في خبر سيف بن ذي يزن
وکان سيف بن ذي يزن عارفا بأمر رسول الله صلي الله عليه وآله وقد بشربه عبد المطلب لما وفد عليه.
32ـ حدثنا محمد بن علي ماجيلويه رضي الله عنه قال: حدثني عمي محمد ابن أبي القاسم، عن محمد بن علي الکوفي، عن علي بن حکيم، عن عمرو بن بکار العبسي، عن محمد بن السائب، عن أبي صالح، عن ابن عباس، وحدثنا محمد بن علي ابن محمد بن حاتم البوفکي قال: حدثنا أبو منصور محمد بن أحمد بن أزهر بهراة [1] قال:
[ صفحه 177]
حدثنا محمد بن إسحاق البصري قال: أخبرنا علي بن حرب قال: حدثني أحمد بن عثمان ابن حکيم قال: حدثنا عمرو بن بکر، [2] عن أحمد بن القاسم، عن محمد بن السائب، عن أبي صالح، عن ابن عباس قال: لما ظفر سيف بن ذي يزن بالحبشة وذلک بعد مولد النبي صلي الله عليه وآله بسنتين أتاه وفد العرب وأشرافها وشعراؤها بالتهنئة وتمدحه و تذکر ما کان من بلائه وطلبه بثار قومه فأتاه وفد من قريش ومعهم عبد المطلب بن هاشم وامية بن عبد شمس وعبد الله بن جذعان وأسد بن خويلد بن عبد العزي ووهب ابن عبد مناف في اناس من وجوه قريش فقدموا عليه صنعاء فاستأذنوا فإذا هو في رأس قصر يقال له: غمدان، وهو الذي يقول فيه امية بن أبي الصلت:
اشرب هنيئا عليک التاج مرتفعا
في رأس غمدان دارا منک محلالا
فدخل عليه الآذن فأخبره بمکانهم، فأذن لهم فلما دخلوا عليه دنا عبد المطلب منه فاستأذنه في الکلام فقال له: إن کنت ممن يتکلم بين يدي الملوک فقد أذنا لک، قال: فقال عبد المطلب: إن الله قد أحلک أيها الملک محلا رفيعا صعبا منيعا شامخا باذخا وأنبتک منبتا طابت أرومته، وعذبت جرثومته [3] وثبت أصله وبسق فرعه [4] في أکرم موطن وأطيب (موضع وأحسن) معدن، وأنت أبيت اللعن [5] ملک العرب وربيعها الذي تخصب به. وأنت أيها الملک رأس العرب الذي له تنقاد، وعمودها الذي عليه العماد ومعقلها الذي يلجأ إليه العباد، سلفک خير سلف، وأنت لنا منهم خير خلف، فلن
[ صفحه 178]
يخمل من أنت سلفه، ولن يهلک من أنت خلفه، نحن أيها الملک أهل حرم الله وسدنة بيته أشخصنا إليک الذي أبهجنا من کشف الکرب الذي فدحنا [6] فنحن وفد التهنئة لا وفد المرزئة. [7] .
قال: وأيهم أنت أيها المتکلم؟ قال: أنا عبد المطلب بن هاشم، قال: ابن اختنا؟ قال: نعم، قال: ادن، فدنا منه، ثم أقبل علي القوم وعليه فقال: مرحبا وأهلا، وناقة ورحلا، ومستناخا سهلا، وملکا وربحلا، [8] قد سمع الملک مقالتکم وعرف قرابتکم وقبل: وسيلتکم، فأنتم أهل الليل وأهل النهار، ولکم الکرامة ما أقمتم، والحباء إذا ظعنتم [9] قال: ثم انهضوا إلي دار الضيافة والوفود فأقاموا شهرا لا يصلون إليه ولا يأذن لهم بالانصراف، ثم انتبه لهم انتباهة [10] فأرسل إلي عبدا المطلب فأدني مجلسه وأخلاه، ثم قال له: يا عبد المطلب إني مفوض إليک [11] من سر علمي أمرا ما لو کان غيرک لم أبح له به ولکني رأيتک معدنه فاطلعک طلعة [12] فليکن عندک مطويا حتي يأذن الله فيه فان الله بالغ أمره، إني أجد في الکتاب المکنون والعلم المخزون الذي اخترناه لانفسنا واحتجنا دون غيرنا خبرا عظيما وخطرا جسيما، فيه شرف الحياة وفضيلة الوفاة، للناس عامة، ولرهطک کافة
[ صفحه 179]
ولک خاصة، فقال عبد المطلب: مثلک أيها الملک من سر وبر، فما هو فداک أهل الوبر زمرا بعد زمر، فقال: إذا ولد بتهامة غلام بين کتفيه شامة، کانت له الامامة ولکم به الدعامة [13] إلي يوم القيامة. فقال له عبد المطلب: أبيت اللعن لقد ابت بخبر ما آب بمثله وافد، ولو لا هيبة الملک وإجلاله وإعظامه لسألته عن مساره إياي ما ازداد [14] به سرورا، فقال ابن ذي يزن: هذا حينه الذي يولد فيه أو قد ولد فيه، اسمه محمد، يموت أبوه وامه ويکلفه جده وعمه، وقد ولد سرارا، والله باعثه جهارا، وجاعل له منا أنصارا، ليعزبهم أولياؤه، ويذل بهم أعداءه، يضرب بهم الناس عن عرض، [15] ويستفتح بهم کرائم الارض، يکسر الاوثان، ويخمد النيران، ويعبد الرحمن، ويدحر الشيطان، قوله فصل، وحکمه عدل، يأمر بالمعروف ويفعله، وينهي عن المنکر ويبطله.
فقال عبد المطلب: أيها الملک عز جدک وعلا کعبک، [16] ودام ملکک، و طال عمرک فهل الملک ساري بافصاح فقد أوضح لي بعض الايضاح، فقال ابن ذي يزن: والبيت ذي الحجب والعلامات علي النصب [17] إنک يا عبد المطلب لجده غير کذب
[ صفحه 180]
قال: فخز عبد المطلب ساجدا فقال له: ارفع رأسک ثلج صدرک [18] وعلا أمرک، فهل أحسست شيئا مما ذکرته؟ فقال: کان لي ابن وکنت به معجبا وعليه رفيقا فزوجته بکريمة من کرائم قومي اسمها آمنة بنت وهب فجاءت بغلام سميته محمدا، مات أبوه وامه وکفلته أنا وعمه، فقال ابن ذي يزن: إن الذي قلت لک کما قلت لک، فاحتفظ بابنک واحذر عليه اليهود فإنهم له أعداء ولن يجعل الله لهم عليه سبيلا، و اطو ما ذکرت لک دون هؤلاء الرهط الذين معک، فإني لست آمن أن تدخلهم النفاسة من أن تکون له الرئاسة، فيطلبون له الغوائل [19] وينصبون له الحبائل، وهم فاعلون أو أبناؤهم، ولو لا علمي بأن الموت مجتاحي [20] قبل مبعثه لسرت بخيلي ورجلي حتي صرت بيثرب دار ملکه نصرة له، لکني أجد في الکتاب الناطق والعلم السابق أن يثرب دار ملکه، وبها استحکام أمره وأهل نصرته وموضع قبره، ولو لا أني أخاف فيه الافات وأحذر عليه العاهات لاعلنت علي حداثة سنه أمره في هذا الوقت ولا وطئن أسنان العرب عقبه [21] ولکني صارف إليک عن غير تقصير مني بمن معک.
قال: ثم أمر لکل رجل من القوم بعشرة أعبد وعشر إماء وحلتين من البرود، ومائة من الابل، وخمسة أرطال ذهب وعشرة أرطال فضة وکرش مملوءة عنبرا. قال: وأمر لعبد المطلب بعشرة أضعاف ذلک، وقال: إذا حال الحول فائتني، فمات ابن ذي يزن قبل أن يحول الحول، قال: فکان عبد المطلب کثيرا ما يقول: يا معشر قريش لا يغبطني
[ صفحه 181]
رجل منکم بجزيل عطاء الملک وإن کثر فإنه إلي نفاد، ولکن يغبطني بما يبقي لي ولعقبي من بعدي ذکره وفخره وشرفه. وإذا قيل متي ذلک؟ قال: ستعلمن نبأ ما أقول ولو بعد حين.
وفي ذلک يقول امية بن عبد شمس يذکر مسيرهم إلي ابن ذي يزن:
جلبنـا الضح تحملـه المطايـا
علي أکوار أجمـال ونوق [22] .
مغلغلـة مغالقهـا تغـالي [23] .
إلي صنعـاء مـن فج عميـق
يؤم بنا ابن ذي يزن ويهدي [24] .
ذوات بطونهـا أم الطريق [25] .
وتزجــي من مخائلـه بروقـا
مواصلة الوميض إلي بروق [26] .
فلمــا وافقت صنعاء صـارت
بدار الملک والحسب العريق [27] .
إلي ملـک يــدر لنـا العطايـا
بحسن بشـاشـة الوجه الطليـق
[ صفحه 182]
پاورقي
[1] هو الازهري اللغوي الشافعي المترجم في الوافي بالوفيات ج 2 ص 45 تحت رقم 319، وأما راويه فلم أجده فيما عندي من کتب التراجم. وبوفک قرية من قري نيسابور. و في بعض النسخ «محمد بن علي بن حاتم البرمکي» وفي بعضها «النوفلي» ثم اعلم أن أکبر رجال السندين مجاهيل أو ضعفاء.
[2] متروک کما في تقريب التهذيب. وفي بعض النسخ «بکير» وهو تصحيف.
[3] الباذخ: الشامخ. والارومة: الاصل. والجرثومة بمعناها.
[4] الباسق: المرتفع، وبسق النخل: طال.
[5] قال الجوهري: قولهم في تحية الملوک في الجاهلية: «أبيت اللعن» قال ابن السکيت: أي أبيت أن تأتي من الامور ما تلعن عليه.
[6] البهج: السرور. و «فدحنا» أي أثقلنا وبهظنا.
[7] المرزئة: المصيبة العظيمة.
[8] في أکثر النسخ وکنز الفوائد للکراجکي بدون الواو. لکن في البحار «وربحلا» وقال في بيانه في النهاية: الربحل ـ بکسر الراء وفتح الباء الموحدة ـ: الکثير العطاء. وفي بعض النسخ «ونجلا» والنجل: النسل.
[9] قوله: و «أنتم أهل الليل والنهار» أي نصحبکم ونأنس بکم فيهما. والحباء العطاء. والظعن: الارتحال.
[10] أي ذکرهم مفاجأة.
[11] في بعض النسخ «اني مفض اليک» وهو الاصوب.
[12] في بعض النسخ «فأطلعک عليه».
[13] في بعض النسخ «الزعامة» أي الرئاسة. والدعامة: عماد البيت.
[14] في البحار وبعض نسخ الکتاب «لسألته من أسراره ما أراد ـ الخ».
[15] العرض ـ بضم العين المهملة والضاد المعجمة بينهما راء مهملة ـ قال في القاموس: «يضربون الناس عن عرض» أي يبالون من ضربوا.
[16] قال الجزري في حديث قيلة «والله لا يزال کعبک عاليا» هو دعاء لها بالشرف والعلو، والاصل فيه کعب القناة، وکل شيء علا وارتفع فهو کعب. ومنه سميت الکعبة للبيت الحرام، وقيل: سميت لتکعيبها أي تربيعها. والمعني: لا تزال کنت شريفا مرتفعا علي من يعاديک. والجد: البخت والنصيب.
[17] في بعض النسخ «علي البيت» والنصب فسر بحجارة کانوا يذبحون عليها للاصنام ويمکن أن يکون المراد أنصاب الحرم.
[18] في النهاية «ثلجت نفسي بالامر» إذا اطمأنت إليه وسکنت وثبتت فيها ووثقت به. ومنه حديث ابن ذي يزن «وثلج صدرک».
[19] المراد بالنفاسة: الحسد، وفي الاصل بمعني البخل والاستبداد بالشيء والرغبة فيه. والغوائل جمع الغائلة وهي الشر، والحبائل: المصائد.
[20] الاجتياح: الاهلاک والاستيصال.
[21] کذا وفي النهاية: في حديث ابن ذي يزن «لاوطئن أسنان العرب کعبه» يريد ذوي أسنانهم وهم الاکابر والاشراف. وقال العلامة المجلسي بعد ذکره: أي لرفعته علي أشرافهم وجعلتهم موضع قدمه.
[22] قال الجزري: فيه «يکون رسول الله في الضح والريح» قال الهروي: أراد کثرة الخيل والجيش، يقال: جاء فلان بالضح والريح أي بما طلعت عليه الشمس. وهبت عليه الريح. يعنون المال الکثير. وقال: الاکوار جمع کور ـ بالضم ـ وهو رحل الناقة بأداته.
[23] المغلغلة ـ بفتح الغينين المعجمتين ـ الرسالة المحمولة من بلد إلي بلد. و ـ بکسر الثانية ـ: المسرعة من الغلغلة: سرعة السير. وقوله «تغالي» من الغلو وفي أکثر النسخ بالعين المهملة وفي البحار أيضا أي تتصاعد وتذهب.
[24] في بعض النسخ وأکثر الروايات «وتفري» أي تقطع.
[25] أم الطريق: معظمه.
[26] الازجاء: السوق والدفع. والمخائل جمع المخيلة وهي السحابة التي تحسبها ماطرة. والوميض: لمعان البرق.
[27] أعرق الرجل أي صار عريقا وهو الذي له عرق في الکرم (الصحاح).