده غائبا بوجه الوجوب الذي ذکروه لم يقتض دليلهم وجوب وجوده مع الغيبة، فدليلکم مع أنه منتقض حيث وجد مع انبساط اليد و لم يجب انبساط اليد مع الغيبة فهو متعلق بوجود إمام منبسط اليد، و لا هو حاصل في هذه الحال.
الکلام عليه أن نقول: أما الفصل الاول من قوله: إنا نلزم الامامية أن يکون في الغيبة وجه قبح وعيد منه محض لا يقترن به حجة فکان ينبغي أن يبين وجه القبح الذي أراد إلزامه إياهم لننظر فيه و لم يفعل فلا يتوجه وعيده و إن قال ذلک سائلا علي وجه ما أنکرتم أن يکون فيها وجه قبح فانا نقول وجوه القبح معقولة من کون الشيء ظلما و عبئا و کذبا و مفسدة و جهلا و ليس شيء من ذلک موجودا ههنا فعلمنا بذلک انتفاء وجود القبح.
فان قيل: وجه القبح أنه لم يزح علة المکلف علي قولکم لان انبساط يده الذي هو لطف في الحقيقة و الخوف من تأديبه لم يحصل فصار ذلک إخلالا بلطف المکلف فقبح لاجله.
[ صفحه 170]
قلنا: قد بينا في باب وجوب الامامة بحيث أشرنا إليه أن انبساط يده و الخوف من تأديبه إنما فات المکلفين لما يرجع إليهم لانهم أحوجوه إلي الاستتار بأن أخافوه و لم يمکنوه فاتوا من قبل نفوسهم و جري ذلک مجري أن يقول قائل: من لم يحصل له معرفة الله تعالي، في تکليفه وجه قبح لانه لم يحصل ما هو لطف له من المعرفة فينبغي أن يقبح تکليفه فما يقولونه ههنا من أن الکافر اتي من قبل نفسه لان الله قد نصب له الدلالة علي معرفته و مکنه من الوصول إليها فإذا لم ينظر و لم يعرف اتي في ذلک من قبل نفسه و لم يقبح ذلک تکليفه فکذلک نقول: انبساط يد الامام و إن فات المکلف فانما اتي من قبل نفسه و لو مکنه لظهر و انبسطت يده فحصل لطفه فلم يقبح تکليفه لان الحجة عليه لا له.
و قد استوفينا نظائر ذلک في الموضع الذي أشرنا إليه و سنذکر فيما بعد إذا عرض ما يحتاج إلي ذکره.
و أما الکلام في الفصل الثاني فهو مبني علي ألفاظه و لا نقول إنه لم يفهم ما أورده لان الرجل کان فوق ذلک لکن أراد التلبيس و التمويه و هو قوله إن دليل وجوب الرئاسة ينتقض بحال الغيبة لان کون الناس مع رئيس مهيب متصرف أبعد من القبيح لو اقتضي کونه لطفا واجبا علي کل حال و قبح التکليف مع فقده ينتقض في زمان الغيبة و لم يقبح التکليف مع فقده فقد وجد الدليل و لا مدلول و هذا نقض.
و إنما قلنا إنه تمويه لان ظن أنا نقول إن في حال الغيبة دليل وجوب الامامة قائم و لا إمام فکان نقضا و لا نقول ذلک، بل دليلنا في حال وجود الامام بعينه هو دليل حال غيبته في أن في الحالين الامام لطف فذ نقول إن زمان الغيبة خلا من وجود رئيس بل عندنا أن الرئيس حاصل و إنما ارتفع انبساط يده لما يرجع إلي المکلفين علي ما بيناه لا لان انبساط يده خرج من کونه لطفا بل وجه اللطف به قائم و إنما لم يحصل لما يرجع إلي الله فجري مجري أن يقول قائل کيف يکون معرفة الله تعالي لطفا مع أن الکافر لا يعرف الله فلما کان التکليف علي
[ صفحه 171]
الکافر قائما و المعرفة مرتفعة دل علي أن المعرفة ليست لطفا علي کل حال لانها لو کانت کذلک لکان نقضا.
و جوابنا في الامامة کجوابهم في المعرفة من أن الکافر لطفه قائم بالمعرفة و إنما فوت (علي) نفسه بالتفريط في النظر المؤدي إليها فلم يقبح تکليفه فکذلک نقول: الرئاسة لطف للمکلف في حال الغيبة و ما يتعلق بالله من إيجاده حاصل و إنما ارتفع تصرفه و انبساط يده لامر يرجع إلي المکلفين فاستوي الامران و الکلام في هذا المعني مستوفي أيضا بحيث ذکرناه.
و أما الکلام في الفصل الثالث من قوله إن الفائدة بالامامة هي کونه مبعدا من القبيح علي قولکم و ذلک لم يحصل مع غيبته فلم ينفصل وجوده من عدمه فإذا لم يختص وجوده غائبا بوجه الوجوب الذي ذکروه لم يقتض دليلهم وجوب وجوده مع الغيبة، فدليلکم مع أنه منتقض حيث وجد مع انبساط اليد و لم يجب انبساط اليد مع الغيبة فهو متعلق بوجود إمام منبسط اليد و لا هو حاصل في هذه الحال.
فانا نقول: إنه لم يفعل في هذا الفصل أکثر من تعقيد القول علي طريقة المنطقيين من قلب المقدمات ورد بعضها علي بعض و لا شک أنه قصد بذلک التموية و المغالطة و إلا فالأَمر أوضح من أن يخفي متي قالت الامامية إن انبساط يد الامام لا يجب في حال الغيبة حتي يقول: دليلکم لا يدل علي وجوب إمام منبسط اليد لان هذه حال الغيبة، بل الذي صرحنا دفعة بعد اخري أن انبساط يده واجب في الحالين في حال ظهوره و حال غيبته أن حال ظهوره مکن منه فانبسطت يده و حال الغيبة لم يمکن فانقبضت يده لا أن انبساط يده خرج من باب الوجوب و بينا أن الحجة بذلک قائمة علي المکلفين من حيث منعوع و لم يمکنوه فاتوا من قبل نفوسهم، و شبهنا ذلک بالمعرفة دفعة بعد اخري.
و أيضا فانا نعلم أن نصب الرئيس واجب بعد الشرع لما في نصبه من اللطف لتحمله القيام بما لا يقوم به غيره، و مع هذا فليس التمکين واقعا لاهل الحل و العقد من نصب من يصلح لها خاصة علي مذهب أهل العدل الذين کلامنا معهم
[ صفحه 172]
و مع هذا لا يقول أحد إن وجوب نصب الرئيس سقط الآن من حيث لم يقع التمکين منه، فجوابنا في غيبة الامام جوابهم في منع أهل الحل و العقد من اختيار من يصلح لامامة و لا فرق بينهما فانما الخلاف بيننا أنا قلنا علمنا ذلک عقلا و قالوا ذلک معلوم شرعا و ذلک فرق من موضع الجمع.
فان قيل: أهل الحل و العقد إذا لم يتمکنوا من اختيار من يصلح للامامة فإن الله يفعل ما يقوم مقام ذلک من الالطاف فلا يجب إسقاط التکليف و في الشيوخ من قال إن الامام يجب نصبه في الشرع لمصالح دنياوية و ذلک واجب أن يفعل لها اللطف.
قلنا: أما من قال نصب الامام لمصالح دنياوية قوله يفسد لانه لو کان کذلک لما وجب إمامته و لا خلاف بينهم في أنه يجب اقامة الامامة مع الاختيار علي أن ما يقوم به الامام من الجهاد و تولية الامراء و القضاء، و قسمة الفئ، و استيفاء الحدود و القصاصات امور دينية لا يجوز ترکها، و لو کان لمصلحة دنياوية لما وجب ذلک فقوله ساقط بذلک و أما من قال: يفعل الله ما يقوم مقامه باطل لانه لو کان کذلک لما وجب عليه اقامة الامام مطلقا علي کل حال و لکان يکون ذلک من باب التخيير کما نقول في فروض الکفايات و في علمنا بتعيين ذلک و وجوبه علي کل حال دليل علي فساد ما قالوه.
علي أنه يلزم علي الوجهين جميعا المعرفة بأن يقال: الکافر إذا لم يحصل له المعرفة يفعل الله له ما يقوم مقامها فلا يجب عليه المعرفة علي کل حال أو يقال إنما يحصل من الانزجار عن فعل الظلم عند المعرفة أمر دنياوي لا يجب لها المعرفة فيجب من ذلک إسقاط وجوب المعرفة، و متي قيل إنه لا بدل للمعرفة، قلنا و کذلک لا بدل للامام، علي ما مضي و ذکرناه في تلخيص الشافي، و کذلک إن بينوا أن الانزجار من القبيح عند المعرفة أمر ديني قلنا مثل ذلک في وجود الامام سواء.
فان قيل: لا يخلو وجود رئيس مطاع منبسط اليد من أن يجب علي الله جميع
[ صفحه 173]
ذلک أو يجب علينا جميعه أو يجب علي الله إيجاده و علينا بسط يده فان قلتم يجب جميع ذلک علي الله، فانه ينتقض بحال الغيبة لانه لم يوجد إمام منبسط اليد و إن وجب علينا جميعه فذلک تکليف ما لا يطاق لانا لا نقدر علي إيجاده و إن وجب عليه إيجاده و علينا بسط يده و تمکينه فما دليلکم عليه مع أن فيه أنه يجب علينا أن نفعل ما هو لطف للغير و کيف يجب علي زيد بسط يد الامام ليحصل لطف عمرو، و هل ذلک إلا نقض الاصول.
قلنا: الذي نقوله أن وجود الامام المنبسط اليد إذا ثبت أنه لطف لنا علي ما دللنا عليه و لم يکن إيجاده في مقدورنا لم يحسن أن نکلف إيجاده لانه تکليف ما لا يطاق و بسط يده و تقوية سلطانه قد يکون في مقدورنا و في مقدور الله فإذا لم يفعل الله علمنا أنه واجب عليه و أنه واجب علينا لانه لابد من أن يکون منبسط اليد ليتم الغرض بالتکليف و بينا بذلک أن بسط يده لو کان من فعله تعالي لقهر الخلق عليه بالحيلولة بينه و بين أعدائه و تقوية أمره بالملائکة و بما أدي إلي سقوط الغرض بالتکليف، و حصول الالجاء، فإذا يجب علينا بسط يده علي کل حال و إذا لم نفعله اتينا من قبل نفوسنا.
فأما قولهم: في ذلک إيجاد اللطف علينا للغير، صحيح لانا نقول إن کل من يجب عليه نصرة الامام و تقوية سلطانه له في ذلک مصلحة تخصه و إن کانت فيه مصلحة ترجع إلي غيره کما تقوله في أن الانبياء يجب عليهم تحمل أعباء النبوة و الاداء إلي الخلق ما هو مصلحة لهم لان لهم في القيام بذلک مصلحة تخصهم و إن کانت فيها مصلحة لغيرهم.
و يلزم المخالف في أهل الحل و العقد بأن يقال: کيف يجب عليهم اختيار الامام لمصلحة ترجع إلي جميع الامة و هل ذلک إلا إيجاب الفعل عليهم لما يرجع إلي مصلحة غيرهم فأي شيء أجابوا به فهو جوابنا بعينه سواء.
فان قيل: لم زعمتم أنه يجب إيجاده في حال الغيبة وهلا جاز أن يکون معدوما.
قلنا: إنما أوجبناه من حيث إن تصرفه الذي هو لطفنا إذا لم يتم إلا بعد وجوده و إيجاده لم يکن في مقدورنا قلنا عند ذلک أنه يجب علي الله ذلک و إلا أدي
[ صفحه 174]
إلي أن لا نکون مزاحي العلة بفعل اللطف فنکون اتينا من قبله تعالي لا من قبلنا و إذا أوجده و لم نمکنه من انبساط يده اتينا من قبل نفوسنا فحسن التکليف و في الاول لم يحسن.
فان قيل: ما الذي تريدون بتمکيننا إياه؟ أ تريدون أن نقصده و نشافهه و ذلک لا يتم إلا مع وجوده و قيل لکم لا يصح جميع ذلک إلا مع ظهوره و علمنا أو علم بعضنا بمکانه و إن قلتم نريد بتمکيننا أن نبخع بطاعته و الشد علي يده و نکف عن نصرة الظالمين و نقوم علي نصرته متي دعانا إلي إمامته و دلنا عليها بمعجزته قلنا لکم: فنحن يمکننا ذلک في زمان الغيبة و إن لم يکن الامام موجودا فيه.
فکيف قلتم لا يتم ماکلفناه من ذلک إلا مع وجود الامام.
قلنا الذي نقوله في هذا الباب ما ذکره المرتضي ره في الذخيرة و ذکرناه في تلخيص الشافي أن الذي هو لطفنا من تصرف الامام و انبساط يده لا يتم إلا بأمور ثلاثة أحدها يتعلق بالله و هو إيجاده و الثاني يتعلق به من تحمل أعباء الامامة و القيام بها و الثالث يتعلق بنا من العزم علي نصرته، و معاضدته، و الانقياد له، فوجوب تحمله عليه فرع علي وجوده لانه لا يجوز أن يتناول التکليف المعدوم فصار إيجاد الله إياه أصلا لوجوب قيامه، و صار وجوب نصرته علينا فرعا لهذين الاصلين لانه إنما يجب علينا طاعته إذا وجد، و تحمل أعباء الامامة و قام بها، فحينئذ يجب علينا طاعته، فمع هذا التحقيق کيف يقال: لم لا يکن معدوما.
فان قيل: فما الفرق بين أن يکون موجودا مستترا أو معدوما حتي إذا علم منا العزم علي تمکينه أوجده قلنا: لا يحسن من الله تعالي أن يوجب علينا تمکين من ليس بموجود لانه تکليف ما لا يطاق فإذا لابد من وجوده.
فان قيل: يوجده الله إذا علم أنا ننطوي علي تمکينه بزمان واحد کما أنه يظهر عند مثل ذلک قلنا: وجوب تمکينه و الانطواء علي طاعته لازم في جميع أحوالنا فيجب أن يکون التمکين من طاعته و المصير إلي أمره ممکنا في جميع الاحوال و إلا لم يحسن التکليف و إنما کان يتم ذلک لو لم نکن مکلفين في کل
[ صفحه 175]
حال لوجوب طاعته و الانقياد لامره، بل کان يجب علينا ذلک ععند ظهوره و الامر بخلافه.
ثم يقال لمن خالفنا في ذلک و ألزمنا عدمه علي استتاره: لم لا يجوز أن يکلف الله تعالي المعرفة و لا ينصب عليها دلالة إذا علم أنا لا ننظر فيها حتي إذا علم من حالنا أنا نقصد إلي النظر و نعزم علي ذلک، أوجد الادلة و نصبها فحينئذ ننظر و نقول ما الفرق بين دلالة منصوبة لا ينظر فيها و بين عدمها حتي إذا عزمنا علي النظر فيها أوجدها الله.
و متي قالوا: نصب الادلة من جملة التمکين الذي لا يحسن التکليف من دونه کالقدرة و الآلة قلنا: و کذلک وجود الامام عليه السلام من جملة التمکين من وجوب طاعته و متي لم يکن موجودا لم يمکنا طاعته کما أن الادلة إذا لم تکن موجودة لم يمکنا النظر فيها فاستوي الامران.
و بهذا التحقيق يسقط جميع ما يورد في هذا الباب من عبارات لا ترتضيها في الجواب و أسولة المخالف عليها و هذا المعني مستوفي في کتبي و خاصة في تلخيص الشافي فلا نطول بذکره.
و المثال الذي ذکره من أنه لو أوجب الله علينا أن نتوضأ من ماء بئر معينة لم يکن لها حبل يستقي به و قال لنا إن دنوتم من البئر خلقت لکم حبلا تستقون به من الماء فانه يکون مزيحا لعلتنا و متي لم ندن من البئر کنا قد اتينا من قبل نفوسنا لا من قبله تعالي، و کذلک لو قال السيد لعبده و هو بعيد منه: اشتر لي لحما من السوق فقال: لا أتمکن من ذلک لانه ليس معي ثمنه، فقال: إن دنوت أعطيتک ثمنه فانه يکون مزيحا لعلته، و متي لم يدن لاخذ الثمن يکون قد اتي من قبل نفسه لا من قبل سيده و هذه حال ظهور الامام مع تمکيننا فيجب أن يکون عدم تمکيننا هو السبب في أن لم يظهر في هذه الاحوال لا عدمه إذ کنا لو مکناه لوجد و ظهر.
قلنا: هذا کلام من يظن أنه يجب علينا تمکينه إذا ظهر و لا يجب علينا ذلک
[ صفحه 176]
في کل حال، و رضينا بالمثال الذي ذکره لانه تعالي لو أوإب علينا الاستقاء في الحال لوجب أن يکون الحبل حاصلا في الحال لان به تنزاح العلة لکن إذا قال: متي دنوتم من البئر خلقت لکم الحبل إنما هو مکلف للدنو لا للاستقاء فيکفي القدرة علي الدنو في هذه الحال لانه ليس بمکلف للاستقاء منها فإذا دنا من البئر صار حينئذ مکلفا للاستقاء فيجب عند ذلک أن يخلف له الحبل فنظير ذلک أن لا يجب علينا في کل حال طاعة الامام و تمکينه فلا يجب عند ذلک وجوده فلما کانت طاعته واجبة في الحال و لم نقف علي شرطه و لا وقت منتظر وجب أن يکون موجودا لتنزاح العلة في التکليف و يحسن.
و الجواب عن مثال السيد مع غلامه مثل ذلک لانه إنما کلفه الدنو منه لا الشراء فإذا دنا منه و کلفه الشراء وجب عليه إعطاء الثمن و لهذا قلنا إن الله تعالي کلف من يأتي إلي يوم القيامة و لا يجب أن يکونوا موجودين مزاحي العلة لانه لم يکلفهم الآن فإذا أوجدهم و أزاح علتهم في التکليف بالقدرة و الآلة و نصب الادلة حينئذ تناولهم التکليف، فسقط بذلک هذه المغالطة.
علي أن الامام إذا کان مکلفا للقيام بالامر و تحمل أعباء الامامة کيف يجوز أن يکون معدوما و هل يصح تکليف المعدوم عند عاقل، و ليس لتکليفه ذلک تعلق بتمکيننا أصلا، بل وجوب التمکين علينا فرع علي تحمله علي ما مضي القول فيه و هذا واضح.
ثم يقال لهم: أ ليس النبي صلي الله عليه و آله اختفي في الشعب ثلاث سنين لم يصل إليه أحد و اختفي في الغار ثلاثة أيام و لم يجز قياسا علي ذلک أن يعدمه الله تلک المدة مع بقاء التکليف علي الخلق الذين بعثه لطفا لهم، و متي قالوا: إنما اختفي بعد ما دعا إلي نفسه و أظهر نبوته فلما أخافوه استتر قلنا: و کذلک الامام لم يستتر إلا و قد أظهر آباؤه موضعه وصفته، و دلوا عليه، ثم لما خاف عليه أبو الحسن بن علي عليهما السلام أخفاه و ستره فالأَمر إذا سواء.
[ صفحه 177]
ثم يقال لهم: خبرونا لو علم الله من حال شخص أن من مصلحته أن يبعث الله إليه نبيا معينا يؤدي إليه مصالحه و علم أنه لو بعثه لقتله هذا الشخص و لو منع من قتله قهرا کان فيه مفسدة له أو لغيره هل يحسن أن يکلف هذا الشخص و لا يبعث إليه ذلک النبي أو لا يکلف فان قالوا: لا يکلف قلنا و ما المانع منه، و له طريق إلي معرفة مصالحه بأن يمکن النبي من الاداء إليه و إن قلتم يکلفه و لا يبعث إليه قلنا و کيف يجوز أن يکلفه و لم يفعل به ما هو لطف له مقدور.
فان قالوا: اتي في ذلک من قبل نفسه، قلنا هو لم يفعل شيئا و إنما علم أنه لا يمکنه، و بالعلم لا يحسن تکليفه مع ارتفاع اللطف، و لو جاز ذلک لجاز أن يکلف ما لا دليل عليه إذا علم أنه لا ينظر فيه، و ذلک باطل، و لا بد أن يقال: إنه يبعث إلي ذلک الشخص و يوجب عليه الانقياد له، ليکون مزيحا لعلته فإما أن يمنع منه بما لا ينافي التکليف أو يجعله بحيث لا يتمکن من قتله، فيکون قد اتي من قبل نفسه في عدم الوصول إليه، و هذه حالنا مع الامام في حال الغيبة سواء.
فان قال: لابد أن يعلمه أن له مصلحة في بعثة هذا الشخص إليه علي لسان غيره، ليعلم أنه قد اتي من قبل نفسه قلنا: و کذلک أعلمنا الله علي لسان نبيه و الائمة من آبائه عليهم السلام موضعه، و أوجب علينا طاعته، فإذا لم يظهر لنا علمنا أنا اتينا من قبل نفوسنا فاستوي الامران.
و أما الذي يدل علي الاصل الثاني و هو أن من شأن الامام أن يکون مقطوعا علي عصمته، فهو أن العلة التي لاجلها احتجنا إلي الامام ارتفاع العصمة بدلالة أن الخلق متي کانوا معصومين لم يحتاجوا إلي إمام و إذا خلوا من کونهم معصومين احتاجوا إليه، علمنا عند ذلک أن علة الحاجة هي ارتفاع العصمة، کما نقوله في علة حاجة الفعل إلي فاعل أنها الحدوث بدلالة أن ما يصح حدوثه يحتاج إلي فاعل في حدوثه، و ما لا يصح حدوثه يستغني عن الفاعل، و حکمنا بذلک أن کل محدث يحتاج إلي محدث، فمثل ذلک يجب الحکم بحاجة کل من ليس بمعصوم إلي إمام و إلا انتقضت العلة فلو کان الامام معصوم، لکانت علة
[ صفحه 178]
الحاجة فيه قائمة، و احتاج إلي إمام آخر، و الکلام في إمامته کالکلام فيه فيؤدي إلي إيجاب أئمة لا نهاية لهم أو الانتهآء إلي معصوم و هو المراد.
و هذه الطريقة قد أحکمناها في کتبنا فلا نطول بالاسولة عليها لان الغرض بهذا الکتاب ذلک و في هذا القدر کفاية.
و أما الاصل الثالث و هو أن الحق لا يخرج عن الامة فهو متفق عليه بيننا و بين خصومنا و إن اختلفنا في علة ذلک لان عندنا أن الزمان لا يخلو من إما من معصوم لا يجوز عليه الغلط علي ما قلناه، فإذا الحق لا يخرج عن الامة لکون المعصوم فيهم و عند المخالف لقيام أدلة يذکرونها دلت علي أن الاجماع حجة فلا وجه للتشاغل بذلک.
فإذا ثبتت هذه الاصول ثبت إمامة صاحب الزمان عليه السلام لان کل من يقطع علي ثبوت العصمة للامام قطع علي أنه الامام، و ليس فيهم من يقطع علي عصمة الامام و يخالف في إمامته إلا قوم دل الدليل علي بطلان قولهم کالکيسانية و الناووسية و الواقفة فإذا أفسدنا أقوال هؤلاء ثبت إمامته عليه السلام.
أقول: و أما الذي يدل علي فساد قول الکيسانية القائلين بإمامة محمد بن الحنفية فأشياء: منها: أنه لو کان إماما مقطوعا علي عصمته لوجب أن يکون منصوصا عليه نصا صريحا، لان العصمة لا تعلم إلا بالنص، و هم لا يدعون نصا صريحا و إنما يتعلقون بأمور ضعيفة دخلت عليهم فيها شبهة لا يدل علي النص نحو إعطاء أمير المؤمنين إياه الراية يوم البصرة، و قوله له: أنت ابني حقا مع کون الحسن و الحسين عليهما السلام ابنيه و ليس في ذلک دلالة علي إمامته علي وجه، و إنما يدل علي فضله و منزلته، علي أن الشيعة تروي أنه جري بينه و بين علي بن الحسين عليه السلام کلام في استحقاق الامامة فتحاکما إلي الحجر فشهد الحجر لعلي بن الحسين عليه السلام بالامامة فکان ذلک معجزا له فسلم له الامر و قال بإمامته، و الخبر بذلک مشهور عند الامامية.
[ صفحه 179]
و منها: تواتر الشيعة الامامية بالنص عليه من أبيه وجده و هي موجودة في کتبهم في أخبار لا نطول بذکره الکتاب.
و منها: الاخبار الواردة عن النبي صلي الله عليه و آله من جهة الخاصة و العامة بالنص علي الاثني عشر، و کل من قال بإمامتهم قطع علي وفات محمد بن الحنفية، و سياقة الامامة إلي صاحب الزمان عليه السلام.
و منها: انقراض هذه الفرقة فانه لم يبق في الدنيا في وقتنا و لا قبله بزمان طويل قائل يقول به، و لو کان ذلک حقا لما جاز انقراضهم.
فإن قيل: کيف يعلم انقراضهم وهلا جاز أن يکون في بعض البلاد البعيدة و جزائر البحر و أطراف الارض أقوام يقولون بهذا القول، کما يجوز أن يکون في أطراف الارض من يقول بمذهب الحسن في أن مرتکب الکبيرة منافق فلا يمکن ادعاء انقراض هذه الفرقة، و إنما کان يمکن العلم لو لکان المسلمون فيهم قلة و العلماء محصورين فأما و قد انتشر الاسلام و کثر العلماء فمن أين يعلم ذلک؟.
قلنا: هذا يؤدي إلي أن لا يمکن العلم بإجماع الامة علي قول و لا مذهب بأن يقال لعل في أطراف الارض من يخالف ذلک و يلزم أن يجوز أن يکون في أطراف الارض من يقول: إن البرد لا ينقض الصوم و أنه يجوز للصائم أن يأکل إلي طلوع الشمس لان الاول کان مذهب أبي طلحة الانصاري و الثاني مذهب حذيفة و الاعمش و کذلک مسائل کثيرة من الفقة کان الخلف فيها واقعا بين الصحابة و التابعين ثم زال الخلف فيما بعد و اجتمع أهل الاعصار علي خلافه فينبغي أن يشک في ذلک و لا يثق بالاجماع علي مسألة سبق الخلاف فيها، و هذا طعن من يقول إن الاجماع لا يمکن معرفته و لا التوصل إليه و الکلام في ذلک لا يختص بهذه المسألة فلا وجه لا يراده ههنا.
ثم إنا نعلم أن الانصار طلبت الا مرة و دفعهم المهاجرون عنها ثم رجعت الانصار إلي قول المهاجرين علي قول المخالف فلو أن قائلا قال: يجوز عقد الامامة لمن کان من الانصار لان الخلاف سبق فيه و لعل في أطراف الارض من يقول به
[ صفحه 180]
فما کان يکون جوابهم فيه؟ فأي شيء قالوه فهو جوابنا بعينه.
فان قيل: إن کان الاجماع عندکم إنما يکون حجة لکون المعصوم فيه فمن أين تعلمون دخول قوله في جملة أقوال الامة؟ قلنا المعصوم إذا کان من جملة علماء الامة فلا بد أن يکون قوله موجودا في جملة أقوال العلماء لانه لا يجوز أن يکون منفردا مظهرا للکفر فان ذلک لا يجوز عليه فإذا لابد أن يکون قوله في جملة الاقوال و إن شککنا في أنه الامام.
فإذا اعتبرنا أقوال الامة و وجدنا بعض العلماء يخالف فيه فان کنا نعرفه و نعرف مولده و منشأه لم نعتد بقوله، لعلمنا أنه ليس بإمام و إن شککنا في نسبه لم تکن المسألة إجماعا.
فعلي هذا أقوال العلماء من الامة اعتبرناها فلم نجد فيهم قائلا بهذا المذهب الذي هو مذهب الکيسانية أو الواقفة و إن وجدنا فرضا واحدا أو اثنين فانا نعلم منشأه و مولده فلا يعتد بقوله و اعتبرنا أقوال الباقين الذين نقطع علي کون المعصوم فيهم فسقطت هذه الشبهة علي هذا التحرير و بان وهنها.
فأما القائلون بامامة جعفر بن محمد من الناووسية و أنه حي لم يمت و أنه المهدي فالکلام عليهم ظاهر لانا نعلم موت جعفر بن محمد کما نعلم موت أبيه وجده و قتل علي عليه السلام و موت النبي صلي الله عليه و آله فلو جاز الخلاف فيه لجاز الخلاف في جميع ذلک و يؤدي إلي قول الغلاة و المفوضة الذين جحدوا قتل علي و الحسين عليهما السلام و ذلک سفسطة.
و أما الذي يدل علي فساد مذهب الواقفة الذين وقفوا في إمامة أبي الحسن موسي عليه السلام و قالوا: إنه المهدي.
فقولهم باطل بما ظهر من موته، و اشتهر و استفاض کما اشتهر موت أبيه وجده و من تقدمه من آبائه عليهم السلام و لو شککنا لم ننفصل من الناووسية و الکيسانية و الغلاة و المفوضة الذين خالفوا في موت من تقدم من آبائه عليهم السلام.
علي أن موته اشتهر ما لم يشتهر موت أحد من آبائه عليهم السلام لانه أظهروا حضر القضاة و الشهود و نودي عليه ببغداد علي الجسر و قيل هذا الذي تزعم الرافضة أنه حي
[ صفحه 181]
لا يموت، مات حتف أنفه، و ما جري هذا المجري لا يمکن الخلاف فيه.
أقول: ثم ذکر في ذلک إخبارا کثيرة روينا عنه في باب وفات الکاظم عليه السلام ثم قال: فموته عليه السلام أشهر من أن يحتاج إلي ذکر الرواية به لان المخالف في ذلک يدفع الضرورات و الشک في ذلک يؤدي إلي الشک في موت کل واحد من آبائه عليهم السلام و غيرهم، فلا يوثق بموت أحد.
علي أن المشهور عنه عليه السلام أنه أوصي إلي ابنه علي عليه السلام و أسند إليه أمره بعد موته و الاخبار بذلک أکثر من أن تحصي.
أقول: ثم ذکر بعض الاخبار التي أوردتها في باب النص عليه صلوات الله عليه ثم قال: فان قيل: قد مضي في کلامکم أنا نعلم موت موسي بن جعفر کما نعلم موت أبيه وجده فعليکم لقائل أن يقول إنا نعلم أنه لم يکن للحسن بن علي ابن کما نعلم أنه لم يکن له عشرة بنين و کما نعلم أنه لم يکن للنبي صلي الله عليه و آله ابن من صلبه عاش بعد موته، فان قلتم لو علمنا أحدهما کما نعلم الآخر لما جاز أن يقع فيه خلاف کما لا يجوز أن يقع الخلاف في الآخر قيل: لمخالفکم أن يقول و لو علمنا موت محمد بن الحنفية و جعفر بن محمد و موسي بن جعفر کما نعلم موت محمد بن علي بن الحسين لما وقع الخلاف في أحدهما کما لم يجز أن يقع في الآخر.
قلنا: نفي ولادة الاولاد من الباب الذي لا يصح أن يعلم صدوره في موضع من المواضع و لا يمکن أحدا أن يدعي فيمن لم يظهر له ولد أن يعلم أنه لا ولد له و إنما يرجع في ذلک إلي غالب الظن و الامارة بأنه لو کان له ولد لظهر و عرف خبره لان العقلاء قد يدعوهم الدواعي إلي کتمان أولادهم لاغراض مختلفة.
فمن الملوک من يخفيه خوفا عليه و إشفاقا و قد وجد في ذلک کثير في عادة الاکاسرة و الملوک الاول و أخبارهم معروفة.
و في الناس من يولد له ولد من بعض سراياه أو ممن تزوج به سرا فيرمي به و يجحده خوفا من وقوع الخصومة مع زوجته و أولاده الباقين و ذلک أيضا يوجد
[ صفحه 182]
کثيرا في العادة.
و في الناس من يتزوج بإمرأة دنيئة في المنزلة و الشرف و هو من ذوي الاقدار و المنازل فيولد له، فيأنف من إلحاقه به فيجحده أصلا و فيهم من يتحرج فيعطيه شيئا من ماله.
و في الناس من يکون من أدونهم نسبا فيتزوج بإمرأة ذات شرف و منزلة لهوي منها فيه بغير علم من أهلها إما بأن يزوجه نفسها بغير ولي علي مذهب کثير من الفقهاء أو تولي أمرها الحاکم فيزوجها علي ظاهر الحال فيولد له فيکون الولد صحيحا و تنتفي منه أنفة و خوفا من أوليائها و أهلها! و غير ذلک من الاسباب التي لا نطول بذکرها، فلا يمکن ادعاء نفي الولادة جملة، و إنما نعلم ما نعلمه إذا کانت الاحوال سليمة و يعلم أنه لا مانع من ذلک فحينئذ يعلم انتفاؤه.
فأما علمنا بأنه لم يکن للنبي صلي الله عليه و آله ابن عاش بعده فانما علمناه لما علمنا عصمته و نبوته و لو کان له ولد لاظهره لانه لا مخافة عليه في إظهاره و علمنا أيضا بإجماع الامة علي أنه لم يکن له ابن عاش بعده، و مثل ذلک لا يمکن أن يدعي العلم به في ابن الحسن عليه السلام لان الحسن عليه السلام کان کالمحجور عليه، و في حکم المحبوس، و کان الولد يخاف عليه، لما علم و انتشر من مذهبهم أن الثاني عشر هو القائم بالامر لازالة الدول فهو مطلوب لا محالة.
و خاف أيضا من أهله کجعفر أخيه الذي طمع في الميراث و الاموال فلذلک أخفاه و وقعت الشبهة في ولادته و مثل ذلک لا يمکن ادعاء العلم به في موت من علم موته لان الميت مشاهد معلوم يعرف بشاهد الحال موته، و بالامارات الدالة عليه يضطر من رآه إلي ذلک، فإذا أخبر من لم يشاهده علمه و اضطر إليه، و جري الفرق بين الموضعين مثل ما يقول الفقهاء من أن البينة إنما يمکن أن يقوم علي إثبات الحقوق لا علي نفيها لان النفي لا تقوم عليه بينة إلا إذا کان تحته إثبات فباق الفرق بين الموضعين لذلک.
فان قيل: العادة تسوي بين الموضعين لان (في) الموت قد يشاهد الرجل يحتضر
[ صفحه 183]
کما يشاهد القوابل الولادة، و ليس کل أحد يشاهد احتضار غيره کما أنه ليس کل أحد يشاهد ولادة غيره و لکن أظهر ما يمکن في علم الانسان بموت غيره إذا لم يکن يشاهده أن يکون جاره و يعلم بمرضه و يتردد في عيادته ثم يعلم بشدة مرضه ثم يسمع الواعية من داره و لا يکون في الدار مريض غيره، و يجلس أهله للعزاء و أثار الحزن و الجزع عليهم ظاهرة ثم يقسم ميراثه ثم يتمادي الزمان و لا يشاهد و لا يعلم لاهله غرض في إظهار موته و هو حي، فهذه سبيل الولادة لان النساء يشاهدن الحمل و يتحدثن بذلک سيما إذا کانت حرمة رجل نبيه يتحدث الناس بأحواله مثله و إذا استسر بجارية لم يخف تردده إليها ثم إذا ولد المولود ظهر البشر و السرور في أهل الدار و هنأهم الناس إذا کان المهنأ جليل القدر و انتشر ذلک و تحدث علي حسب جلالة قدره فيعلم الناس أنه قد ولد له مولود سيما إذا علم أنه لا غرض في أن يظهر أنه ولد له ولد و لم يولد له.
فمتي اعتبرنا العادة وجدناها في الموضعين علي سواء و إن نقض الله العادة فيمکن في أحدهما مثل ما يمکن في الآخر فانه قد يجوز أن يمنع الله ببعض الشواغل عن مشاهدة الحامل و عن أن يحضر ولادتها إلا عدد يؤمن مثلهم علي کتمان أمره ثم ينقله الله من مکان الولادة إلي قلة جبل أو برية لا أحد فيها و لا يطلع علي ذلک إلا من لا يظهره علي المأمون مثله.
و کما يجوز ذلک فانه يجوز أن يمرض الانسان و يتردد إليه عواده فإذا اشتد و توقع موته، و کان يؤيس من حياته، نقله الله إلي قلة جبل و صير مکانه شخصا ميتا يشبهه کثيرا من الشبهة ثم يمنع بالشواغل و غيرها من مشاهدته إلا بمن يوثق به ثم يدفن الشخص و يحضر جنازته من کان يتوقع موته و لا يرجو حياته فيتوهم أن المدفون هو ذاک العليل.
و قد يسکن نبض الانسان و تنفسه و ينقض الله العادة و يغيبه عنهم و هو حي لان الحي منا إنما يحتاج إليهما لاخراج البخارات المحترقة مما حول القلب بإدخال هواء بارد صاف ليروح عن القلب و قد يمکن أن يفعل الله من البرودة في الهواء
[ صفحه 184]
المطيفة بالقلب ما يجري مجري هواء بارد يدخلها بالتنفس، فيکون الهواء المحدق بالقلب أبدا باردا و لا يحترق منه شيء لان الحرارة التي تحصل فيه يقوم بالبرودة.
و الجواب أنا نقول: أولا أنه لا يلتجئ من يتکلم في الغيبة إلي مثل هذه الخرافات إلا من کان مفلسا من الحجة، عاجزا عن إيراد شبهة قوية، و نحن نتکلم علي ذلک علي مابه و نقول: إن ما ذکر من الطريق الذي به يعلم موت الانسان ليس بصحيح علي کل وجه لانه قد يتفق جميع ذلک و ينکشف عن باطل بأن يکون لمن أظهر ذلک غرض حکمي و يظهر التمارض و يتقدم إلي أهله بإظهار جميع ذلک ليختبر به أحوال غيره ممن له عليه طاعة و أمر و قد سبق الملوک کثيرا و الحکماء إلي مثل ذلک، و قد يدخل عليم أيضا شبهة بأن يحلقه علة سکتة فيظهرون جميع ذلک ثم ينکشف عن باطل و ذلک أيضا معلوم بالعادات و إنما يعلم الموت بالمشاهدة و ارتفاع الحس، و خمود النبض، و يستمر ذلک أوقات کثيرة و ربما إنضاف إلي ذلک أمارات معلومة بالعادة من جرب المرضي و مارسهم يعلم ذلک.
و هذه حالة موسي بن جعفر عليهما السلام فانه أظهر للخلق الکثير الذي لا يخفي علي مثلهم الحال و لا يجوز عليهم دخول الشبهة في مثله و قوله بأنه يغيب الله الشخص و يحضر شخصا علي شبهه.
أصله لا يصح لان هذا يسد باب الادلة و يؤدي إلي الشک في المشاهدات، و أن جميع ما نراه اليوم، ليس هو الذي رأيناه بالامس و يلزم الشک في موت جميع الاموات، و يجئ منه مذهب الغلاة و المفوضة الذين نفوا القتل عن أمير المؤمنين عليه السلام و عن الحسين عليه السلام و ما أدي إلي ذلک يجب أن يکون باطلا.
و ما قاله إن الله يفعل داخل الجوف حول القلب من البرودة ما ينوب مناب الهواء ضرب من هو [1] من الطب و مع ذلک يؤدي إلي الشک في موت جميع الاموات علي ما قلناه.
علي أن علي قانون الطب حرکات النبض و الشريانات من القلب
[ صفحه 185]
و إنما يبطل ببطلان الحرارة الغريزية، فإذا فقد حرکات النبض، علم بطلان الحرارة، و علم عند ذلک موته، و ليس ذلک بموقوف علي التنفس، و لهذا يلتجؤن إلي النبض عند انقطاع النفس أو ضعفه، فيبطل ما قاله و حمله الولادة علي ذلک.
و ما ادعاه من ظهور الامر فيه صحيح متي فرضنا الامر علي ما قاله: من أنه يکون الحمل لرجل نبيه و قد علم إظهاره و لا مانع من ستره و کتمانه، و متي فرضنا کتمانه و ستره لبعض الاغراض التي قدمنا بعضها، لا يجب العلم به و لا اشتهاره علي أن الولادة في الشرع قد استقر أن يثبت بقول القابلة، ويحکم بقولها في کونه حيا أو ميتا فإذا جاز ذلک کيف لا يقبل قول جماعة نقلوا ولادة صاحب الامر عليه السلام و شاهدوا من شاهده من الثقات، و نحن نورد الاخبار في ذلک عمن رآه و حکي له، و قد أجاز صاحب السوأل أن يعرض في ذلک عارض يقتضي المصلحة أنه إذا ولد أن ينقله الله إلي قلة جبل أو موضع يخفي فيه أمره و لا يطلع عليه أحد و إنما ألزم علي ذلک عارضا في الموت و قد بينا الفصل بين الموضعين.
و أما من خالف من الفرق الباقية الذين قالوا بامامة غيره کالمحمدية الذين قالوا بامامة محمد بن علي بن محمد بن علي الرضا عليهم السلام و الفطحية القائلة بامامة عبد الله بن جعفر بن محمد الصادق عليهما السلام و في هذا الوقت بامامة جعفر بن علي و کالفرقة القائلة أن صاحب الزمان حمل بعد لم يولد بعد و کالذين قالوا إنه مات ثم يعيش و کالذين قالوا بامامة الحسن و قالوا هو اليقين و لم يصح لنا ولادة ولده، فنحن في فترة، فقولهم ظاهر البطلان من وجوه: أحدها: انقراضهم فانه لم يبق قائل يقول بشيء من هذه المقالات و لو کان حقال لما انقرض.
و منها: أن محمد بن علي العسکري مات في حياة أبيه موتا ظاهرا و الاخبار في ذلک ظاهرة معروفة من دفعه کمن دفع موت من تقدم من آبائه عليهم السلام.
أقول: ثم ذکر بعض ما أوردنا من الاخبار في المجلد السابق ثم قال: و أما من قال: إنه لا ولد لابي محمد و لکن ههنا حمل مستور سيولد فقوله باطل
[ صفحه 186]
لان هذا يؤدي إلي خلو الزمان من إمام يرجع إليه و قد بينا فساد ذلک علي أنا سندل علي أنه قد ولد له ولد معروف و نذکر الروايات في ذلک فيبطل قول هؤلاء أيضا.
و أما من قال: إن الامر مشتبه فلا يدري هل للحسن ولد أم لا؟ و هو مستمسک بالاول حتي يحقق ولادة ابنه فقوله أيضا يبطل بما قلناه من أن الزمان لا يخلو من إمام لان موت الحسن عليه السلام قد علمناه کما علمنا موت غيره و سنبين ولادة ولده فيبطل قولهم أيضا.
و أما من قال: إنه لا إمام بعد الحسن عليه السلام، فقوله باطل بما دللنا عليه من أن الزمان لا يخلو من حجة لله عقلا و شرعا.
و أما من قال إن أبا محمد مات و يحيي بعد موته، فقوله باطل بمثل ما قلناه لانه يؤدي إلي خلو الخلق من إمام من وقت وفاته إلي حين يحييه الله، و احتجاجهم بما روي من أن صاحب هذا الامر يحيي بعد ما يموت و أنه سمي قائما لانه يقوم بعد ما يموت، باطل لان ذلک يحتمل لو صح الخبر أن يکون أراد بعد أن مات ذکره حتي لا يذکره إلا من يعتقد إمامته فيظهره الله لجميع الخلق علي أنا قد بينا أن کل إمام يقوم بعد الامام الاول يسمي قائما.
و أما القائلون بامامة عبد الله بن جعفر من الفطحية و جعفر بن علي فقولهم باطل بما دللنا عليه من وجوب عصمة الامام، و هما لم يکونا معصومين، و أفعالهما الظاهرة التي تنافي العصمة معروفة نقلها العلماء، و هو موجود في الکتب فلا نطول بذکرها الکتاب.
علي أن المشهور الذي لا مرية فيه بين الطائفة أن الامامة لا تکون في أخوين بعد الحسن و الحسين عليهما السلام فالقول بامامة جعفر بعد أخيه الحسن يبطل بذلک، فإذا ثبت بطلان هذه الاقاويل کلها لم يبق إلا القول بامامة ابن الحسن عليه السلام و إلا لادي إلي خروج الحق عن الامة و ذلک باطل.
و إذا ثبتت إمامته بهذه السياقة ثم وجدناه غائبا عن الابصار، علمنا أنه لم
[ صفحه 187]
يغب مع عصمته و تعين فرض الامامة فيه و عليه، إلا لسبب سوغه ذلک و ضرورة ألجأته إليه، و إن لم يعلم علي وجه التفصيل، و جري ذلک مجري الکلام في إيلام الاطفال و البهائم و خلق المؤذيات و الصور و المشينات و متشابه القرآن إذا سئلنا عن وجهها بأن نقول: إذا علمنا أن الله تعالي حکيم لا يجوز أن يفعل ما ليس بحکمة و لا صواب، علمنا أن هذه الاشياء لها وجه حکمة، و إن لم نعلمه معينا، کذلک نقول في صاحب الزمان فانا نعلم أنه لم يستتر إلا لامر حکمي سوغه ذلک، و إن لم نعلمه مفصلا.
فان قيل: نحن تعترض قولکم في إمامته بغيبته بأن نقول: إذا لم يمکنکم بيان وجه حسنها دل ذلک علي بطلان القول بإمامته، لانه لو صح لامکنکم بيان وجه الحسن فيه.
قلنا: إن لزمنا ذلک لزم جميع أهل العدل قول الملاحدة إذا قالوا إنا نتوصل بهذه الافعال التي ليست بظاهر الحکمة إلي أن فاعلها ليس بحکيم لانه لو کان حکيما لامکنکم بيان وجه الحکمة فيها و إلا فما الفصل؟ فإذا قلتم: نحن أولا نتکلم في إثبات حکمته فإذا ثبت بدليل منفصل ثم وجدنا هذه الافعال المشتبهة الظاهر حملناها علي ما يطابق ذلک فلا يؤدي إلي نقض ما علمنا و متي لم يسلموا لنا حکمته، انتقلت ال مسألة إلي القول في حکمته.
قلنا مثل ذلک ههنا، من أن الکلام في غيبته فرع علي إمامته و إذا علمنا إمامته بدليل و علمنا عصمته بدليل آخر و علمناه غاب، حملنا غيبته علي وجه يطابق عصمته فلا فرق بين الموضعين.
ثم يقال للمخالف: أ يجوز أن يکون للغيبة سبب صحيح اقتضاها، و وجه من الحکمة أوجبها أم لا يجوز ذلک.
فان قال: يجوز ذلک، قيل له: فإذا کان ذلک جائزا فکيف جعلت وجود الغيبة دليلا علي فقد الامام في الزمان، مع تجويزک لها سببا لا ينافي وجود الامام؟ و هل يجري ذلک إلا مجري من توصل بايلام الاطفال إلي نفي حکمة الصانع و هو معترف بأنه يجوز أن يکون في إيلامهم وجه صحيح لا ينافي الحکمة، أو من
[ صفحه 188]
توصل بظاهر الآيات المتشابهات إلي أنه تعالي مشبه للاجسام و خالق لافعال العباد مع تجويز أن تکون لها وجوه صحيحة توافق الحکمة و العدل و التوحيد و نفي التشبيه.
و إن قال: لا أجوز ذلک.
قيل: هذا تحجر شديد فيما لا يحاط بعلمه.
و لا يقطع علي مثله، فمن أين قلت: إن ذلک لا يجوز و انفصل ممن قال لا يجوز أن يکون للآيات المتشابهات وجوه صحيحة يطابق أدلة العقل و لا بد أن يکون علي ظواهرها، و متي قيل نحن متمکنون من ذکر وجوه الآيات المتشابهات مفصلا بل يکفيني علم الجملة و متي تعاطيت ذلک کان تبرعا، و إن أقنعتم أنفسکم بذلک فنحن أيضا نتمکن من ذکر وجه صحة الغيبة و غرض حکمي لا ينافي عصمته و سنذکر ذلک فيما بعد و قد تکلمنا عليه مستوفي في کتاب الامامة.
ثم يقال: کيف يجوز أن يجتمع صحة إمامة ابن الحسن عليه السلام بما بيناه من سياقة الاصول العقلية مع القول بأن الغيبة لا يجوز أن يکون لها سبب صحيح و هل هذا إلا تناقض و يجري مجري القول بصحة التوحيد و العدل، مع القطع علي أنه لا يجوز أن يکون للآيات المتشابهات وجه يطابق هذه الاصول و متي قالوا نحن لا نسلم إمامة ابن الحسن کان الکلام معهم في ثبوت الامامة، دون الکلام في سبب الغيبة، و قد تقدمت الدلالة علي إمامته عليه السلام بما لا يحتاج إلي إعادته و إنما قلنا ذلک لان الکلام في سبب غيبة الامام عليه السلام فرع علي ثبوت إمامته فأما قبل ثبوتها فلا وجه للکلام في سبب غيبته کما لا وجه للکلام في وجوه الآيات المتشابهات و إيلام الاطفال و حسن التعبد بالشرائع قبل ثبوت التوحيد و العدل.
فان قيل ألا کان السائل بالخيار بين الکلام في إمامة ابن الحسن ليعرف صحتها من فسادها و بين أن يتکلم في سبب الغيبة قلنا: لا خيار في ذلک لان من شک في إمامة ابن الحسن يجب أن يکون الکلام معه في نص إمامته و التشاغل بالدلالة عليها و لا يجوز مع الشک فيها أن يتکلم في سبب الغيبة لان الکلام في الفروع لا يسوغ إلا بعد إحکام الاصول لها، کما لا يجوز أن يتکلم في سبب إيلام الاطفال قبل
[ صفحه 189]
ثبوت حکمة القديم تعالي و أنه لا يفعل القبيح.
و إنما رجحنا الکلام في إمامته علي الکلام في غيبته و سببها لان الکلام في إمامته مبني علي امور عقلية لا يدخلها الاحتمال و سبب الغيبة ربما غمض و اشتبه فصار الکلام في الواضح الجلي أولي من الکلام في المشتبه الغامض کما فعلناه مع المخالفين للملة فرجحنا الکلام في نبوة نبينا علي الکلام علي ادعائهم تأبيد شرعهم لظهور ذلک و غموض هذا و هذا بعينه موجود ههنا، و متي عادوا إلي أن يقولوا: الغيبة فيها وجه من وجوه القبح فقد مضي الکلام عليه، علي أن وجوه القبح معقولة و هي کونه ظلما أو کذبا أو عبثا أو جهلا أو استفسادا و کل ذلک ليس بحاصل فيها فيجب أن لا يدعي فيه وجه القبح.
فان قيل: ألا منع الله الخلق من الوصول إليه، و حال بينهم و بينه، ليقوم بالامر و يحصل ما هو لطف لنا کما نقول في النبي إذا بعثه الله تعالي يمنع منه ما لم يؤد (الشرع) فکان يجب أن يکون حکم الامام مثله.
قلنا: المنع علي ضربين أحدهما لا ينافي التکليف بأن لا يلجأ إلي ترک القبيح و الآخر يؤدي إلي ذلک فالأَول قد فعله الله من حيث منع من ظلمه بالنهي عنه و الحث علي وجوب طاعته و الانقياد لامره و نهيه و أن لا يعصي في شيء من أوامره، و أن يساعد علي جميع ما يقوي أمره و يشيد سلطانه، فان جميع ذلک لا ينافي التکليف فإذا عصي من عصي في ذلک و لم يفعل ما يتم معه الغرض المطلوب، يکون قد اتي من قبل نفسه لا من قبل خالقه، و الضرب الآخر أن يحول بينهم و بينه بالقهر و العجز عن ظلمه و عصيانه، فذلک لا يصح اجتماعه مع التکليف فيجب أن يکون ساقطا.
فأما النبي صلي الله عليه و آله فانما نقول يجب أن يمنع الله منه حتي يؤدي الشرع لانه لا يمکن أن يعلم ذلک إلا من جهته فلذلک وجب المنع منه، و ليس کذلک الامام لان علة المکلفين مزاحة فيما يتعلق بالشرع، و الادلة منصوبة علي ما يحتاجون إليه، و لهم طريق إلي معرفتها من دون قوله، و لو فرضنا أنه ينتهي الحال إلي حد لا يعرف الحق من الشرعيات إلا بقوله لوجب أن يمنع الله تعالي منه و يظهره بحيث
[ صفحه 190]
لا يوصل إليه مثل النبي صلي الله عليه و آله.
و نظير مسألة الامام أن النبي إذا أدي ثم عرض فيما بعد ما يوجب خوفه لا يجب علي الله المنع منه، لان علة المکلفين قد انزاحت بما أداه إليهم فلهم طريق إلي معرفة لطفهم أللهم إلا أن يتعلق به أداء آخر في المستقبل فانه يجب المنع منه کما يجب في الابتداء، فقد سوينا بين النبي و الامام.
فان قيل: بينوا علي کل حال و إن لم يجب عليکم وجه علة الاستتار، و ما يمکن أن يکون علة علي وجه ليکون أظهر في الحجة و أبلغ في باب البرهان؟ قلنا مما يقطع علي أنه سبب لغيبة الامام هو خوفه علي نفسه بالقتل باخافة الظالمين إياه و منعهم إياه من التصرف فيما جعل إليه التدبير و التصرف فيه، فإذا حيل بينه و بين مراده، سقط فرض القيام بالامامة، و إذا خاف علي نفسه وجبت غيبته و لزم استتاره کما استتر النبي صلي الله عليه و آله تارة في الشعب و اخري في الغار، و لا وجه لذلک إلا الخوف من المضار الواصلة إليه.
و ليس لاحد أن يقول: إن النبي صلي الله عليه و آله ما استتر عن قومه إلا بعد أدائه إليهم ما وجب عليه أداؤه و لم يتعلق بهم إليه حاجة و قولکم في الامام بخلاف ذلک و أيضا فان استتار النبي صلي الله عليه و آله ما طال و لا تمادي، و استتار الامام قد مضت عليه الدهور، و انقرضت عليه العصور.
و ذلک أنه ليس الامر علي ما قالوه لان النبي صلي الله عليه و آله إنما استتر في الشعب و الغار بمکة قبل الهجرة و ما کان أدي جميع الشريعة فان أکثر الاحکام و معظم القرآن نزل بالمدينة فکيف أوجبتم أنه کان بعد الاداء و لو کان الامر علي ما قالوه من تکامل الاداء قبل الاستتار، لما کان ذلک رافعا للحاجة إلي تدبيره و سياسته و أمره و نهيه، فان أحدا لا يقول إن النبي صلي الله عليه و آله بعد أداء الشرع محتاج إليه و لا مفتقر إلي تدبيره، و لا يقول ذلک معاند.
و هو الجواب عن قول من قال إن النبي صلي الله عليه و آله ما يتعلق من مصلحتنا قد أداه و ما يؤدي في المستقبل لم يکن في الحال مصلحة للخلق فجاز لذلک الاستتار، و ليس
[ صفحه 191]
کذلک الامام عندکم لان تصرفه في کل حال لطف للخلق، فلا يجوز له الاستتار علي وجه، و وجب تقويته و المنع منه، ليظهر و ينزاح علة المکلف لانا قد بينا أن النبي صلي الله عليه و آله مع أنه أدي المصلحة التي تعلقت بتلک الحال، لم يستغن عن أمره و نهيه و تدبيره، بلا خلاف بين المحصلين، و مع هذا جاز له الاستتار، فکذلک الامام.
علي أن أمر الله تعالي له بالاستتار في الشعب تارة، و في الغار اخري فضرب من المنع منه لانه ليس کل المنع أن يحول بينهم و بينه بالعجز أو بتقويته بالملائکة لانه لا يمتنع أن يفرض في تقويته بذلک مفسدة في الدين فلا يحسن من الله فعله و لو کان خاليا من وجوه الفساد و علم الله أنه يقتضيه المصلحة لقواه بالملائکة، و حال بينهم و بينه، فلما لم يفعل ذلک مع ثبوت حکمته، و وجوب إزاحة علة المکلفين علمنا أنه لم يتعلق به مصلحة بل مفسدة، و کذلک نقول في الامام أن الله فعل من قتله بأمره بالاستتار و الغيبة، و لو علم أن المصلحة يتعلق بتقويته بالملائکة لفعل، فلما لم يفعل مع ثبوت حکمته، و وجوب إزاحة علة المکلفين في التکليف، علمنا أنه لم يتعلق به مصلحة، بل ربما کان فيه مفسدة.
بل الذي نقول أن في الجملة يجب علي الله تعالي تقوية يد الامام، بما يتمکن معه من القيام و ينبسط يده، و يمکن ذلک بالملائکة و بالبشر، فإذا لم يفعله بالملائکة علمنا أنه لاجل أنه تعلق به مفسدة، فوجب أن يکون متعلقا بالبشر فإذا لم يفعلوه اتوا من قبل نفوسهم لا من قبله تعالي، فيبطل بهذا التحرير جميع ما يورد من هذا الجنس و إذا جاز في النبي صلي الله عليه و آله أن يستتر مع الحاجة إليه لخوف الضرر، و کانت التبعة في ذلک لازمة لمخيفيه و محوجيه إلي الغيبة، فکذلک غيبة الامام سواء.
فأما التفرقة بطول الغيبة و قصرها فغير صحيحة لانه لا فرق في ذلک بين القصير المنقطع و الطويل الممتد لانه إذا لم يکن في الاستتار لائمة علي المستتر إذا احوج إليه بل اللائمة علي من أحوجه إليها جاز أن يتطاول سبب الاستتار کما جاز أن يقصر زمانه.
[ صفحه 192]
فان قيل: إذا کان الخوف أحوجه إلي الاستتار، فقد کان آباؤه عندکم علي تقية و خوف من أعدائهم، فکيف لم يستتروا؟ قلنا ما کان علي آبائه عليهم السلام خوف من أعدائه مع لزوم التقية، و العدول عن التظاهر بالامامة، و نفيها عن نفوسهم، و إمام الزمان کل الخوف عليه لانه يظهر بالسيف، و يدعو إلي نفسه، و يجاهد من خالفه عليه، فأي تشبه بين خوفه من الاعداء و خوف آبائه عليهم السلام لو لا قلة التأمل.
علي أن آباءه عليهم السلام متي قتلوا أو ماتوا کان هناک من يقوم مقامهم، و يسد مسدهم يصلح للامامة من أولاده و صاحب الامر بالعکس من ذلک لان المعلوم أنه لا يقوم أحد مقامه و لا يسد مسده، فبان الفرق بين الامرين.
و قد بينا فيما تقدم الفرق بين وجوده غائبا لا يصل إليه أحد أو أکثر، و بين عدمه حتي إذا کان المعلوم التمکن بالامر يوجده.
و کذلک قولهم: ما الفرق بين وجوده بحيث لا يصل إليه أحد و بين وجوده في السماء بأن قلنا إذا کان موجودا في السماء بحيث لا يخفي عليه أخبار أهل الارض فالسماء کالارض و إن کان يخفي عليه أمرهم فذلک يجري مجري عدمه، ثم يقلب عليهم في النبي صلي الله عليه و آله بأن يقال: أي فرق بين وجوده مستترا و بين عدمه و کونه في السماء فأي شيء قالوه قلنا مثله علي ما مضي القول فيه.
و ليس لهم أن يفرقوا بين الامرين بأن النبي صلي الله عليه و آله ما استتر من کل أحد و إنما استتر من أعدائه و إمام الزمان مستتر عن الجميع لانا أولا لانقطع علي أنه مستتر عن جميع أوليائه و التجويز في هذا الباب کاف علي أن النبي صلي الله عليه و آله لما استتر في الغار کان مستترا من أوليائه و أعدائه، و لم يکن معه إلا أبو بکر وحده و قد کان يجوز أن يستتر بحيث لا يکون معه أحد من ولي و لا عدو إذا اقتضت المصلحة ذلک.
فان قيل: فالحدود في حال الغيبة ما حکمها؟ فان سقطت عن الجاني علي ما يوجبها الشرع فهذا نسخ الشريعة، و إن کانت باقية فمن يقيمها؟ قلنا الحدود
[ صفحه 193]
المستحقة باقية في جنوب مستحقيها فان ظهر الامام و مستحقوها باقون أقامها عليهم بالبينة أو الاقرار و إن کان فات ذلک بموته کان الاثم في تفويتها علي من أخاف الامام و ألجأه إلي الغيبة.
و ليس هذا نسخا لاقامة الحدود لان الحد إنما يجب إقامته مع التمکن و زوال المنع، و يسقي مع الحيلولة، و إنما يکون ذلک نسخا لو سقط إقامتها مع الامکان، و زوال الموانع، و يقال لهم ما تقولون في الحال التي لا يتمکن أهل الحل و العقد من اختيار الامام، ما حکم الحدود؟ فان قلتم سقطت، فهذا نسخ علي ما ألزمتمونا و إن قلتم هي باقية في جنوب مستحقيها فهو جوابنا بعينه.
فان قيل: قد قال أبو علي إن في الحال التي لا يتمکن أهل الحل و العقد من نصب الامام يفعل الله ما يقوم مقام اقامة الحدود و ينزاح علة المکلف و قال أبو هاشم إن اقامة الحدود دنياوية لا تعلق لها بالدين.
قلنا: أما ما قاله أبو علي فلو قلنا مثله ما ضرنا لان اقامة الحدود ليس هو الذي لاجله أوجبنا الامام حتي إذا فات إقامته انتقص دلالة الامامة بل ذلک تابع للشرع، و قد قلنا إنه لا يمتنع أن يسقي فرض إقامتها في حال انقباض يد الامام أو تکون باقية في جنوب أصحابها و کما جاز ذلک جاز أيضا أن يکون هناک ما يقوم مقامها فإذا صرنا إلي ما قاله لم ينتقض علينا أصل.
و أما ما قاله أبو هاشم من أن ذلک لمصالح الدنيا فبعيد لان ذلک عبادة واجبة و لو کان لمصلحة دنياوية لما وجبت.
علي أن اقامة الحدود عنده علي وجه الجزاء و النکال جزء من العقاب و إنما قدم في دار الدنيا بعضه، لما فيه من المصلحة، فکيف يقول مع ذلک أنه لمصالح دنياوية فبطل ما قالوه.
فان قيل: کيف الطريق إلي إصابة الحق مع غيبة الامام فان قلتم: لا سبيل إليها جعلتم الخلق في حيرة و ضلالة، و شک في جميع أمورهم، و إن قلتم يصاب الحق بأدلته، قيل لکم: هذا تصريح بالاستغناء عن الامام بهذه الادلة.
[ صفحه 194]
قلنا: الحق علي ضربين عقلي و سمعي فالعقلي يصاب بأدلته و السمعي عليه أدلة منصوبة من أقوال النبي صلي الله عليه و آله و نصوصه و أقوال الائمة من ولده و قد بينوا ذلک و أوضحوه، و لم يترکوا منه شيئا لا دليل عليه، أن هذا و إن کان علي ما قلناه، فالحاجة إلي الامام قد بينا ثبوتها لان جهة الحاجة المستمرة في کل حال و زمان کونه لطفا لنا علي ما تقدم القول فيه، و لا يقوم غيره مقامه، و الحاجة المتعلقة بالسمع أيضا ظاهرة لج ن النقل و إن کان واردا عن الرسول صلي الله عليه و آله و عن آباء الامام عليه السلام بجميع ما يحتاج إليه في الشريعة فجائز علي الناقلين العدول عنه إما تعمدا و إما لشبهة فيقطع النقل أو يبقي فيمن لا حجة في نقله و قد استوفينا هذه الطريقة في تلخيص الشافي فلا نطول بذکره.
فان قيل: لو فرضنا أن الناقلين کتموا: بعض منهم الشريعة و احتيج إلي بيان الامام و لم يعلم الحق إلا من جهته، و کان خوف القتل من أعدائه مستمرا کيف يکون الحال؟ فان قلتم يظهر و إن خاف القتل، فيجب أن يکون خوف القتل مبيح له الاستتار، و يلزم ظهوره، و إن قلتم لا يظهر و سقط التکليف في ذلک الشيء المکتوم عن الامة خرجتم من الاجماع لانه منعقد علي أن کل شيء شرعه النبي صلي الله عليه و آله و أوضحه فهو لازم للامة إلي أن يقوم الساعة فان قلتم إن التکليف لا يسقط صرحتم بتکليف ما لا يطاق، و إيجاب العمل بما لا طريق إليه.
قلنا: قد أجبنا عن هذا السوأل في التلخيص مستوفي و جملته أن الله تعالي لو علم أن النقل ببعض الشرع المفروض ينقطع في حال تکون تقية الامام فيها مستمرة، و خوفه من الاعداء باقيا، لاسقط ذلک عمن لا طريق له إليه، فإذا علمنا بالاجماع أن تکليف الشرع مستمر ثابت علي جميع الامة إلي قيام الساعة علمنا عند ذلک أنه لو اتفق انقطاع النقل لشيء من الشرع لما کان ذلک إلا في حال يتمکن فيها الامام من الظهور و البروز و الاعلام و الانذار.
و کان المرتضي ره يقول أخيرا: لا يمتنع أن يکون هاهنا امور کثيرة واصلة إلينا هي مودعة عند الامام، و إن کان قد کتمها الناقلون و لم ينقلوها، و لم
[ صفحه 195]
يلزم مع ذلک سقوط التکليف عن الخلق لانه إذا کان سبب الغيبة خوفه علي نفسه من الذين أخافوه، فمن أحوجه إلي الاستتار اتي من قبل نفسه في فوت ما يفوته من الشرع، کما أنه اتي من قبل نفسه فيما يفوته من تأديب الامام و تصرفه من حيث أحوجه إلي الاستتار، و لو أزال خوفه لظهر، فيحصل له اللطف بتصرفه و تبين له ما عنده فما انکتم عنه، فإذا لم يفعل و بقي مستترا اتي من قبل نفسه في الامرين و هذا قوي يقتضيه الاصول.
و في أصحابنا من قال: إن علة استتاره عن أوليائه خوفه من أن يشيعوا خبره، و يتحدثوا باجتماعهم معه سرورا، فيؤدي ذلک إلي الخوف من الاعداء و إن کان مقصود.
و هذا الجواب يضعف لان عقلاء شيعته لا يجوز أن يخفي عليهم ما في إظهار اجتماعهم معه من الضرر عليه و عليهم فکيف يخبرون بذلک مع علمهم بما عليهم فيه من المضرة العامة، و إن جاز علي الواحد و الاثنين لا يجوز علي جماعة شيعته الذين لا يظهر لهم.
علي أن هذا يلزم عليه أن يکون شيعته قد عدموا الانتقاع به علي وجه لا يتمکنون من تلافيه و إزالته لانه إذا علق الاستتار بما يعلم من حالهم أنهم يفعلونه، فليس في مقدورهم الآن ما يقتضي ظهور الامام و هذا يقتضي سقوط التکليف الذي الامام لطف فيه عنهم.
و في أصحابنا من قال: علة استتاره عن الاولياء ما يرجع إلي الاعداء، لان انتفاع جميع الرعية من ولي و عدو بالامام إنما يکون بأن ينفذ أمره ببسط يده فيکون ظاهرا متصرفا بلا دافع و لا منازع، و هذا مما المعلوم أن الاعداء قد حالوا دونه و منعوا منه.
قالوا: و لا فائدة في ظهوره سرا لبعض أوليائه لان النفع المبتغي من تدبير الامة لا يتم إلا بظهوره للکل و نفوذ الامر، فقد صارت العلة في استتار الامام علي الوجه الذي هو لطف و مصلحة للجميع واحدة.
و يمکن أن يعترض هذا الجواب بأن يقال: إن الاعداء و إن حالوا بينه و بين
[ صفحه 196]
الظهور علي وجه التصرف و التدبير، فلم يحولوا بينه و بين لقاء من شاء من أوليائه علي سبيل الاختصاص، و هو يعتقد طاعته و يوجب اتباع أوامره، فان کان لا نفع في هذا اللقاء لاجل الاختصاص لانه نافذ الامر للکل فهذا تصريح بأنه لا انتفاع للشيعة الامامية بلقاء أئمتها من لدن وفاة أمير المؤمنين إلي أيام الحسن بن علي إلي القائم عليه السلام لهذه العلة.
و يوجب أيضا أن يکون أوليآء أمير المؤمنين عليه السلام و شيعته لم يکن لهم بلقائه انتفاع قبل انتقال الامر إلي تدبيره و حصوله في يده و هذا بلوغ من قائله إلي حد لا يبلغه متأمل، علي أنه لو سلم أن الانتفاع بالامام لا يکون إلا مع الظهور لجميع الرعية و نفوذ أمره فيهم لبطل قولهم من وجه آخر و هو أنه يؤدي إلي سقوط التکليف الذي الامام لطف فيه عن شيعته لانه إذا لم يظهر لهم العلة لا يرجع إليهم و لا کان في قدرتهم و إمکانهم إزالته فلا بد من سقوط التکليف عنهم لانه لو جاز أن يمنع قوم من المکلفين غيرهم لطفهم، و يکون التکليف الذي ذلک اللطف لطف فيه مستمرا عليهم، لجاز أن يمنع بعض المکلفين غيره بقيد و ما أشبهه من المشي علي وجه لا يمکن من إزالته، و يکون تکليف المشي مع ذلک مستمرا علي الحقيقة.
و ليس لهم أن يفرقوا بين القيد و بين اللطف من حيث کان القيد يتعذر معه الفعل و لا يتوهم وقوعه و ليس کذلک فقد اللطف لان أکثر أهل العدل علي أن فقد اللطف کفقد القدرة و الآلة و أن التکليف مع فقد اللطف فيمن له لطف معلوم کالتکليف مع فقد القدرة و الآلة و و إود الموانع، و أن من لم يفعل له اللطف ممن له لطف معلوم مزاح العلة في التکليف کما أن الممنوع مزاح العلة.
و الذي ينبغي أن يجاب عن السوأل الذي ذکرناه عن المخالف أن نقول: إنا أولا لانقطع علي استتاره عن جميع أوليائه بل يجوز أن يظهر لاکثرهم و لا يعلم کل إنسان إلا حال نفسه، فان کان ظاهرا له فعلته مزاحة و إن لم يکن ظاهرا له علم أنه إنما لم يظهر له لامر يرجع إليه و إن لم يعلمه مفصلا لتقصير من جهته و إلا لم يحسن تکليفه.
[ صفحه 197]
فإذا علم بقاء تتکليفه عليه و استتار الامام عنه، علم أنه لامر يرجع إليه، کما يقول جماعتنا فيمن لم ينظر في طريق معرفة الله تعالي فلم يحصل له العلم وجب أن يقطع علي أنه إنما لم يحصل لتقصير يرجع إليه و إلا وجب إسقاط تکليفه، و إن لم يعلم ما الذي وقع تقصيره فيه.
فعلي هذا التقدير أقوي ما يعلل به ذلک أن الامام إذا ظهر و لا يعلم شخصه و عينه من حيث المشاهدة، فلا بد من أن يظهر عليه علم معجز يدل علي صدقه و العلم بکون الشيء معجزا يحتاج إلي نظر يجوز أن يعترض فيه شبهة، فلا يمنع أن يکون المعلوم من حال من لم يظهر له أنه متي ظهر و أظهر المعجز لم ينعم النظر فيدخل فيه شبهة، و يعتقد أنه کذاب و يشيع خبره فيؤدي إلي ما تقدم القول فيه.
فان قيل: أي تقصير وقع من الولي الذي لم يظهر له الامام لاجل هذا المعلوم من حاله، وأي قدرة له علي النظر فيما يظهر له الامام معه و إلي أي شيء يرجع في تلافي ما يوجب غيبته.
قلنا: ما أحلنا في سبب الغيبة عن الاولياء إلا علي معلوم يظهر موضع التقصير فيه و إمکان تلافيه، لانه ممتنع أن يکون من المعلوم من حاله أنه متي ظهر له الامام قصر في النظر في معجزه، فانما اتي في ذلک لتقصيره الحاصل في العلم بالفرق بين المعجز و الممکن، و الدليل من ذلک و الشبهة، و لو کان من ذلک علي قاعدة صحيحة لم يجز أن يشتبه عليه معجز الامام عند ظهوره له، فيجب عليه تلافي هذا التقصير و استدراکه.
و ليس لاحد أن يقول: هذا تکليف لما لا يطاق و حوالة علي غيب، لان هذا الولي ليس يعرف ما قصر فيه بعينه من النظر و الاستدلال فيستدرکه حتي يتمهد في نفسه و يتقرر، و نراکم تلزمونه ما لا يلزمه، و ذلک إنما يلزم في التکليف قد يتميز تارة و يشتبه اخري بغيره، و إن کان التمکن من الامرين ثابتا حاصلا، فالولي علي هذا إذا حاسب نفسه ورأي أن الامام لا يظهر له و أفسد أن يکون السبب في الغيبة ما ذکرناه من الوجوه الباطلة و أجناسها علم أنه لابد من سبب يرجع إليه.
[ صفحه 198]
و إذا علم أن أقوي العلل ما ذکرناه علم أن التقصير واقع من جهته في صفات المعجز و شروطه، فعليه معاودة النظر في ذلک عند ذلک، و تخليصه من الشوائب و ما يوجب الالتباس، فانه من اجتهد في ذلک حق الاجتهاد، و و في النظر شروطه فانه لابد من وقوع العلم بالفرق بين الحق و الباطل، و هذه المواضع الانسان فيها علي نفسه بصيرة، و ليس يمکن أن يؤمر فيها بأکثر من التناهي في الاجتهاد و البحث و الفحص و الاستسلام للحق و قد بينا أن هذا نظير ما نقول لمخالفينا إذا نظروا في أدلتنا و لم يحصل لهم العلم سواء.
فان قيل: لو کان الامر علي ما قلتم لوجب أن لا يعلم شيئا من المعجزات في الحال و هذا يؤدي إلي أن لا يعلم النبوة و صدق الرسول و ذلک يخرجه عن الاسلام فضلا عن الايمان.
قلنا: لا يلزم ذلک لانه لا يمتنع أن يدخل الشبهة في نوع من المعجزات دون نوع، و ليس إذا دخلت الشبهة في بعضها دخل في سائرها، فلا يمتنع أن يکون المعجز الدال علي النبوة لم يدخل عليه فيه شبهة، فحصل له العلم بکونه معجزا و علم عند ذلک نبوة النبي صلي الله عليه و آله و المعجز الذي يظهر علي يد الامام إذا ظهر يکون أمرا آخرا يجوز أن يدخل عليه الشبهة في کونه معجزا فيشک حينئذ في إمامته و إن کان عالما بالنبوة، و هذا کما نقول أن من علم نبوة موسي عليه السلام بالمعجزات الدالة علي ثبوته إذا لم ينعم النظر في المعجزات الظاهرة علي عيسي و نبينا محمد صلي الله عليه و آله لا يجب أن يقطع علي أنه ما عرف تلک المعجزات لانه لا يمتنع أن يکون عارفا بها و بوجه دلالتها و إن لم يعلم هذه المعجزات و اشتبه عليه وجه دلالتها.
فان قيل: فيجب علي هذا أن يکون کل من لم يظهر له الامام يقطع علي أنه علي کبيرة تلحق بالکفر لانه مقصر علي ما فرضتموه فيما يوجب غيبة الامام عنه و يقتضي فوت مصلحته، فقد لحق الولي علي هذا بالعدو.
قلنا: ليس يجب في التقصير الذي أشرنا إليه أن يکون کفرا و لا ذنبا عظيما لانه في هذه الحال ما اعتقد الامام أنه ليس بإمام و لا أخافه علي نفسه و إنما قصر
[ صفحه 199]
في بعض العلوم تقصيرا کان کالسبب في أن علم من حاله أن ذلک الشک في الامامة يقع منه مستقبلا و الآن فليس بواقع، فغير لازم أنه يکون کافرا، أنه و إن لم يلزم أن يکون کفرا و لا جاريا مجري تکذيب الامام و الشک في صدقه فهو ذنب و خطأ لا ينافيان الايمان و استحقاق الثواب و لن يلحق الولي بالعدو علي هذا التقدير، لان العدو في الحال معتقد في الامام ما هو کفر و کبيرة و الولي بخلاف ذلک.
و إنما قلنا إن ما هو کالسبب في الکفر لا يجب أن يکون کفرا في الحال أن أحدا لو اعتقد في القادر منا بقدرة أنه يصح أن يفعل في غيره من الاجسام مبتدءا کان ذلک خطأ و جهلا ليس بکفر و لا يمتنع أن يکون المعلوم من حال هذا المعتقد أنه لو ظهر نبي يدعو إلي نبوته، و جعل معجزه أن يفعل الله تعالي علي يده جسما بحيث لا يصل إليه أسباب البشر أنه لا يقبله، و هذا لا محالة لو علم أنه معجز کان يقبله، و ما سبق من اعتقاده في مقدور العبد، کان کالسبب في هذا، و لم يلزم أن يجري مجراه في الکفر.
فان قيل: إن هذا الجواب أيضا لا يستمر علي أصلکم لان الصحيح من مذهبکم أن من عرف الله تعالي بصفاته و عرف النبوة و الامامة و حصل مؤمنا لا يجوز أن يقع منه کفر أصلا فإذا ثبت هذا فکيف يمکنکم أن تجعلوا علة الاستتار عن الولي أن المعلوم من حاله أنه إذا ظهر الامام فظهر علم معجز شک فيه و لا يعرفه، و إن الشک في ذلک کفر.
و ذلک ينقض أصلکم الذي صححتموه.
قيل: هذا الذي ذکرتموه ليس بصحيح لان الشک في المعجز الذي يظهر علي يد الامام ليس بقادح في معرفته لعين الامام علي طريق الجملة و إنما يقدح في أن ما علم علي طريق الجملة و صحت معرفته، هل هو هذا الشخص أم لا؟ و الشک في هذا ليس بکفر لانه لو کان کفرا لوجب أن يکون کفرا و إن لم يظهر المعجز، فانه لا محالة قبل ظهور هذا المعجز علي يده شاک فيه، و يجوز کونه إماما و کون غيره کذلک، و إنما يقدح في العلم الحاصل له علي طريق الجملة
[ صفحه 200]
أن لو شک في المستقبل في إمامته علي طريق الجملة، و ذلک مما يمنع من وقوعه منه مستقبلا.
و کان المرتضي ره يقول: سؤال المخالف لنا: لم لا يظهر الامام للاولياء؟ لازم لا (نه) إن کان غرضه أن لطف الولي حاصل، فلا يحصل تکليفه فانه لا يتوجه فان لطف الولي حاصل لانه إذا علم الولي أن له إماما غائبا يتوقع ظهوره ساعة، و يجوز انبساط يده في کل حال فان خوفه من تأديبه حاصل، و ينزجر لمکانه عن المقبحات، و يفعل کثيرا من الواجبات فيکون حال غيبته کحال کونه في بلد آخر بل ربما کان في حال الاستتار أبلغ لانه مع غيبته يجوز أن يکون معه في بلده و في جواره، و يشاهده من حيث لا يعرفه و لا يقف علي أخباره، و إذا کان في بلد آخر ربما خفي عليه خبره فصار حال الغيبة الانزجار حاصلا عن القبيح علي ما قلناه، و إذا لم يکن قد فاتهم اللطف جاز استتاره عنهم و إن سلم أنه يحصل ما هو لطف لهم و مع ذلک يقال لم لا يظهر لهم قلنا ذلک واجب علي کل حال فسقط السوأل من أصله.
علي أن لطفهم بمکانه حاصل من وجه آخر و هو أن بمکانه يثقون جميع الشرع إليهم و لولاه لما وثقوا بذلک، و جوزوا أن يخفي عليهم کثير من الشرع و ينقطع دونهم، و إذا علموا وجوده في الجملة أمنوا جميع ذلک، فکان اللطف بمکانه حاصلا من هذا الوجه أيضا.
و قد ذکرنا فيما تقدم أن ستر ولادة صاحب الزمان ليس بخارق العادات إذ جري أمثال ذلک فيما تقدم من أخبار الملوک و قد ذکره العلماء من الفرس و من روي أخبار الدوليين، من ذلک ما هو مشهور کقصة کيخسرو و ما کان من ستر امه حملها و إخفاء ولادتها و امه بنت ولد أفر اسياب ملک الترک و کان جده کيقاووس أراد قتل ولده فسترته امه إلي أن ولدته و کان من قصته ما هو مشهور في کتب التواريخ ذکره الطبري.
و قد نطق القرآن بقصة إبراهيم و أن امه ولدته خفيا و غيبته في المغارة
[ صفحه 201]
حتي بلغ و کان من أمره ما کان، و ما کان من قصة موسي عليه السلام و أن امه ألقته في البحر خوفا عليه و إشفاقا من فرعون عليه و ذلک مشهور نطق به القرآن و مثل ذلک قصة صاحب الزمان سواء فکيف يقال إن هذا خارج عن العادات.
و من الناس من يکون له ولد من جارية يستترها من زوجته برهة من الزمان حتي إذا حضرته الوفاة أقر به و في الناس من يستتر أمر ولده خوفا من أهله أن يقتلوه طمعا في ميراثه، قد جرت العادات بذلک فلا ينبغي أن يتعجب من مثله في صاحب الزمان و قد شاهدنا من هذا الجنس کثيرا و سمعنا منه قليل فلا نطول بذکره لانه معلوم بالعادات و کم وجدنا من ثبت نسبه بعد موت أبيه بدهر طويل و لم يکن أحد يعرفه إذا شهد بنسبه رجلان مسلمان و يکون أشهدهما علي نفسه سرا عن أهله و خوفا من زوجته و أهله فوصي به فشهدا بعد موته أو شهدا بعقده علي إمرأة عقدا صحيحا فجاءت بولد يمکن أن يکون منه فوجب بحکم الشرع إلحاقه به و الخبر بولادة ابن الحسن وارد من جهات أکثر مما يثبت الانساب في الشرع و نحن نذکر طرفا من ذلک فيما بعد إنشاء الله تعالي.
و أما إنکار جعفر بن علي عم صاحب الزمان شهادة الامامية بولد لاخيه الحسن بن علي ولد في حياته، و دفعه بذلک وجوده بعده و أخذه ترکته و حوزه ميراثه و ما کان منه في حمله سلطان الوقت علي حبس جواري الحسن و استبذالهن بالاستبراء من الحمل ليتأکد نفيه لولد أخيه و إباحته دماء شيعته بدعواهم خلفا له بعده کان أحق بمقامه، فليس لشبهة يعتمد علي مثلها أحد من المحصلين لاتفاق الکل علي أن جعفرا لم يکن له عصمة کعصمة الانبياء فيمتنع عليه لذلک إنکار حق و دعوي باطل، بل الخطاء جائز عليه، و الغلط ممتنع منه، و قد نطق القرآن بما کان من ولد يعقوب مع أخيهم يوسف و طرحهم إياه في الجب و بيعهم إياه بالثمن البخس و هم أولاد الانبياء.
و في الناس من يقول: کانوا أنبياء، فإذا جاز منهم مثل ذلک مع عظم الخطاء فيه فلم لا يجوز مثله من جعفر بن علي مع ابن أخيه، و أن يفعل معه من الجحد طمعا
[ صفحه 202]
في الدنيا و نيلها، و هل يمنع من ذلک أحد إلا مکابر معاند.
فان قيل: کيف يجوز أن يکون للحسن بن علي ولد مع إسناده وصيته في مرضه الذي توفي فيه إلي والدته المسماة بحديث المکناة بام الحسن بوقوفه و صدقاته و أسند النظر إليها في ذلک و لو کان له ولد لذکره في الوصية.
قيل: إنما فعل ذلک قصدا إلي تمام ما کان غرضه في إخفاء ولادته، و ستر حاله عن سلطان الوقت، و لو ذکر ولده أو أسند وصيته إليه لناقض غرضه خاصة و و هو احتاج إلي الاشهاد عليها وجوه الدولة و أسباب السلطان، و شهود القضاة ليتحرس بذلک وقوفه و يتحفظ صدقاته و يتم به الستر علي ولده بإهمال ذکره و حراسة مهجته بترک التنبيه علي وجوده.
و من ظن أن ذلک دليل علي بطلان دعوي الامامية في وجود ولد للحسن عليه السلام کان بعيدا من معرفة العادات و قد فعل نظير ذلک الصادق جعفر بن محمد عليه السلام حين أسند وصيته إلي خمسة نفر أولهم المنصور إذ کان سلطان الوقت، و لم يفرد ابنه موسي عليه السلام بها إبقاء عليه، و أشهد معه الربيع و قاضي الوقت و جاريته ام ولده حميدة البربرية و ختمهم بذکر ابنه موسي بن جعفر عليه السلام لستر أمره و حراسة نفسه و لم يذکر مع ولده موسي أحدا من أولاده الباقين لعله کان فيهم من يدعي مقامه بعده، و يتعلق بإدخاله في وصيته، و لو لم يکن موسي ظاهرا مشهورا في أولاده معروف المکان منه، و صحة نسبه و اشتهار فضله و علمه، العنبر لما ذکره في وصيته، و لاقتصر علي ذکر غيره، کما فعل الحسن بن علي والد صاحب الزمان.
فان قيل: قولکم أنه منذ ولد صاحب الزمان إلي وقتنا هذا مع طول المدة لا يعرف أحد مکانه، و لا يعلم مستقره و لا يأتي بخبره من يوثق بقوله، خارج عن العادة، لان کل من اتفق له الاستتار عن ظالم لخوف منه علي نفسه أو لغير ذلک من الاغراض يکون مدة استتاره قريبة و لا يبلغ عشرين سنة و لا يخفي أيضا عن الکل في مدة استتاره مکانه، و لا بد من أن يعرف فيه بعض أوليائه و أهله
[ صفحه 203]
مکانه أو يخبره بلقائه و قولکم بخلاف ذلک.
قلنا: ليس الامر علي ما قلتم لان الامامية تقول: إن جماعة من أصحاب أبي محمد الحسن بن علي عليه السلام قد شاهدوا وجوده في حياته و کانوا أصحابه و خاصته بعد وفاته، و الوسائط بينه و بين شيعته، معروفون بما ذکرناهم فيما بعد، ينقلون إلي شيعته معالم الدين، و يخرجون إليهم أجوبته في مسائلهم فيه، و يقبضون منهم حقوقه و هم جماعة کان الحسن بن علي عليه السلام عدلهم في حياته، و اختصهم امناء له في وقته، و جعل إليهم النظر في أملاکه و القيام باموره بأسمائهم و أنسابهم و أعيانهم کأبي عمرو عثمان بن سعيد السمان، و ابنه أبي جعفر محمد بن عثمان بن سعيد، و غيرهم ممن سنذکر أخبارهم فيما بعد إنشاء الله، و کانوا أهل عقل و أمانة، و ثقة ظاهرة، و دراية، و فهم، و تحصيل، و نباهة کانوا معظمين عند سلطان الوقت لعظم أقدارهم و جلالة محلهم مکرمين لظاهر أمانتهم و اشتهار عدالتهم حتي أنه يدفع عنهم ما يضيفه إليهم خصومهم، و هذا يسقط قولکم إن صاحبکم لم يره أحد و دعواهم خلافه.
فأما بعد انقراض أصحاب أبيه فقد کان مدة من الزمان أخباره واصلة من جهة السفراء الذين بينه و بين شيعته و يوثق بقولهم و يرجع إليهم لدينهم و أمانتهم و ما اختصوا به من الدين و النزاهة، و ربما ذکرنا طرفا من أخبارهم فيما بعد.
و قد سبق الخبر عن آبائه عليهم السلام بأن القائم له غيبتان اخراهما أطول من الاولي، فالأَولي يعرف فيها خبره، و الاخري لا يعرف فيها خبره، فجاء ذلک موافقا لهذه الاخبار، فکان ذلک دليلا ينضاف إلي ما ذکرناه، و سنوضح عن هذه الطريقة فيما بعد إنشاء الله تعالي.
فأما خروج ذلک عن العادات فليس الامر علي ما قالوه و لو صح لجاز أن ينقض الله تعالي العادة في ستر شخص و يخفي أمره لضرب من المصلحة و حسن التدبير لما يعرض من المانع من ظهوره.
و هذا الخضر عليه السلام موجود قبل زماننا من عهد موسي عليه السلام عند أکثر الامة
[ صفحه 204]
و إلي وقتنا هذا باتفاق أهل السير، لا يعرف مستقره و لا يعرف أحد له أصحابا إلا ما جاء به القرآن من قصته مع موسي و ما يذکره بعض الناس أنه يظهر أحيانا و يظن من يراه أنه بعض الزهاد، فإذا فارق مکانه توهمه المسمي بالخضر و لم يکن عرفه بعينه في الحال و لاظنه فيها، بل اعتقد أنه بعض أهل الزمان.
و قد کان من غيبة موسي بن عمران عن وطنه و هربه من فرعون و رهطه ما نطق به القرآن و لم يظفر به أحد مدة من الزمان و لا عرفه بعينه، حتي بعثه الله نبيا و دعا إلي فعرفه الولي و العدو.
و کان من قصة يوسف بن يعقوب ما جاء به سورة في القرآن و تضمنت استتار خبره عن أبيه و هو نبي الله يأتيه الوحي صباحا و مساء يخفي عليه خبر ولده، و عن ولده أيضا حتي أنهم کانوا يدخلون عليه و يعاملونه و لا يعرفونه و حتي مضت علي ذلک السنون و الازمان ثم کشف الله أمره و ظهره خبره و جمع بينه و بين أبيه و إخوته و إن لم يکن ذلک في عادتنا اليوم و لا سمعنا بمثله.
و کان من قصة يونس بن متي نبي الله مع قومه و فراره منهم حين تطاول خلافهم له و استخفافهم بجفوته و غيبته عنهم و عن کل أحد حتي لم يعلم أحد من الخلق مستقره و ستره الله في جوف السمکة و أمسک عليه رمقه لضرب من المصلحة إلي أن انقضت تلک المدة ورده الله إلي قومه.
و جمع بينهم و بينه، و هذا أيضا خارج عن عادتنا و بعيد من تعارفنا و قد نطق به القرآن و أجمع عليه أهل الاسلام.
و مثل ما حکيناه أيضا قصة أصحاب الکهف و قد نطق بها القرآن و تضمن شرح حالهم و استتارهم عن قومهم فرارا بدينهم و لو لا ما نطق القرآن به لکان مخالفونا يجحدونه دفعا لغيبة صاحب الزمان، و إلحاقهم به، لکن أخبر الله تعالي أنهم بقوا ثلاثمائة سنة مثل ذلک مستترين خائفين ثم أحياهم الله فعادوا إلي قومهم و قصتهم مشهورة في ذلک.
و قد کان من أمر صاحب الحمار الذي نزل بقصته القرآن و أهل الکتاب يزعمون أنه کان نبيا فأماته الله مائة عام ثم بعثه و بقي طعامه و شرابه لم يتغير و کان
[ صفحه 205]
ذلک خارقا للعادة و إذا کان ما ذکرناه معروفا کائنا کيف يمکن مع ذلک إنکار غيبة صاحب الزمان.
أللهم إلا أن يکون المخالف دهريا معطلا ينکر جميع ذلک و يحيله فلا نکلم معه في الغيبة بل ينتقل معه إلي الکلام في أصل التوحيد و أن ذلک مقدور و إنما نکلم في ذلک من أقر بالاسلام، و جوز ذلک مقدورا لله، فنبين لهم نظائره في العادات.
و أمثال ما قلناه کثيرة مما رواه أصحاب السير و التواريخ من ملوک فرس و غيبتهم عن أصحابهم مدة لا يعرفون خبره ثم عودهم و ظهورهم لضرب من التدبير و إن لم ينطق به القرآن فهو مذکور في التواريخ و کذلک جماعة من حکماء الروم و الهند قد کانت لهم غيبات و أحوال خارجة عن العادات لا نذکرها لان المخالف ربما جحدها علي عادتهم جحد الاخبار و هو مذکور في التواريخ.
فان قيل: ادعاؤکم طول عمر صاحبکم أمر خارق للعادات مع بقائه علي قولکم کامل العقل تام القوة و الشباب لانه علي قولکم له في هذا الوقت الذي هو سنة سبع و أربعين و أربعمأة مائة وإحدي و تسعون سنة لان مولده علي قولکم سنة ست و خمسين و مائتين و لم تجر العادة بأن يبقي أحد من البشر هذه المدة فکيف انتقضت العادة فيه، و لا يجوز انتقاضها إلا علي يد الانبياء.
قلنا: الجواب عن ذلک من وجهين أحدهما أن لا نسلم أن ذلک خارق لجميع العادات، بل العادات فيما تقدم قد جرت بمثلها و أکثر من ذلک، و قد ذکرنا بعضها کقصة الخضر عليه السلام و قصة أصحاب الکهف و غير ذلک، و قد أخبر الله عن نوح عليه السلام أنه لبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما و أصحاب السير يقولون أنه عاش أکثر من ذلک، و إنما دعا قومه إلي الله هذه المدة المذکورة بعد أن مضت عليه ستون من عمره، و روي أصحاب الاخبار أن سلمان الفارسي لقي عيسي ابن مريم و بقي إلي زمان نبينا صلي الله عليه و آله و خبره مشهور و أخبار المعمرين من العجم و العرب معروفة مذکورة في الکتب و التواريخ و روي أصحاب الحديث أن الدجال
[ صفحه 206]
موجود و أنه کان في عصر النبي صلي الله عليه و آله و أنه باق إلي الوقت الذي يخرج فيه و هو عدو الله فإذا جاز ذلک في عدو الله لضرب من المصلحة فکيف لا يجوز مثله في ولي الله إن هذا من العناد.
أقول: ثم ذکر ره أخبار المعمرين علي ما سنذکره ثم قال: إن کان المخالف لنا في ذلک من يحيل ذلک من المنجمين و أصحاب الطبايع فالکلام لهم في أصل هذه المسألة فان العالم مصنوع و له صانع أجري العادة بقصر الاعمار و طولا، و أنه قادر علي إطالتها و علي إفنائها فإذا بين ذلک سهل الکلام.
و إن کان المخالف في ذلک من يسلم ذلک أنه يقول: هذا خارج عن العادات، فقد بينا أنه ليس بخارج عن جميع العادات، و متي قالوا خارج عن عاداتنا قلنا و ما المانع منه.
فان قيل: ذلک لا يجوز إلا في زمن الانبياء قلنا نحن ننازع في ذلک و عندنا يجوز خرق العادات علي يد الانبياء و الائمة و الصالحين و أکثر أصحاب الحديث يجوزون ذلک و کثير من المعتزلة و الحشوية، و إن سموا ذلک کرامات کان ذلک خلافا في عبارة، و قد دللنا علي جواز ذلک في کتبنا، و بينا أن المعجز إنما يدل علي صدق من يظهر علي يده ثم نعلمه نبيا أو إماما أو صالحا بقوله، و کلما يذکرونه من شبههم قد بينا الوجه فيه في کتبنا لا نطول بذکره ههنا.
فأما ما يعرض من الهرم بامتداد الزمان، و علو السن، و تناقض بنية الانسان فليس مما لابد منه و إنما أجري الله العادة بأن يفعل ذلک عند تطاول الزمان و لا إيجاب هناک، و هو تعالي قادر أن لا يفعل ما أجري العادة بفعله، و إذا ثبتت هذه الجملة ثبت أن تطاول الاعمار ممکن مستحيل، و قد ذکرنا فيما تقدم عن جماعة أنهم لم يتغيروا مع تطاول أعمارهم و علو سنهم، و کيف ينکر ذلک من يقر بأن الله تعالي يخلد المؤمنين في الجنة شبانا لا يبلون، و إنما يمکن أن ينازع في ذلک من يجحد ذلک و يسنده إلي الطبيعة و تأثير الکواکب الذي قد دل الدليل علي بطلان قولهم باتفاق منا و من خالفنا في هذه المسألة من أهل الشرع، فسقطت
[ صفحه 207]
الشبهة من کل وجه.
دليل آخر: و مما يدل علي إمامة صاحب الزمان و صحة غيبته، ما رواه الطائفتان المختلفان، و الفرقتان المتباينتان العامة و الامامية أن الائمة بعد النبي صلي الله عليه و آله اثنا عشر لا يزيدون و لا ينقصون، و إذا ثبت ذلک فکل من قال بذلک قطع علي الائمة الاثني عشر الذين نذهب إلي إمامتهم، و علي وجود ابن الحسن و صحة غيبته، لان من خالفهم في شيء من ذلک لا يقصر الامامة علي هذا العدد بل يجوز الزيادة عليها، و إذا ثبت بالاخبار التي نذکرها هذا العدد المخصوص ثبت ما أردناه.
أقول: ثم أورد ره من طرق الفريقين بعض ما أوردناه في باب النصوص علي الاثني عشر عليهم السلام.
ثم قال رحمه الله: فان قيل: دلوا أولا علي صحة هذه الاخبار فانها أخبار آحاد لا يعول عليها فيم طريقه العلم، و هذه مسألة علمية ثم دلوا علي أن المعني بها من تذهبون إلي إمامته فان الاخبار التي رويتموها عن مخالفيکم و أکثر ما رويتموها من جهة الخاصة إذا سلمت فليس فيها صحة ما تذهبون إليه، لانها تتضمن ذلک فمن أين لکم أن أئمتکم هم المرادون بها دون غيرهم.
قلنا: أما الذي يدل علي صحتها فإن الشيعة الامامية يروونها علي وجه التواتر خلفا عن سلف و طريقة تصحيح ذلک موجود في کتب الامامية في النصوص علي أمير المؤمنين عليه السلام و الطريقة واحدة.
و أيضا فان نقل الطائفتين المختلفتين المتباينتين في الاعتقاد يدل علي صحة ما قد اتفقوا علي نقله، لان العادة جارية أن کل من اعتقد مذهبا و کان الطريق إلي صحة ذلک النقل فان دواعيه تتوفر إلي نقله، و تتوفر دواعي من خالفه إلي إبطال ما نقله أو الطعن عليه، و الانکار لروايته، بذلک جرت العادات في مدائح الرجال و ذمهم، و تعظيمهم و النقص منهم، و متي رأينا الفرقة المخالفة لهذه الفرقة قد نقلت مثل نقلها، و لم يتعرض للطعن علي نقله، ول ينکر متضمن الخبر، دل
[ صفحه 208]
ذلک علي أن الله تعالي قد تولي نقله و سخرهم لروايته، و ذلک دليل علي صحة ما تضمنه الخبر.
و أما الدليل علي أن المراد بالاخبار و المعني بها أئمتنا عليهم السلام فهو أنه إذا ثبت بهذه الاخبار أن الائمة محصورة في الاثني عشر إماما و أنهم لا يزيدون و لا ينقصون، ثبت ما ذهبنا إليه، لان الامة بين قائلين: قائل يعتبر العدد الذي ذکرناه فهو يقول إن المراد بها من نذهب إلي إمامته، و من خالف في إمامتهم لا يعتبر هذا العدد، فالقول مع اعتبار العدد أن المراد غيرهم، خروج عن الاجماع و ما أدي إلي ذلک وجب القول بفساده.
و يدل أيضا علي إمامة ابن الحسن عليه السلام و صحة غيبته ما ظهر و انتشر من الاخبار الشائعة الذائعة عن آبائه عليهم السلام قبل هذه الاوقات بزمان طويل من أن لصاحب هذا الامر غيبة، وصفة غيبته، و ما يجري فيها من الاختلاف، و يحدث فيها من الحوادث، و أنه يکون له غيبتان احداهما أطول من الاخري و أن الاولي يعرف فيها أخباره و الثانية لا يعرف فيها أخباره فوافق ذلک علي ما تضمنته الاخبار و لو لا صحتها و صحة إمامته لما وافق ذلک، لان ذلک لا يکون إلا باعلام الله علي لسان نبيه، و هذه أيضا طريقة اعتمدها الشيوخ قديما.
و نحن نذکر من الاخبار التي تضمن ذلک طرفا ليعلم صحة ما قلناه لان استيفاء جميع ما روي في هذا المعني يطول، و هو موجود في کتب الاخبار من أراده وقف عليه من هناک.
أقول: ثم نقل الاخبار التي نقلنا عنه رحمه الله في الابواب السابقة و اللاحقة ثم قال: فان قيل: هذه کلها أخبار آحاد لا يعول علي مثلها في هذه المسألة لانها مسألة علمية.
قلنا: موضع الاستدلال من هذه الاخبار ما تضمنه الخبر بالشيء قبل کونه فکان کما تضمنه فکان ذلک دلالة علي صحة ما ذهبنا إليه من إمامة ابن الحسن لان العلم بما يکون لا يحصل إلا من جهة علام الغيوب، فلو لم يرد إلا خبر واحد
[ صفحه 209]
و وافق مخبره ما تضمنه الخبر، لکان ذلک کافيا، و لذلک کان ما تضمنه القرآن من الخبر بالشيء قبل کونه دليلا علي صدق النبي صلي الله عليه و آله و أن القرآن من قبل الله تعالي، و إن کان المواضع التي تضمن ذلک محصورة، و مع ذلک مسموعة من مخبر واحد، لکن دل علي صدقه من الجهة التي قلناها، علي أن الاخبار متواتر بها لفظا و معني.
فأما اللفط فان الشيعة تواترت بکل خبر منه، و المعني أن کثيرة الاخبار و اختلاف جهاتها و تباين طرقها، و تباعد رواتها، تدل علي صحتها، لانه لا يجوز أن يکون کلها باطلة و لذلک يستدل في مواضع کثيرة علي معجزات النبي صلي الله عليه و آله التي هي سوي القرآن و أمور کثيرة في الشرع يتواتر، و إن کان کل لفظ منه منقولا من جهة الآحاد و ذلک معتمد عند من خالفنا في هذه المسألة، فلا ينبغي أن يترکوه و ينسوه إذا جئنا إلي الکلام في الامامة، و العصبية لا ينبغي أن ينتهي بالانسان إلي حد يجحد الامور المعلومة.
و هذا الذي ذکرناه معتبر في مدائح الرجال و فضائلهم و لذلک استدل علي سخاء حاتم و شجاعة عمرو و غير ذلک بمثل ذلک و إن کان کل واحد مما يروي من عطاء حاتم و وقوف عمرو في موقف من المواقف، من جهة الآحاد و هذا واضح.
و مما يدل أيضا علي إمامة ابن الحسن زائدا علي ما مضي أنه لا خلاف بين الامة أنه سيخرج في هذه الامة مهدي يملا الارض قسطا و عدلا کما ملئت ظلما وجورا و إذا بينا أن ذلک المهدي من ولد الحسين و أفسدنا قول من يدعي ذلک من ولد الحسين سوي ابن الحسن ثبت أن المراد به هو عليه السلام.
أقول: ثم أورد ما نقلنا عنه سابقا من أخبار الخاصة و العامة في المهدي عليه السلام ثم قال: و أما الذي يدل علي أنه يکون من ولد الحسين عليه السلام فالاخبار التي أوردناها في أن الائمة اثنا عشر و ذکر تفاصيلهم فهي متضمنة لذلک، و لان کل من اعتبر العدد الذي ذکرناها قال: المهدي من ولد الحسين عليه السلام.
و هو من أشرنا إليه.
[ صفحه 210]
ثم أورد رحمه الله الاخبار في ذلک علي ما روينا عنه ثم قال: فان قيل: أ ليس قد خالف جماعة فيهم من قال: المهدي من ولد علي عليه السلام فقالوا: هو محمد بن الحنفية و فيهم من قال من السبائية هو علي عليه السلام لم يمت و فيهم من قال: جعفر بن محمد لم يمت، و فيهم من قال: موسي بن جعفر لم يمت، و فيهم من قال: الحسن بن علي العسکري عليهما السلام لم يمت، و فيهم من قال: المهدي هو أخوه محمد بن علي و هو حي باق لم يمت، ما الذي يفسد قول هؤلاء؟.
قلت: هذه الاقوال کلها قد أفسدناها بما دللنا عليه من موت من ذهبوا إلي حياته و بما بينا أن الائمة اثنا عشر و بما دللنا علي صحة إمامة ابن الحسن من الاعتبار، و بما سنذکره من صحة ولادته و ثبوت معجزاته الدالة علي إمامته.
فأما من خالف في موت أمير المؤمنين و ذکر أنه حي باق فهو مکابر فان العلم بموته و قتله أظهر و أشهر من قتل کل أحد و موت کل إنسان و الشک في ذلک يؤدي إلي الشک في موت النبي و جميع أصحابه ثم ما ظهر من وصيته و أخبار النبي صلي الله عليه و آله إياه أنک تقتل و تخضب لحيتک من رأسک يفسد ذلک أيضا و ذلک أشهر من أن يحتاج أن يروي فيه الاخبار.
و أما وفات محمد بن علي، ابن الحنيفة و بطلان قول من ذهب إلي إمامته فقد بينا فيما مضي من الکتاب و علي هذه الطريقة إذا بينا أن المهدي من ولد الحسين عليه السلام بطل قول المخالف في إمامته عليه السلام.
و أما الناووسية الذين وقفوا علي جعفر بن محمد عليه السلام فقد بينا أيضا فساد قولهم بما علمناه من موته، و اشتهار الامر فيه، و بصحة إمامة ابنه موسي بن جعفر عليهما السلام، و بما ثبت من إمامة الاثني عشر عليهم السلام و يؤکد ذلک ما ثبت من صحة وصيته إلي من أوصي إليه، و ظهور الحال في ذلک.
و أما الواقفة الذين وقفوا علي موسي بن جعفر و قالوا هو المهدي فقد أفسدنا أقوالهم بما دللنا عليه من موته، و اشتهار الامر فيه، و ثبوت إمامة ابنه الرضا عليه السلام و في ذلک کفاية لمن أنصف.
[ صفحه 211]
و أما المحمدية الذين قالوا بامامة محمد بن علي العسکري و أنه حي لم يمت، فقولهم باطل لما دللنا به علي إمامة أخيه الحسن بن علي أبي القائم عليهما السلام و أيضا فقد مات محمد في حياة أبيه عليه السلام موتا ظاهرا کما مات أبوه وجده فالمخالف في ذلک مخالف في الضرورة.
و أما القائلون بأن الحسن بن علي لم يمت و هو حي باق و هو المهدي فقولهم باطل بما علمنا موته کما علمنا موت من تقدم من آبائه، و الطريقة واحدة، و الکلام عليهم واحد، هذا مع انقراض القائلين به و اندراسهم، و لو کانوا محقين لما انقرضوا.
أقول: و قد أورد لکل ما ذکر أحبار ا کثيرة أوردناها مع غيرها في المجلدات السابقة في الابواب التي هي أنسب بها ثم قال: و أما من قال: إن الحسن بن علي عليه السلام يعيش بعد موته و أنه القائم بالامر و تعلقهم بما روي عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال: إنما سمي القائم لانه يقوم بعد ما يموت فقوله باطل بما دللنا عليه من موته و ادعاؤهم أنه يعيش يحتاج إلي دليل و لو جاز لهم ذلک لجاز أن تقول الواقفة إن موسي بن جعفر يعيش بعد موته، علي أن هذا يؤدي إلي خلو الزمان من إمام بعد موت الحسن إلي حين يحيي و قد دللنا بأدلة عقلية علي فساد ذلک.
و يدل علي فساد ذلک الاخبار التي مضت في أنه لو بقيت الارض بغير إمام ساعة لساخت.
و قول أمير المؤمنين صلوات الله عليه أللهم إنک لا تخلي الارض بغير حجة إما ظاهرا مشهورا أو خائفا مغمورا يدل علي ذلک علي أن قوله يقوم بعد ما يموت لو صح الخبر احتمل أن يکون أراد يقوم بعد ما يموت ذکره و يخمل و لا يعرف، و هذا جائز في اللغة و ما دللنا به علي أن الائمة اثنا عشر يبطل هذا المقال لانه عليه السلام هو الحادي عشر، علي أن القائلين بذلک قد انقرضوا و لله الحمد و لو کان حقا لما انقرض القائلون به.
[ صفحه 212]
و أما من ذهب إلي الفترة بعد الحسن بن علي و خلو الزمان من إمام فقولهم باطل بما دللنا عليه من أن الزمان لا يخلو من إمام في حال من الاحوال بأدلة عقلية و شرعية و تعلقهم بالفترات بين الرسل باطل لان الفترة عبارة عن خلو الزمان من نبي و نحن لا نوجب النبوة في کل حال، و ليس في ذلک دلالة علي خلو الزمان من إمام، علي أن القائلين بذلک قد انقرضوا و لله الحمد، فسقط هذا القول أيضا.
و أما القائلون بإمامة جعفر بن علي بعد أخيه، فقولهم باطل بما دللنا عليه من أنه يجب أن يکون الامام معصوما، لا يجوز عليه الخطاء، و أنه يجب أن يکون أعلم الامة بالاحکام و جعفر لم يکن معصوما بلا خلاف، و ما ظهر من أفعاله التي تنافي العصمة أکثر من أن تحصي لا نطول بذکرها الکتاب، و إن عرض فيما بعد ما يقتضي ذکر بعضها ذکرناه، و أما کونه عالما فانه کان خاليا منه، فکيف تثبت إمامته، علي أن القائلين بهذه المقالة قد انقرضوا أيضا و لله الحمد و المنة.
و أما من قال: لا ولد لابي محمد عليه السلام فقوله يبطل بما دللنا عليه من إمامة الاثني عشر و سياقة الامر فيهم.
و أما من زعم أن الامر قد اشتبه عليه، فلا يدري هل لابي محمد عليه السلام ولد أم لا إلا أنهم متمسکون بالاول حتي يصح لهم الآخر فقوله باطل بما دللنا عليه من صحة إمامة ابن الحسن، و بما بينا من أن الائمة اثنا عشر، و مع ذلک لا ينبغي التوقف بل يجب القطع علي إمامة ولده، و ما قدمناه أيضا من أنه لا يمضي إمام حي حتي يولد له و يري عقبه، و ما دللنا عليه من أن الزمان لا يخلو من إمام عقلا و شرعا يفسد هذا القول أيضا.
فأما تمسکهم بما روي تمسکوا بالاول حتي يصح لکم الآخر فهو خبر واحد و مع هذا فقد تأوله سعد بن عبد الله بتأويل قريب قال قوله تمسکوا بالاول حتي يظهر لکم الآخر هو دليل علي إيجاب الخلف لانه يقتضي وجوب التمسک بالاول و لا يبحث عن أحوال الآخر إذا ماشية غائبا في تقية حتي
[ صفحه 213]
يأذن الله في ظهوره، و يکون (هو) الذي يظهر أمره و يشهر نفسه، علي أن القائلين بذلک قد انقرضوا و الحمد لله.
و أما من قال بإمامة الحسن و قالوا: انقطعت الامامة کما انقطعت النبوة فقولهم باطل بما دللنا عليه من أن الزمان لا يخلو من إمام عقلا و شرعا و بما بينا من أن الائمة اثنا عشر و سنبين صحة ولادة القائم بعده، فسقط قولهم من کل وجه علي أن هؤلاء قد انقرضوا بحمد الله.
و قد بينا فساد قول الذاهبين إلي إمامة جعفر بن علي من الفطحية الذين قالوا بامامة عبد الله بن جعفر لما مات الصادق عليه السلام فلما مات عبد الله و لم يخلف ولدا رجعوا إلي القول بإمامة موسي بن جعفر و من بعده إلي الحسن بن علي فلما مات الحسن قالوا بامامة جعفر و قول هؤلاء يبطل بوجوه أفسدناها و لانه لا خلاف بين الامامية أن الامامة لا تجتمع في أخوين بعد الحسن و الحسين و قد أوردنا في ذلک إخبارا کثيرة.
و منها أنه لا خلاف أنه لم يکن معصوما و قد بينا أن من شرط الامام أن يکون معصوما و ما ظهر من أفعاله ينافي العصمة و قد روي أنه لما ولد لابي الحسن جعفر هنؤه به فلم يروا به سرورا، فقيل له في ذلک فقال: هون عليک أمره سيضل خلقا کثيرا، و ما روي فيه و له من الافعال و الاقوال الشنيعة أکثر من أن تحصي ننزه کتابنا عن ذلک.
فأما من قال إن للخلف ولدا و أن الائمة ثلاثة عشر فقولهم يفسد بما دللنا عليه من أن الائمة عليهم السلام اثنا عشر، فهذا القول يجب إطراحه علي أن هذه الفرق کلها قد انقرضت بحمد الله و لم يبق قائل بقولها، و ذلک دليل علي بطلان هذه الاقاويل انتهي کلامه قدس الله روحه.
و أقول: تحقيقاته ره في هذا المبحث يحتاج إلي تفصيل و تبيين و إتمام و نقض و إبرام ليس کتابنا محل تحقيق أمثال ذلک و إنما أوردنا کلامه ره لانه کان داخلا فيما اشتمل عليه أصولنا التي أخذنا منها و محل تحقيق تلک المباحث
[ صفحه 214]
من جهة الدلائل العقلية الکتب الکلامية و أما ما يتعلق بکتابنا من الاخبار المتعلقة بها فقد وفينا حقها علي وجه لا يبقي لمنصف بل معاند مجال الشک فيها و لنتکلم فيما التزمه ره في ضمن أجوبة اعتراضات المخالف من کون کل من خفي عليه الامام من الشيعة في زمان الغيبة فهم مقصرون مذنبون فنقول: يلزم عليه أن لا يکون أحد من الفرقة المحقة الناجية في زمان الغيبة موصوفا بالعدالة، لان هذا الذنب الذي صار مانعا لظهوره عليه السلام من جهتهم إما کبيرة أو صغيرة أصروا عليها، و علي التقديرين ينافي العدالة فکيف کان يحکم بعدالة الرواة و الائمة في الجماعات، و کيف کان يقبل قولهم في الشهادات، مع أنا نعلم ضرورة أن کل عصر من الاعصار مشتمل علي جماعة من الاخيار لا يتوقفون مع خروجه عليه السلام و ظهور أدني معجز منه في الاقرار بإمامته و طاعته، و أيضا فلا شک في أن في کثير من الاعصار الماضية کان الانبياء و الاوصياء محبوسين ممنوعين عن وصول الخلق إليهم، و کان معلوما من حال المقرين أنهم لم يکونوا مقصرين في ذلک بل نقول: لما اختفي الرسول صلي الله عليه و آله في الغار کان ظهوره لامير المؤمنين صلوات الله عليه و کونه معه لطفا له، و لا يمکن إسناد التقصير إليه فألحق في الجواب أن اللطف إنما يکون شرطا للتکليف إذا لم يکن مشتملا علي مفسدة فإنا نعلم أنه تعالي إذا أظهر علامة مشيته عند ارتکاب المعاصي علي المذنبين کأن يسود وجوههم مثلا، فهو أقرب إلي طاعتهم و أبعد عن معصيتهم، لکن لاشتماله علي کثير من المفاسد لم يفعله، فيمکن أن يکون ظهوره عليه السلام مشتملا علي مفسدة عظيمة للمقرين يوجب استئصالهم و اجتياحهم، فظهوره عليه السلام مع تلک الحال ليس لطفا لهم و ما ذکره رحمه الله من أن التکليف مع فقد اللطف کالتکليف مع فقد الآلة فمع تسليمه إنما يتم إذا کان (لطفا و) ارتفعت المفاسد المانعة عن کونه لطفا.
و حاصل الکلام أن بعد ما ثبت من الحسن و القبح العقليين و أن العقل يحکم بأن اللطف علي الله تعالي واجب، و أن وجود الامام لطف باتفاق جميع العقلاء علي أن المصلحة في وجود رئيس يدعو إلي الصلاح، و يمنع عن الفساد، و
[ صفحه 215]
أن وجوده أصلح للعباد و أقرب إلي طاعتهم و أنه لابد أن يکون معصوما و أن العصمة لا تعلم إلا من جهته تعالي و أن الاجماع واقع علي عدم عصمة صاحب الزمان عليه السلام يثبت وجوده.
و أما غيبته عن المخالفين، فظاهر أنه مستند إلي تقصيرهم و أما عن المقرين فيمکن أن يکون بعضهم مقصرين و بعضهم مع عدم تقصيرهم ممنوعين من بعض الفوائد التي تترتب علي ظهوره عليه السلام لمفسدة لهم في ذلک ينشأ من المخالفين أو لمصلحة لهم في غيبته بأن يؤمنوا به مع خفاء الامر و ظهور الشبه، و شدة المشقة فيکونوا أعظم ثوابا مع أن إيصال الامام فوائده و هداياته لا يتوقف علي ظهوره بحيث يعرفونه، فيمکن أن يصل منه عليه السلام إلي أکثر الشيعة ألطاف کثيرة لا يعرفونه کما سيأتي عنه عليه السلام أنه في غيبته کالشمس تحت السحاب.
علي أن في غيبات الانبياء دليلا بينا علي أن في هذا النوع من وجود الحجة مصلحة و إلا لم يصدر منه تعالي.
و أما الاعتراضات الموردة علي کل من تلک المقدمات و أجوبتها فموکول إلي مظانه.
پاورقي
[1] ضرب مزهو. ظ.