بازگشت

العقل و نقد الحديث


يمکن أن يعتبر العمود الفقري في مناقشات المنکرين لحقيقة المهديّ هو مسألة نقد ما جاء فيه من الحديث عقلياً، وخلاصة ذلک:

أنّ اعتماد العلماء إنّما هو علي منهج نقد الأسانيد، دون المتون، وهذا لا يغني عن البحث عن المتن مطلقاً، لأنّ المحدّثين أنفسهم وضعوا قاعدة مهمّة مفادها «صحّة السند لا تقتضي صحّة المتن».

ولهذا أکّد بعضهم علي لزوم نقد المتن، وذکر مصادر لذلک، وذکر ضوابطه التي أنهاها إلي 18 ضابطة.

ورکّز في النهاية علي لزوم اعتماد العقل في نقد المتن، مدّعياً إغفالهم له، فقال: إنّ إغفالَ الجانب العقليّ، والاعتماد علي صحّة السند - فقط - قد يجرّد الإسلام من أعظم ما فيه، وهو عدم مناقضته للعقل السليم والنظر الصحيح.

وقد نقل عن ابن الجوزي قوله: فکلّ حديثٍ رأيته يُخالف المعقول أو يُناقض الأُصول، فاعلم أنّه موضوع، فلا تتکلّف اعتباره.

ونقل عن أحمد بن حنبل وابن الجوزيّ قولهما بعدم الاعتماد علي أخبار الملاحم، وما أخبر عن أمر مستقبل.

وطبّق هذا علي «المهديّ المنتظر» باعتباره من أخبار الملاحم، ومن أُمور المستقبل، وبما وجده - حسب عقله الوحيد - من مخالفات في أخبار المهديّ!

ولا نريد أن ندخل في نقاش الجزئيّات، ولکن نذکّر بأُمور کلّيّة فقط:

1 - إنّ مصبّ النقد العقليّ لأحاديث المهديّ إنّما هو ذکر التفاصيل، دون أصل الفکرة، کما تدلّ عليه جميع الأمثلة التي ناقشها المنکرون!



[ صفحه 49]



وقد عرفتَ في الفصل الرابع أنّ هناک فرقاً واسعاً بين الأصل، والتفاصيل، في أحاديث المهديّ.

2 - وقد ذکّرنا أيضاً بأنّ العقل إنّما يدرک أحکاماً وقضايا عامّة وکلّيّة، ولا دخل له في الأُمور والحوادث الخاصّة.

وقضيّة المهديّ، الموعود، ليست إلّا أمراً شخصيّاً وغيبيّاً مستقبلاً، فلا مجال لتدخّل العقل فيه، لا إثباتاً ولا نفياً.

فإقحام العقل وحکمه في أمره، من قلّة المعرفة بالشؤون العقلية ومدي فعّاليّتها.

کما سبق أن ذکّرنا بأنّ ثبوت المهديّ وانتظاره وخروجه لا يخالف قضيةً من قضايا العقل وأحکامه الثابتة، ولا يخالف أصلاً شرعياً، ولا فرعاً محقّقاً.

بل هو من الأُمور الخارجية، المحکومة عقلاً بالإمکان الخاصّ: فإن اقتضي شي ءٌ ثبوته، والالتزام به، ثبت ولزم، وإلّا فلم يقم دليل علي امتناعه واستحالته، حتي يقال: إنّه مرفوض عقلاً.

هذا في أصل قضيّة المهديّ.

وأمّا التفاصيل: فلو کان شي ء منها معارضاً لأصل عقليّ أو شرعيّ أو حتي فرع شرعيّ مجمَع عليه، فهو مرفوض.

وإلّا، فإنْ لم يصحّ سنده لم يجز نسبته إلي الشارع المقدّس، وإن صحَّ فهو خبر عاديّ، مثل سائر الأخبار غير الملزِمة علماً ولا عملاً، وإذا لم تضرّ، لم يمنع مانع من الالتزام بها، وإن ضرّت لزمها حکم الضرر.

ثمّ إنّ الملاک في رفض العقل لشي ء، أن تتّفق العقول - للمجموعة البشرية - علي رفضه، لا عقل شخص واحد!

فلو أقدم شخص علي الحکم علي الأحاديث بالبطلان، لمجرّد استبعاده الشخصيّ لها، واعتباره الخاصّ بأنّها لا تُعقل، فهو استبداد بالعقل!



[ صفحه 50]



وإن صدق في دعواه عدم إدراکه لأمر ما من هذا النوع من التفاصيل، فهو معذور، لقصوره.

ولکون أمر التفاصيل ليس من أرکان الدين ولا ضروراته، فلا يحکم عليه من أجل إنکاره لها بالکفر.

وأمّا ابن خلدون:

فإنّما تعرّض لأحاديث المهديّ بالنقد من جهتين:

الأُولي: المناقشاتُ السَنَدية، بتضعيف أسانيد ما أورده منها، وقد عرفت أنّه أورد (28) حديثاً فقط، وحکم بصحّة «القليل أو الأقلّ منها».

وعلي فرض تضعيفها کلّها، فإنّها لا تمثّل إلّا بعض الأحاديث الواردة في المهديّ، ومن المعلوم أنّ نقد البعض لا يدلّ علي ما حکم به من ضعف الکلّ وإبطال أصل القضيّة!

وقد عرفنا وجه الخلل في مواقف ابن خلدون من أحاديث المهديّ سابقاً.

ولا بُدّ من الإشارة إلي أهمّ نقطة في هذا المجال وهي: أنّ تبجّح أحدٍ بفعل ابن خلدون لا منشأ صحيح له، سوي الهوي.

فإنّ ابن خلدون ليس من أهل هذا الميدان، والحقّ الرجوع في کلّ فنٍّ إلي أربابه - کما يقول السيّد الکتّاني -. [1] .

لأنّ فنّ ابن خلدون وتخصّصه هو علم التاريخ، دون الحديث الشريف ورجاله، والحديث إنّما طريقه النقل، والخبراء فيه إنّما هم المحدّثون الّذين يقصدون طلبه، ويتحمّلون المشاقّ في سبيل تحصيله، وهم العارفون بقواعده وأُصوله.

وقال السيّد الصدّيق الغماريّ: إنّ ابن خلدون ليس له في هذه الرحاب الواسعة مکان، ولا ضُرِبَ له بنصيبٍ ولا سهم في هذا الشان، ولا استوفي منه



[ صفحه 51]



بمکيال ولا ميزان.

فکيف يُعتمد فيه عليه، ويرجع في تحقيق مسائله إليه؟! [2] .

وقال الشيخ المحدّث النقّاد أحمد شاکر في بعض تخريجاته لأحاديث مسند أحمد: ابن خلدون قد قفا ما ليس له به علم، [واللَّه يقول: «ولا تقفُ ما ليس لک به علم»] واقتحم قُحَماً لم يکن من رجالها.

إنّه تهافتَ في الفصل الذي عقده في مقدّمته [لذکر أحاديث المهدي] تهافتاً عجيباً، وغلط أغلاطاً واضحة.

إنّ ابن خلدون لم يُحسِن فهم قول المحدّثين، ولو اطّلع علي أقوالهم، وفقهها ما قالَ شيئاً ممّا قال. [3] .

وقال العبّاد في ردّه علي ابن محمود المقلّد لابن خلدون في نقد أحاديث المهديّ: إنّ ابن خلدون مؤرّخ، وليس من رجال الحديث، فلا يُعتدَّ به في التصحيح والتضعيف، وإنّما الاعتماد بذلک بمثل البيهقيّ، والعقيلي، والخطّابي، والذهبيّ، وابن تيميّة، وابن القيّم، وغيرهم من أهل الرواية والدراية الّذين قالوا بصحّة الکثير من أحاديث المهديّ. [4] .

فکيف يُرکن إلي ابن خلدون في مثل هذا العمل المهزوز علميّاً، في تضعيف أحاديث المهديّ؟!

والجهة الثانية التي اعتمدها ابن خلدون في نقده لأحاديث المهديّ، هي: قاعدته الاجتماعية المبنيّة علي أنّ العصبيّة هي دعامة الانتصار في کلّ دعوة إلي الدين أو المُلک، ولا تتمّ بدونها دعوة، وهي لا توجد عند المهديّ.

فهو يقول في نهاية الفصل الذي عقده لذکر المهديّ: الحقّ الذي ينبغي أن



[ صفحه 52]



يتقرّر لديک: أنّه لا تتمّ دعوة من الدين والمُلک إلّا بوجود شوکةٍ وعصبيّة تظهره وتدافع عنه مَنْ يدفعه، حتي يتمّ أمر اللَّه فيه.

وعصبيّة الفاطميّين، بل وقريش أجمع، قد تلاشت من جميع الآفاق، ووُجد أُممٌ آخرون قد استعلت عصبيّتهم علي عصبيّة قريش إلّا ما بقي بالحجاز في مکّة وينبع بالمدينة من الطالبيّين من بني حسن وبني حسين وبني جعفر، وهم منتشرون في تلک البلاد، وغالبون عليها، وهم عصائب بدوية متفرّقون في مواطنهم وإماراتهم وآرائهم، يبلغون آلافاً من الکثرة.

فإن صحّ ظهور هذا المهديّ فلا وجه لظهور دعوته إلّا بأن يکون منهم، ويؤلّف اللَّه بين قلوبهم في اتّباعه، حتي تتمّ له شوکة وعصبيّة وافية بإظهار کلمته، وحمل الناس عليها.

وأمّا علي غير هذا الوجه، مثل أن يدعو فاطميٌّ منهم إلي مثل هذا الأمر في أُفق من الآفاق، من غير عصبيّة ولا شوکة، إلّا مجرّد نسبةٍ في أهل البيت، فلا يتمّ ذلک، ولا يُمکن! [5] .

وبهذا المنطق يريد ابن خلدون أن ينفي الأحاديث الصحيحة التي وردت ووعدت بالمهديّ المنتظر، ولکنّه منطق هزيل أمام النصّ والواقع:

فأوّلاً: حصره الأساس للانتصار في عصبيّة النسب، أمر لا يوافق المنطق الإسلامي الرافض لکلّ أشکال العصبيّات والعنصريات، والداعي إلي الأُخوّة الإسلاميّة.

وثانياً: بطلان دعواه بالنسبة إلي الديانات والحرکات الدينيّة التي قامت علي الأرض ولا تزال، ممّا لا تعتمد علي العصبيّة، بل تضادّها أحياناً کثيرة:

فهذه ثورة الإسلام التي قام بها النبيّ صلي الله عليه وآله وسلم وليس معه من قومه إلّا القلائل، وأمّا الأکثرية فکانوا ضدّه بل هم من أشدّ الناس عليه، ولکنّه غلبهم ودحرهم



[ صفحه 53]



بإذن اللَّه.

وهذه الثورة الإسلاميّة في إيران، قادها رجلٌ علويّ وهو الإمام الخميني، من دون أن ينتمي إلي عَصَبة وشوکة سوي العُلقة الربّانية التي کانت تربط مقلِّديه في الفتوي به، وقد نصره اللَّه علي «الشاه» الأعجمي الحسب والنسب، والذي کان يدعو إلي القوميّة الفارسيّة بأقوي الأساليب وبشکل منهجي ومدروس، لکنّ الشعب المسلم المؤمن، وقف مع الإمام العلويّ، إلي حدّ الانتصار.

وثالثاً: إنّ المهديّ المنتظر، له ممهّدون، يمهّدون له سلطانه، ويهيّؤن له أُموره، وإن لم يکونوا من عصبته، کما دلّت عليه أخبار متّفق عليها بين المسلمين، فلا ينحصر وجه ظهوره في أن يخرج في عصبته من الطالبيّين فقط.

ورابعاً: لو صحّت الأحاديث بخروج المهديّ، فالمتّبع هو ما ورد في متونها، وهي تدلّ علي «ظهور رجل من أهل البيت يدعو إلي الرشد والهدي، ويحکّم کلمة اللَّه علي سطح الکرة الأرضية».

وأمّا أنّه «يخرج في الطالبيّين» خاصّة، کما يراه ابن خلدون، فليس بحجّة، ولم يتضمّنه حديث، ودليله عليه عليل، فلا يجب علينا الالتزام برأيه.

بل هو إن کان مؤمناً باللَّه والرسول، فالواجب عليه رفع يده عن نظريّته الهزيلة، والتزام ما وردت به الأحاديث الصحيحة.



[ صفحه 54]




پاورقي

[1] نظم المتناثر، للکتّاني، ص146، آخر الحديث 289.

[2] إبراز الوهم المکنون، لأحمد الصدّيق الغماري.

[3] نقله العبّاد في مجلّة الجامعة الإسلاميّة - المدينة المنوّرة، العدد 45، رقم 3 من مقال «الردّ علي مَنْ کذّب أحاديث المهديّ».

[4] مجلّة الجامعة الإسلاميّة، المدينة المنوّرة، العدد 45.

[5] مقدّمة ابن خلدون، 328-327.