جواب عن اعتراض آخر
ومما سأل عنه جهال المعاندين للحق أن قالوا: أخبرونا عن الامام في هذا الوقت يدعي الامامة أم لا يدعيها ونحن نصير إليه فنسأله عن معالم الدين فان کان يجيبنا ويدعي الامامة علمنا أنه الامام، وإن کان لا يدعي الامامة ولا يجيبنا إذا صرنا إليه فهو ومن ليس بامام سواء.
فقيل لهم: قد دل علي إمام زماننا الصادق الذي قبله وليست به حاجة إلي أن يدعي هو أنه إمام إلا أن يقول ذلک علي سبيل الاذکار والتأکيد، فأما علي سبيل الدعوي التي نحتاج إلي برهان فلا، لان الصادق الذي قبله قد نص عليه وبين أمره وکفاه مؤونة الادعاء، والقول في ذلک نظير قولنا في علي بن أبي طالب عليه السلام في نص النبي صلي الله عليه وآله واستغنائه عن أن يدعي هو لنفسه أنه إمام، فأما إجابته أياکم عن معالم الدين فان جئتموه مسترشدين متعلمين، عارفين بموضعه، مقرين بامامته عرفکم و علمکم. وإن جئتموه أعداء له، مرصدين بالسعاية إلي أعدائه، منطوين علي مکروهه عند أعداء الحق، متعرفين مستور امور الدين لتذيعوه لم يجبکم لانه يخاف علي نفسه منکم، فمن لم يقنعه هذا الجواب قلبنا عليه السؤال في النبي صلي الله عليه وآله وهو في الغار أن لو أراد الناس أن يسألوه عن معالم الدين هل کانوا يلقونه ويصلون إليه أم لا، فان کانوا يصلون إليه فقد بطل أن يکون استتاره في الغار، وإن کانوا لا يصلون إليه فسواء وجوده في العالم وعدمه علي علتکم، فان قلتم: إن النبي صلي الله عليه وآله کان متوقيا، قيل: وکذلک الامام عليه السلام في هذا الوقت متوق، فان قلتم: إن النبي صلي الله عليه وآله بعد ذلک قد ظهر ودعا إلي نفسه، قلنا: وما في ذلک من الفرق أليس قد کان نبيا قبل أن يخرج من الغار
[ صفحه 49]
ويظهر وهو في الغار مستتر ولم ينقض ذلک نبوته، وکذلک الامام يکون إماما وإن کان يستتر بامامته ممن يخافه علي نفسه، ويقال لهم: ما تقولون في أفاضل أصحاب محمد صلي الله عليه وآله؟ والمتقدم في الصدق منهم لو لقيتهم کتيبة المشرکين يطلبون نفس النبي صلي الله عليه وآله فلم يعرفوه فسألوهم عنه هل هو هذا؟ وهو بين أيديهم أو کيف أخفي؟ [1] وأين هو؟ فقالوا: ليس نعرف موضعه أو ليس هو هذا؟ هل کانوا في ذلک کاذبين مذمومين غير صادقين ولا محمودين أم لا؟ فان قلتم: کاذبين خرجتم من دين الاسلام بتکذيبکم أصحاب النبي صلي الله عليه وآله، وإن قلتم: لا يکون ذلک کذلک لانهم يکونون قد حرفوا کلامهم و أضمروا معني أخرجهم من الکذب وإن کان ظاهره ظاهر کذب، فلا يکونون مذمومين بل محمودين لانهم دفعوا عن نفس النبي صلي الله عليه وآله القتل.
قيل لهم: وکذلک الامام إذا قال: لست بامام ولم يجب أعداءه عما يسألونه عنه لا يزيل ذلک إمامته لانه خائف علي نفسه، وإن أبطل جحده لاعدائه أنه إمام في حال الخوف إمامته أبطل علي أصحاب النبي صلي الله عليه وآله أن يکونوا صادقين في إجابتهم المشرکين بخلاف ما علموه عند الخوف، وإن لم يزل ذلک صدق الصحابة لم يزل أيضا ستر الامام نفسه إمامته، ولا فرق في ذلک، ولو أن رجلا مسلما وقع في أيدي الکفار وکانوا يقتلون المسلمين إذا ظفروا بهم فسألوه هل أنت مسلم؟ فقال: لا، لم يکن ذلک بمخرج له من الاسلام، فکذلک الامام إذا جحد عند أعدائه ومن يخافه علي نفسه أنه إمام لم يخرجه ذلک من الامامة.
فان قالوا: إن المسلم لم يجعل في العالم ليعلم الناس ويقيم الحدود، فلذلک افترق حکماهما ووجب أن لا يستر الامام نفسه.
قيل لهم: لم نقل إن الامام يستر نفسه (عن جميع الناس) [2] لان الله عزوجل قد نصبه وعرف الخلق مکانه بقول الصادق الذي قبله فيه ونصبه له، وإنما قلنا: إن الامام لا يقر عند أعدائه بذلک خوفا منهم أن يقتلوه فأما أن يکون مستورا عن
[ صفحه 50]
جميع الخلق فلا، لان الناس جميعا لو سألوا عن إمام الامامية من هو؟ لقالوا: فلان بن فلان مشهور عند جميع الامة، وإنما تکلمنا في أنه هل يقر عند أعدائه أم لا يقر، وعارضناکم باستتار النبي صلي الله عليه وآله في الغار وهو مبعوث معه المعجزات وقد أتي بشرع مبتدع ونسخ کل شرع قبله وأريناکم أنه إذا خاف کان له أن يجحد عند أعدائه أنه إمام ولا يجيبهم إذا سألوه، ولا يخرجه ذلک من أن يکون إماما، ولا فرق في ذلک، فان قالوا: فإذا جوزتم للامام أن يجحد إمامته أعداءه عند الخوف فهل يجوز للنبي صلي الله عليه وآله أن يجحد نبوته عند الخوف من أعدائه؟ قيل لهم: قد فرق قوم من أهل الحق بين النبي صلي الله عليه وآله وبين الامام بأن قالوا: إن النبي صلي الله عليه وآله هو الداعي إلي رسالته والمبين للناس ذلک بنفسه فإذا جحد ذلک وأنکره للتقية بطلت الحجة، ولم يکن أحد يبين عنه، والامام قد قام له النبي صلي الله عليه وآله بحجته وأبان أمره فإذا سکت أو جحد کان النبي صلي الله عليه وآله قد کفاه ذلک. وليس هذا جوابنا، ولکنا نقول: إن حکم النبي صلي الله عليه وآله وحکم الامام سيان في التقية إذا کان قد صدع بأمر الله عزوجل وبلغ رسالته وأقام المعجزات، فأما قبل ذلک فلا وقد محي النبي صلي الله عليه وآله اسمه من الصحيفة في صلح الحديبية حين أنکر سهيل بن عمرو، وحفص بن الاحنف نبوته فقال لعلي عليه السلام: امحه واکتب: هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله. فلم يضر ذلک نبوته إذا کانت الاعلام في البراهين قد قامت له بذلک من قبل، وقد قبل الله عزوجل عذر عمار حين حمله المشرکون علي سب رسول الله صلي الله عليه وآله وأرادوا قتله فسبه، فلما رجع إلي النبي صلي عليه وآله قال: قد أفلح الوجه يا عمار، قال: ما أفلح وقد سببتک يا رسول الله، فقال عليه السلام: أليس قلبک مطئمن بالايمان؟ قال: بلي يا رسول الله، فأنزل الله تبارک وتعالي «إلا من اکره وقلبه مطمئن بالايمان» [3] والقول في ذلک ينافي الشريعة من إجازة ذلک في وقت و حظره في وقت آخر، وإذا جاز للامام أن يجحد إمامته ويستر أمره جاز أن يستر شخصه متي أوجبت الحکمة غيبته وإذا جاز أن يغيب يوما لعله موجبة جاز سنة، وإذا جاز
[ صفحه 51]
سنة، جاز مائة سنة، وإذا جاز مائة سنة جاز أکثر من ذلک إلي الوقت الذي توجب الحکمة ظهوره کما أوجبت غيبته، ولا قوة إلا بالله.
ونحن نقول مع ذلک: [4] إن الامام لا يأتي جميع ما يأتيه من اختفاء وظهور وغيرهما إلا بعهد معهود إليه من رسول الله صلي الله عليه وآله کما قد وردت به الاخبار عن أئمتنا عليهم السلام.
حدثنا محمد بن موسي بن المتوکل ـ رضي الله عنه ـ قال: حدثنا علي بن ـ إبراهيم، عن أبيه، عن عبد السلام بن صالح الهروي، عن أبي الحسن علي بن موسي الرضا، عن أبيه، عن آبائه، عن علي عليهم السلام قال: قال النبي صلي الله عليه وآله: والذي بعثني بالحق بشيرا ليغيبن القائم من ولدي بعهد معهود إليه مني حتي يقول أکثر الناس: ما لله في آل محمد حاجة، ويشک آخرون في ولادته، فمن أدرک زمانه فليتمسک بدينه، ولا يجعل للشيطان إليه سبيلا بشکه [5] فيزيله عن ملتي ويخرجه من ديني، فقد أخرج أبويکم من الجنة من قبل، وإن الله عزوجل جعل الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون.
پاورقي
[1] أي کيف أخفي نفسه. وفي بعض النسخ «کيف أخذ».
[2] هذه الزيادة بين القوسين کانت في بعض النسخ دون بعض.
[3] النحل: 106.
[4] في بعض النسخ «في ذلک».
[5] في بعض النسخ «يشککه».