بازگشت

المؤلف و موجز من حياته


هو الشيخ الاجل أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي المشتهر بالصدوق. أحد أعلام الامامية الاثني عشرية في القرن الرابع، عين أعيان الطائفة. منار الحق والدين، نادرة الدهر، إمام من تأخر عنه، الذي ضاق نطاق الوصف عن التبسط في شخصيته، وکل ألسنة الاقلام دون وصفه، قد أصفقت الامة المسلمة علي تقدمه وعلو رتبته.

ولد ـ رحمه الله ـ بدعاء الصاحب عجل الله تعالي فرجه وصدر فيه من ناحيته المقدسة بأنه «فقيه خير مبارک» [1] فما فاهت به الاشداق أو حبرته الاقلام بعد هذا التوقيع فهو دون شأنه وعظمته، عمت برکته الانام وانتفع بکتبه وتآليفه الخاص والعام، ضع يدک علي کل مأثرة من مأثر العلم والعمل تجده شاهد صدق علي سمو مقامه ومکانته، ومن سبر غور الکتب ومعاجم التراجم يجده إماما لمن تأخر عنه لفضله الکثار وعلمه الغزير. أما الفقه فهو حامل رايته، وأما الحديث فهو إمام روايته ودرايته، وأما الکلام فهو ابن بجدته.

جمع ـ قدس سره ـ مع غزارة العلم، وکمال العقل، وجودة الفهم، وشدة الحفظ، وحسن الذکاء علو الهمة، فسافر من مسقط رأسه إلي بلاد الله العريضة لاخذ الحديث ومشافهة المشايخ، وزيارة قبور الائمة، وترويج المذهب. فرحل إلي الري واستراباد، وجرجان، ونيشابور، ومرو الروذ، وسمرقند، وفرغانة، وبلخ، وهمدان وبغداد، وفيد ومکة، والمدينة

ثم اعلم أن للرحلات فوائد عظيمة وهي أقرب الطرق إلي تثقيف العقل والنبوغ في العلم، سوي ما فيها من ترويج العلم وتشييد المذهب ونشر الحقائق، ولولا رجال من الامة يرحلون، فيردون مناهل العلم ثم يصدرون لبقي کثير من الامم في بيئة الضلالة والجهل، وسذاجة الفکر و



[ صفحه 7]



العقل. والراحل إذا کان نبيها مجدا عارفا أخذ من علماء الامصار زيادات لم يسمعها من علماء مصره، وکثيرا ما يجد عندهم ما لم يجده عند شيوخه. وهکذا يأخذون عنه ما لم يکن عند علماء بلدهم، ويسمعون منه ما لم يسمعوا من مشايخهم، وکم من مناظرات تقع بين الراحل وعلماء الامصار فيظهر له ولهم الحق ويستبان لهم مذهب الصواب فيزدادوا بصيرة، إلي غيرها من الفوائد. وقد قال الحکيم عزوجل «فلو لا نفر من کل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون».

فشيخنا المترجم من فرسان هذا الميدان، أحرز قصب السبق من جميع الاقران، وليس لاحد معشار ماله نصيب منها، مع أنه ـ قدس سره ـ يستصغر ما کابده وعاناه في أسفاره، واستهان التعب والنصب في رحله وترحاله، من قطع المفاوز والفيافي وجواز البلدان والبوادي، واقتحام السفوح الوعرة، والاقطار الشاسعة، مع صعوبة المرکب ومقاساة السفر، والمخاطر التي کانت للمسافر في تلک العصور.

وإن أردت تفصيل رحلاته فاستمع لما يتلي:

ولد ـ رحمه الله ـ بقم ونشأ بها، وتتلمذ علي أساتذتها، وتخرج علي مشايخها، ثم هاجر إلي الري بالتماس أهلها وأقام بها، ثم سافر إلي مشهد الرضا عليه السلام، ثم عاد إلي الري، ودخل نيشابور فغشاه الاکابر، وحفد إليه العلماء، فاقتبسوا من نوره و نهلوا من فيضه، وسمع جمعا من مشايخها منهم أبو علي الحسين بن أحمد البيهقي حدثه بداره فيها، وعبد الواحد بن محمد بن عبدوس النيشابوري، وأبو منصور أحمد بن إبراهيم ابن بکر الخوري، وأبو سعيد المعلم محمد بن الفضل بن محمد بن إسحاق المذکر النيشابوري وأبو الطيب الحسين بن أحمد بن محمد الرازي، وعبد الله بن محمد بن عبد الوهاب السجزي وأبو نصر أحمد بن الحسين بن أحمد بن عبيد.

وفي خلال تلک الايام التي أقام بنيشابور اختلف الناس إليه فوجد أکثرهم حائرين في أمر الحجة عليه السلام مائلين عن المحجة فبذل مجهوده في ردهم إلي الصواب، وازالة



[ صفحه 8]



الشک عنهم والارتياب، فأفاد بأثارة من علمه وانموذج من فضله فبهر النواظر والاسماع وانعقد علي تقدمه وشيخوخيته الاجماع، فلقب بشيخ مشايخ خراسان، فغادرها إلي مرو الروذ، وسمع جماعة، منهم: أبو الحسين محمد بن علي بن الشاه الفقيه، وأبو يوسف رافع بن عبد الله بن عبد الملک. ثم رحل إلي بغداد فتلقوه باکبار وتقدير، وسمع منه شيوخ الطائفة. وحدثه بها جماعة من المشايخ، منهم: الحسن بن يحيي العلوي الحسيني المعروف بابن أبي طاهر، وإبراهيم بن هارون الهيستي، وعلي بن ثابت الدواليبي، ومحمد بن عمر الحافظ. دخلها مرتين 352 و 355.

وحدثه بفيد ـ بعد منصرفه من زيارة بيت الله الحرام ـ أبو علي أحمد بن أبي جعفر البيهقي، فورد الکوفة وسمع من مشايخها منهم: محمد بن بکران النقاش، وأحمد بن إبراهيم بن هارون القاضي الفامي في مسجد الکوفة، والحسن بن محمد بن سعيد الهاشمي الکوفي، وأبو الحسن علي بن عيسي المجاور في المسجد أيضا، وأبو القاسم الحسن ابن محمد السکري المذکر، وأبو ذر يحيي بن زيد بن العباس البزاز، وأبو الحسن علي بن الحسين بن سفيان بن يعقوب الهمداني في منزله بالکوفة، فورد همدان وسمع فيها من القاسم بن محمد بن أحمد بن عبدويه السراج، والفضل بن الفضل بن العباس الکندي، ومحمد بن الفضل بن زيدويه الجلاب الهمداني. ورحل إلي بلخ وسمع من مشايخها، منهم: الحسين بن محمد الاشنائي الرازي العدل، والحسين بن أحمد الاسترابادي، والحسن بن علي بن محمد بن علي بن عمر العطار، والحاکم أبو حامد أحمد بن الحسين بن علي، وعبيد الله بن أحمد الفقيه، وطاهر بن محمد بن يونس بن حيوة الفقيه، وأبو الحسن محمد بن سعيد السمرقندي الفقيه. وقدم إيلاق وحدثه بها محمد بن عمرو بن علي بن عبد الله البصري، ومحمد بن الحسن بن إبراهيم الکرخي الکاتب، وأبا محمد بکر بن علي بن محمد بن الفضل الشاشي الحاکم، وأبو الحسن علي بن عبد الله ابن أحمد الاسواري. وورد عليه بتلک القصبة شريف الدين أبو عبد الله المعروف بابن نعمة وسأله أن يصنف له کتابا في الفقه والحلال والحرام والشرايع والاحکام فأجاب ملتمسه فصنف له کتاب من لا يحضره الفقيه. ودخل سمرقند وسمع أبا محمد



[ صفحه 9]



عبدوس بن علي بن العباس الجرجاني، وأبو أسد عبد الصمد بن عبد الشهيد الانصاري ورحل إلي فرغانة، وحدثه بها تميم بن عبد الله القرشي، وأبو أحمد محمد بن جعفر البندار الشافعي الفرغاني، وإسماعيل بن منصور بن أحمد القصار، وأبو محمد محمد بن أبي عبد الله الشافعي. [2] .

کل ذلک للتمسک بالکتاب والاخذ بحجزة أهل بيت الوحي، والذب عن حريمهم، والقيام بفروض الخدمة، وأداء واجب الحق، ونشر الوية المعارف، وترويج المذهب.

فقد فتح ـ رضوان الله عليه ـ في تاريخ الاسلام لنفسه صحيفة بيضاء واسعة النطاق کنطاق الجوزاء، تشرق منها آثاره ومآثره التي طبق صيتها الافاق، ولا يعتريها في مرور الدهور محاق، کيف لا وهو البحر المتلاطم الزخار، شيخ مشايخ الحديث والاخبار، قد نور بتآليفه مناهج الاقطار، له مرجعية واسعة في الفتيا، يرسل إليه من أرجاء العالم الاسلامي والحواضر العلمية أسئلة مختلفة في موضوعات شتي، وتصدر من ناحيته أجوبتها، يوقفک علي ذلک ما أثبته النجاشي في رجاله من جوابات المسائل. قال له: کتاب «جوابات المسائل الواردة من قزوين»، و «جوابات مسائل وردت من مصر» و «جوابات المسائل التي وردت من البصرة»، و «جوابات مسائل وردت من المدائن». و «کتاب مسألة نيشابور»، و «کتاب رسالته إلي أبي محمد الفارسي»، و «الرسالة الثانية إلي بغداد» و «جواب رسالة وردت في شهر رمضان» [3] و «رسالة في الغيبة إلي الري والمقيمين بها وغيرهم». [4] .

کما أن له مباحثات ضافية وأجوبة شافية في مناصرة المذهب الحق ومناجزة الباطل منها ما وقع بحضرة الملک رکن الدولة البويهي الديلمي، وذلک بعد أن بلغ صيت فضله وشهرته الافاق، فأرسل الملک إليه واستدعي حضوره لديه، فحضر ـ قدس



[ صفحه 10]



سره ـ مجلسه، فرحب به وأدناه من نفسه وبالغ في تعظيمه وتکريمه وتبجيله، وألقي إليه مسائل غامضة في المذهب، وفأجاب عنها بأجوبة شافية، وأثبت حقية المذهب ببراهين واضحة بحيث استحسنه الملک والحاضرون، ولم يجد بدا من الاعتراف بصحتها المخالفون.

وذکر النجاشي في جملة کتبه: «ذکر مجلس الذي جري له بين يدي رکن الدولة»، «ذکر مجلس آخر»، «ذکر مجلس ثالث»، «ذکر مجلس رابع»، «ذکر مجلس خامس». [5] .

وعمدة الکلام في تلک المجالس إثبات مذهب الامامية ولا سيما مسألة الغيبة.

وذلک لان الشيعة ـ الفرقة الاثني عشرية ـ بعد ما فقدت راعيها تفرقت وارتابت ووقعت في الحيرة لخفاء الامر عليها. وکان أمر الصاحب عليه السلام منذ أيام السفراء المحمودين إلي أواسط القرن الرابع في ضمير الغيب، لا يکاد يسمع إلا همسا أو من وراء حجاب، لا يعلمه إلا الاوحديون، ولا يعرفه إلا خواص من الشيعة وهم لا يستطيعون الاصحار باسمه ولا وصفه، يعبرون عنه عليه السلام في نواديهم تارة بالصاحب، وأخري بالغريم، وثالثة بالرجل أو القائم، ويرمزون إليه فيما بين أنفسهم ب‍ـ (م ح م د) وأمر الامام في تلک الايام في غاية الاستتار. ومن جانب آخر کثرة الشبهات والتشکيکات التي ظهرت من المخالفين کالزيدية وهم العمدة والکيسانية والاسماعيلية والواقفة في موسي بن جعفر عليهما السلام.

فتشابکت هذه العوامل وتتابعت وتضافرت حتي آل الامر إلي تزلزل العقائد وتحير الناس في أمر الامام الغائب عليه السلام وأفضي إلي ارتداد الفئة الناشئة وصرفهم عما کانوا عليه هم وآباؤهم.

وأحس المؤلف ـ رحمه الله ـ هذا الخطر الداهم فنهض جاهدا لحفظ الشيعة عن هذا الشر المستطير والانهيار المحقق والانهدام المتحتم، ولولا مجاهداته ومباحثاته في الري في مجالس عدة عند رکن الدولة البويهي مع المخالفين وفي نيشابور مع أکثر المختلفين



[ صفحه 11]



إليه وفي بغداد مع غير واحد من المنکرين، لکاد أن ينفصم حبل الامامية والاعتقاد بالحجة، ويمحي أثرهم ويؤول أمرهم إلي التلاشي والخفوت والاضمحلال والسقوط ويفضي إلي الدمار والبوار.

وهذه کتب الحديث والتاريخ تقص علينا ضخامة الاعمال التي نهض بأعبائها هذا المجاهد المناضل وزمرة کبيرة من رجال العلم، وقيام هؤلاء في تدعيم الحق وتنوير الافکار، ودرء شبهات المخالفين وسفاسفهم الممقوتة، ونجاة الفرقة المحقة عن خطر الزوال ومتعسة السقوط، فجزاهم الله عن الاسلام خير جزاء العلماء المجاهدين.

تآليفه القيمة

ألف ـ قدس سره ـ کتبا شتي في جميع فنون الاسلام وما يحتاج إليه الامة المسلمة، ولا يغادر شيئا. کلها بنسق بديع وسلک منضد، [6] تبلغ عددها ـ علي ما ذکره الشيخ الطوسي رحمه الله ـ ثلاثمائة. غير أن جلها ضاعت واندرست أو دثرت وانطمست تحت أطباق البلي أو ترکت في زوايا المکتبات الدارسة المطمورة نسجت عليها عناکب النسيان، فمحيت وما کان يلوح إلا رسمها. وبادت فلا يبقي منها إلا اسمها. نعم: بقي بعضها إلي القرون الاواخر لکن فقد کأنه صعد به إلي السماء أو اختطفه الطير أو تهوي به الريح في مکان سحيق، وما يبقي بأيدينا من هذه الثروة الضخمة إلا نزر يسير لم يبلغ عددها عشرين. وهذه البقية أيضا غار نجمها في ستار سخافة الطبع من کثرة الاغلاط والسقطات والتحريفات ونشرت علي صورة مشوهة لا يرضي عنها العلم ولا العلماء، لانه طبع أکثرها بأيدي الذين لم يعرفوا قيمة العلم ولا قيمة الکتاب ولا خبرة لهم بالفن.

فأمست کتب هذا المؤلف الفذ تراثا نهبا، وعلما ضايعا، بعد ما أصبحت علما ناجعا وبرهانا ساطعا، ونورا وهدي وضياء، ومفخرا للامة، وشاهدا علي تقدمها



[ صفحه 12]



ورقيها، ومقياسا لرشدها. فطواها الدهر طي السجل، ومحا آثارها التي تسمو وتجل، فقد طال علي فقدها الامد، وتقضت علي ضياعها المدد.

وليس البلاء منحصرا بکتب الصدوق قط بل عم مؤلفات جم غفير من العظماء هذا ابن قولويه لم يبق من تآليفه إلا کامل الزيارات مع أنها تربو عدد أبواب الفقه. وهذا شيخنا المفيد له نحو من مائتي مصنف ضاعت واندرست فلم يبق منها إلا قليل. وهکذا کتب الشيخ الطوسي، وکتب العلامة الحلي ـ رحمهما الله ـ وقد نقل الطريحي في مجمعه عن بعض الافاضل أنه وجد بخط العلامة الحلي خمسمائة مجلد من مصنفاته غير خط غيره من تصانيفه فضاعت تسعة أعشارها وصارت عرضة للناهب، وفقدت فأصبحت کأمس ذاهب.

وذلک من أجل ما نشب بين أجيال المسلمين خلال القرون الماضية حروب طاحنة وفتن غاشمة، ووقعت کثيرة من المکتبات معرض الاغارة والنهب، والتبار والبوار، فتعرضوا لها تارة بالغرق واخري بالاحراق، والتي بقيت بعدها تيک الکوارث صارت عرضة للغارات في حادثة التاتار، فلم تزل هدفا للافات والحدثان حتي في الاونة الاخيرة إذ نحن في غفلة جاء أناس من أقصي البسيطة عرفوا قيمة الکتاب، قيمة التأليف قيمة العلم فأغاروا علي بقية ما بأيدينا من هذه الثروة العلمية الطائلة، وشروها منا بثمن بخس دراهم معدودة. وکنا فيها من الزاهدين.

وإني لا أريد أن أزعجک بتطويل الکلام، وما هو بالمقصود والمرام، بل هو شئ أدي إليه مساق الکلام، وأود في هذا المقام أن يقف القارئ عند هذه الملاحظة حتي يري بعيني الحقيقة ودقة النظر ما ينطوي عليه موقفنا من الخطر، إذ نحن تقاعسنا عن بذل کل مجهود في هذا السبيل. وليس بعيب لنا أن نواجه الحقائق أو نري بعين الواقع.

هذا مجمل القول فيما جري علي الکتب المخطوطة.

وأما الکتب المطبوعة، فيالله منها إذ أکثرها طبعت ونشرت علي صورة سخيفة مشوهة، وسوي ما فيها من نقص وتحريف أو خطأ وتصحيف لم يعرف فيها أصولها



[ صفحه 13]



ومن أين أخذت نسختها، ومن هو الذي صححها وقابلها، وبعد الاغماض عن کل ذلک فما ظنک بکتب تتداولها أيدي الکتاب المحترفين وتتعاورها المطابع بشر من ذلک.

والباحث فيها مهما أراد فهم جملة أو کلمة أو سطر وقع في الوحل، فيقرؤها مرة ويعود ويضحي بنفسه ويجود، ينظر تارة في المتن واخري في الحاشية، ثم رفع رأسه فيتنفس ويقول: يا ليتها کانت القاضيه هلک عني سلطانيه. فإذا به قد أضاع عمرا و بذل مجهودا ضحية لعب من ناشر امي أو کاتب عامي.

نعم: في غمار هذا اللجي ودياجير هذا الدامس تضيء قلة من الکتب صححها أعلام من العلماء وجماعة من الفضلاء آجرهم الله عن الاسلام وهي التي يعتمد عليها من المطبوعات فحسب.

وأما الکتبيون فهم جماعة أکثرهم اُميون لا يعلمون الکتاب إلا أماني، يجترحون جرائم يسمونها کتبا، ينشرونها في الاسواق، تتناولها أيدي الناس باعظام وإکبار، يحسبونها صحيحا ويثقون بها ويطمئنون إليها ويخضعون لها، وما فيها صحيح إلا قليلا.

وأي کتب تبتلي هذا البلاء کتب العلم، کتب الحديث، کتب التفسير، کتب الفقه، کتب الکلام. وجل ما يطبع بأيدي هؤلاء سبيلها کسبيل الوجادة في عدم الاعتبار ولا يعتمد عليها إلا المغفلون.

ومجال الکلام فيها فسيح ولا يمکنني أن أبسط القول فيها في هذه العجالة وليس المقام مقام التفصيل فلنضرب عنها صفحا، وقصاري الکلام أن الکتب المذهبية أمرها خطير فادح عب ؤه، تحتاج إلي جهد وافر واستعداد واسع النطاق ولا يوفي بهذا. الغرض إلا الماهرون بطرق المعارف الدينية، فيجب أن تقوم بمهمتها رجال العلم، رجال الدين، العارفون باللغة، الخبراء بفن التصحيح، الذين لهم عناية تامة بصحة الکتب ومقابلتها وعرضها علي اصولها. وهذا هو المعمول في العالم في جميع الملل والنحل، حيث لا يفوضون أمر الکتب المذهبية إلي الکتبيين حتي يجعلونها مطية أهوائهم يتجرون بطبعها ويکتنزون کنوزا بنشرها، والناشرون المعتنون بصحة



[ صفحه 14]



منشوراتهم الدينية وجودهم کالکبريت الاحمر، والعالم العارف بقيمة ما ينشره قليل. وقد کان دأب بعض الافاضل أو المصححين التسامح في تحقيق بعض الالفاظ المصحفة في کتب الحديث فطفقوا يفسرونه بما يبدو لهم من قرائن الحال وما تسوق إليه أدلة الظن دون الرجوع في ذلک إلي الاصول واستثباته من نصوصها، وکان ذلک مدرجة للزلل في مقام الاخذ والاستشهاد، فضلا عما يقع في مثل هذا الشطط في تحمل الحديث وروايته.

وکثيرا ما سقط حرف أو کلمة فيقلب المعني وانعکس علي ضد المراد، ويقع القارئ في وحلة لا يکاد يخرج منها. مثلا في النبوي المعروف المروي في التحف والخصال: قال عليه السلام: «ثلاثة إن لم تظلمهم ظلموک زوجتک وخادمک والسفلة» فسقط هنا «واو» والصواب ـ کما في التحف ـ «ثلاثة وإن لم تظلمهم ظلموک ـ الحديث».

وربما سقط سطر أو بيت فلا يستقيم المعني فخبط الباحث في دياجير اللفظ وهام في تيه التعبير فأخذ بيم تقدير وتأويل وتخريج وتعليل مما يقضي بالعناء الثقيل إلي أن يفرغ منه وفي نفسه منه أشياء. مثال ذلک أن صاحب معادن الحکمة أورد في کتابه عن أمير المؤمنين کتابا إلي شيعته قال فيه في ذم الحکمين ـ أبي موسي الاشعري وعمرو بن العاص ـ هکذا «فنبذا ما في الکتاب وخالفا ما في القرآن وکانا أهله» وتکلف المؤلف في توجيهه وقال: «يعني کانا أهل القرآن علي زعمهما، أو علي زعم الجاهلين بهما، أو يعني بذلک أنهما کانا أهلا لخلاف القرآن» مع أنه سقط هنا نحو سطر والصواب ـ کما في غيره من الکتب ـ هکذا «وخالفا ما في الکتاب واتبعا هواهما بغير هدي من الله فجنبهما الله السداد وأهوي بهما في غمرة الضلال وکانا أهل ذلک».

قال الجاحظ في کتاب الحيوان ج 1 ص 64 طبع بيروت «ربما أراد مؤلف الکتاب أن يصلح تصحيفا أو کلمة ساقطة فيکون إنشاء عشر ورقات من حر اللفظ و شريف المعاني أيسر عليه من إتمام ذلک النقص حتي يرده إلي موضعه من اتصال الکلام. وقد قيل: «إذا نسخ الکتاب ولم يعارض، ثم نسخ ولم يعارض خرج أعجميا».

وهذا هو الحق المبين، والحق أبلج لا يحتاج إلي زيادة البراهين.



[ صفحه 15]




پاورقي

[1] الفوائد الرجالية ج 3 ص 293.

[2] راجع مقدمة معاني الاخبار.

[3] فهرست النجاشي ص 278 و 279.

[4] معالم العلماء ص 100 وفهرست الطوسي ص 157.

[5] مقدمة معاني الاخبار بقلم الاستاد المحقق الشيخ عبد الرحيم الرباني.

[6] بالقياس علي الموجودة منها.