الغيبة (الصغري- الکبري)
اعتاد المسلمون و المؤمنون منهم خاصة، منذ بداية دعوة الرسول صلي الله عليه وآله علي تلقي الأحکام الإسلامية و التعاليم الشرعية مباشرة من الرسول صلي الله عليه وآله، ومن بعده علي يد الأئمة المعصومين الأطهار، ولم يکن هناک أي حاجز يمنعهم من تلقي تلک الأحکام مباشرة. وبالتالي لم يکن ينتاب المؤمنين أو القاعدة الشعبية المؤمنة أي شک بتلک الأحکام، فهي صادرة من إمام معصوم، وان بدأ لهم أي ارتياب بالحکم الشرعي فمن السهل التأکد من صحة الأمر بالاتصال بالمعصوم (عليه السلام) مباشرة حيث وجودهم عليهم السلام بين ظهرانيهم، وحينها لا بدّ من تطبيق الحکم الشرعي من غير تردد.. هکذا کان الحال الذي اعتاده المؤمنون من زمن رسول الله صلي الله عليه وآله وحتي زمن الإمام العسکري (عليه السلام)، (260سنة).
اختلف الحال في زمن إمامة المهدي (عليه السلام)، فبعد أن کان متاحاً للمؤمنين أن يلتقوا بالإمام المعصوم مباشرة، يتلقون علي يديه الأحکام الشرعية، أصبح من العسير رؤية الإمام المعصوم.. لذا بدا يدب الشک في نفوس کثير من المسلمين عندما يسمعون الحکم الشرعي من الفقيه وخاصة للأحکام التي ليس فيها نص صريح يدل عليها – کاجتهاد من قبل عالم الدين – وتلک المرحلة جديدة بالنسبة للمؤمنين، لم يعتادوا عليها طوال مائتين وستين سنة، وان کان الأئمة عليهم السلام يهيئون أصحابهم باستمرار للتأقلم مع مثل هذه الظروف في السفر و الغزوات، إلا أن المعصوم يظل قريب المنال، من السهل الرجوع إليه ولو في أحلک الظروف.
وعلي إثر هذا الوضع الجديد في زمن إمامة المهدي (عليه السلام)، ولکونها مرحلة جديدة، لم يألفها الناس ولم يکونوا مهيئين نفسياً لها، حيث لا يلتقون بالمعصوم ولا يستطيعون الرجوع إليه في المستجدات من الأحکام والمسائل الإسلامية.. لذا بدأ ترتيبات عصر الغيبة الصغري، عصر إمامة المهدي (عليه السلام) وقيادته للمجتمع بتعين سفراء، وان لم يکن أمر السفارة غريبا علي أذهان الموالين بعد أن کان نظام الإمامين العسکريين قائما علي ذلک بشکل معتاد.
لذا بدا تهيئة الناس تدريجياً لتقبل فکرة الغيبة الکبري و احتجاب الإمام (عليه السلام) عن الأنظار، من خلال ترتيبات ظروف الغيبة الصغري، وتعيين السفراء الأربعة:
· السفير الأول: عثمان بن سعيد العمري - بداية عام (260هـ)، ولمدة (5 سنوات).
· السفير الثاني: ابنه محمد بن عثمان العمري، ولمدة (40 سنة).
· السفير الثالث: أبو القاسم حسين بن روح النوبختي، ولمدة (21 سنة).
· السفير الرابع: علي بن محمد السمري حتي عام (329هـ)، ولمدة (3 سنين).
ففترة الغيبة الصغري دامت علي التحديد تسعا وستين عاما وستة أشهر وخمسة عشر يوما. [1] .
إن الهدف الأساسي من السفارة هو تهيئة الأذهان للغيبة الکبري وتعويد الناس تدريجيا علي احتجاب الإمام (عليه السلام)، وفي نفس الوقت تهدف السفارة کذلک إلي القيام بمصالح المجتمع، وخاصة القواعد الشعيبة الموالية للأئمة عليهم السلام تلک المصالح التي تقضي بطبيعة الحال بانعزال الإمام واختفائه عن مسرح الحياة.. منها:
أولا: أخذ الأحکام مباشرة من المعصوم بلقائه مباشرة (في زمن عصر الأئمة عليهم السلام).
ثانيا: لقاء مباشر بفقيه أو سفير للمعصوم (عليه السلام) (الفقيه أو السفير يلتقي بالمعصوم (عليه السلام) - الغيبة الصغري -.
ثالثا: لقاء أو أخذ الأحکام من فقيه (الفقيه لا يلتقي بالمعصوم (عليه السلام)) - الغيبة الکبري -.
فلولا هذا التدرج إذاً لاختلف الحال أو قد يؤدي الوضع إلي نتيجة سيئة، فمثلا قد يؤدي إلي الإنکار المطلق لوجود المهدي (عليه السلام) ولکن هنا تنبع حکمة الأئمة عليهم السلام في هذا التدرج.
بعد هذا التمهيد البسيط عن الغيبة الصغري وبداية الغيبة الکبري، بخروج توقيع مقدس من الإمام المهدي (عليه السلام) يقول فيه: (بسم الله الرحمن الرحيم: يا علي بن محمد السمري: أعظم الله أجر إخوانک فيک، فانک ميت ما بينک وبين ستة أيام، فاجمع أمرک ولا توص إلي أحد فيقوم مقامک بعد وفاتک، فقد وقعت الغيبة التامة. فلا ظهور إلا بإذن الله تعالي ذکره، وذلک بعد طول الأمد وقسوة القلوب وامتلاء الأرض جوراً. وسيأتي لشيعتي من يدعي المشاهدة، إلا فمن أدعي المشاهدة قبل خروج السفياني والصيحة، فهو کذاب مفتر. ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم) [2] .
نصل إلي آخر جزء من المخطط الذي سار عليه الإمام المهدي (عليه السلام) للوصول إلي الغيبة الکبري، ليکون الإمام المهدي (عليه السلام) مذخوراً لليوم الموعود.. فقد کانت الغيبة الصغري کافية لاثبات وجود المهدي (عليه السلام) بما يصل إلي الناس عن طريق سفرائه، کما أوجبت بکل وضوح أن يعتاد الناس علي غيبة الإمام ويستسيغون فکرة اختفائه، بعد أن کانوا يعاصرون عهد ظهور الأئمة عليهم السلام، وإمکان الوصول إلي مقابلة الإمام.
وللعلم فان الإمام المهدي (عليه السلام) کان متدرجا في الاحتجاب، فهو أقل احتجاباً في أول هذه الفترة، وکلما مشي الزمان زاد احتجابه، حتي لا يکاد ينقل عنه المشاهدة في زمن السفير الرابع لغير السفير نفسه، وحينما کانت هذه الفترة مشارفة علي الانتهاء، کان الجيل المعاصر لزمن ظهور الأئمة (عليه السلام) قد انتهي، وبدأت تظهر أجيال جديدة اعتادت غيبة الإمام (عليه السلام) وفکرة القيادة وراء حجاب، وأصبحت معدة ذهنيا بشکل کامل لتقبل فکرة الغيبة الکبري واحتجاب الإمام عن قواعده الشعبية تماما.
وهذا واضح جدا في التسلسل الطبيعي لتطور الأحداث، والتدرج في الاحتجاب، ومع ذلک يواصل الإمام (عليه السلام) في مسيرة المخطط العام وذلک بمساندة إنجاح مرجعية الشيخ المفيــد (336هـ - 413هـ) باعتبارها أول مرجعية موالية للإمام (عليه السلام) بعد فترة الغيبة الصغري، وفي بداية عهد الغيبة الکبري، حتي يصبح للقواعد الشعبية المؤمنة ثقة في المراجع وعلماء الدين.
فمن الحکايات المعروفة المشهورة: [3] حکاية فتوي الشيخ المفيد في قضية (المرأة المتوفاة وفي بطنها جنين حي) ثم إصلاح الفتوي من قبل الإمام (عليه السلام): يذکر أن أحد القرويين - في العراق - وفد إلي مجلس الشيخ المفيد و سأله عن امرأة حامل ماتت وجنينها حيّ في بطنها، هل تدفن هکذا، أم تشق بطنها و يستخرج الطفل منها؟ فأجاب الشيخ: ادفنوها هکذا، فخرج الرجل عائداً أدراجه وفي أثناء الطريق، رأي فارساً مسرعاً يتبعه، وحين وصل إليه ترجل وقال له: يا رجل، الشيخ المفيد يقول: شقوا بطن هذه المتوفاة واخرجوا الطفل ثم ادفنوها. والتزم القروي بهذا التصحيح. وبعد مدة أخبر الشيخ المفيد بما جري، فقال: إنه لم يرسل أحداً ولاشک إن الفارس هو صاحب الزمان (عليه السلام) وبالفعل التزم بيته لا يغادر حتي جاءه التوقيع من صاحب الأمر (عليه السلام): (عليکم الإفتاء وعلينا تسديدکم وعصمکم من الخطأ) فما کان من الشيخ المفيد إلا إن عاود الجلوس علي منبر الفتيا.
وهنا لابدّ من الإشارة إلي أن جل هدفنا من هذه الحادثة هو إثبات إن مراجع التقليد الأتقياء والعلماء العظام الزاهدين، کانوا علي الدوام موضعا للعناية الخاصة من قبل إمام العصر (عليه السلام) سواء کانت هذه العناية والرعاية علي شکل لقاء أو إظهار للتقدير أو تقديم للشکر أو الدعاء بالخير أو الإرشاد والتوجيه أو تصحيح الاشتباهات والأخطاء إلي غير ذلک.. کما أشار الإمام (عليه السلام) في تصريح الکتاب الصادر عنه إلي الشيخ المفيد - قدس سره- حينما قال: (إنّا غير مهملين لمراعاتکم ولا ناسين لذکرکم، ولولا ذلک لنزل بکم البلاء واصطلمکم الأعداء) [4] .
پاورقي
[1] موسوعة الإمام المهدي – تاريخ الغيبة الصغري – محمد الصدر ص416.
[2] تاريخ الغيبة الصغري – محمد الصدر ص415، إعلام الوري ص417، جنة المأوي ص318.
[3] رعاية الإمام المهدي للمراجع والعلماء الأعلام – علي الجهرمي ص61.
[4] الإحتجاج للطبرسي، بحار الأنوار ج53 ص175.