و أمّا إيجابيّات مسألة المهدي
إنّ فکرة المهديّ الموعود، وبالصورة المشترکة بين الأحاديث، لها جوانب إيجابية، تتوافق عليها أدلّة العقل والعرف، والتدبير، حتي ولو أغفلها مثل عقل المنکر! بل تصوّرها من السلبيّات.
«فانتظار الفرج» الذي هو تعبير شائع عن رفض اليأس، وعن عدم القنوط من الرحمة الإلهيّة، هو أمر جدّ مهمٍ لمن تحوطه المشاکل ويصبح في مأزق منها، وتکاد تقضي عليه، لولا رجاء رحمة اللَّه!
وقد عُدَّ «انتظار الفرج عبادة» من الأحاديث الواردة بطرق عند الشيعة والسُنّة، في غير قضيّة المهديّ الموعود.
«والمهديّ» هو تطبيق عملي وعينيّ لفکرة «الانتظار» للفرج عند الشدّة، وذلک عندما يعمّ الدنيا الظلمُ والجور، ويخيّم اليأس علي الجميع، ويخمد صوت العدالة، فيکون «المهديّ» فَرَجاً عامّاً، يملأ الدنيا عدلاً، ورحمة، وخيراً.
وقد اضطرّ المنکر إلي أن يعترف بهذه الحقيقة، فهو يقول:
شيوع هذه الفکرة وانتشارها بين المظلومين شي ء طبيعيّ، فهي بؤرة الضوء في ظلام دامس، وواحة الأمل والأمان في دنيا الإنسان المقهور. [1] .
فإذا کان شيئاً طبيعياً، فهو سُنّة اللَّه في الخلق.
ولکنّه ينسي هذه الحقيقة عندما ينحاز إلي التأکيد علي السلبيّات، فيقول:
إنّ الاستسلام للظلم، إلي أن يخرج مبعوث إلهيّ ليزيله يُعتبر عبثاً، وتخديراً للناس، انتظاراً لأمل لن يتحقّق، ودفعاً للشعوب الإسلاميّة إلي أن ترجو الخلاص بطريق يُخالف سُنّة اللَّه في الکون. [2] .
فالذي يظهر لنا في ردّه:
[ صفحه 42]
أوّلاً: إنّ الأمل في نفسه مدعاة لعدم الاستسلام، وإلّا لم يُسَمّ أملاً، وليس أمر تحقّقه وعدم تحقّقه بعد ذلک أمراً مؤثّراً في کونه أملاً، وفي کونه مانعاً عن اليأس وضدّ تأثيره.
ولذلک قد يکون الأمل خائباً، وقد لا يخيب بل يتحقّق، وإذا کان الأمل باللَّه، وبوعده بالخلاص علي يد المهديّ الموعود، فهل يحقّ لمؤمن أن يقول: إنّه لن يتحقّق؟!
وإذا قطعنا النظر عن الإيمان بالمهديّ: فمن أين عرف هذا القائل أنّ هذا الأمل لن يتحقّق، حتي يجزم به؟!
أليس هذا رجماً بالغيب، الذي لا يعترف به؟! وهل هذا منطق البحث العلمي الرصين؟!
وثانياً: إنّ أحاديث المهديّ ليس فيها ما يدلّ أو يشير أدني إشارة إلي أنّ المسلمين لا نهضة لهم، ولا عزّ، قبل خروج المهديّ.
وهذا ما ذکره ناصر الدين الألباني، وأضاف: فإذا وجد في بعض جهلة المسلمين مَنْ يفهم ذلک منها، فطريق معالجة جهله أن يُعلّم ويُفهّم، لا أن تردّ الأحاديث الصحيحة بسبب سوء فهمه. [3] .
أقول: وهذه النغمة مأخوذة من أحمد أمين [4] ومن تبعه.
وقد ردّ عليه العبّاد بقوله: خروج المهديّ في آخر الزمان متّفقٌ مع سُنّة اللَّه في خلقه، فإنّ سُنّة اللَّه تعالي أنّ الحقّ في صراع دائم مع الباطل، واللَّه تعالي يُهيِّئ لهذا الدين في کلّ زمان مَنْ يقوم بنصرته، ولا تخلو الأرض - في أيّ وقت - من قائم للَّه بحجّته، والمهدي فردٌ من أُمّة محمّدصلي الله عليه وآله وسلم، ينصر اللَّه به دينه في الزمن الذي يخرج فيه الدجّال، وينزل فيه عيسي بن مريم عليه السلام من السماء، کما صحّت الأخبار بذلک
[ صفحه 43]
عن النبي الذي «لا ينطق عن الهوي ، إنْ هُوَ إلّا وحيٌ يُوحي». [5] .
وثالثاً: أين ومتي کان «انتظار المهديّ» سبباً للاستسلام؟! وکيف يحقّ للقائل أن يدّعي هذه السلبيّة؟!
وهؤلاء الشيعةُ، وهم من أشدّ الناس تمسّکاً بعقيدة المهديّ المنتظر، ويتوقّعون ظهوره وخروجه، بفارغ الصبر وبکلّ إلحاح، تصديقاً لإخبار النبيّ الصادق محمّد صلي الله عليه وآله وسلم.
وهم مستهدَفُون من أجل عقيدتهم هذه بشتّي أنواع التهم والقذف والتسخيف، حتي من قِبَل بعض إخوانهم، الّذين يُشارکونهم في الإسلام.
فبالرغم من التزامهم الأکيد والقويّ بانتظارالمهديّ حتي أصبحت ميزةً لهم خاصّة، وکأنّهم وحدهم أُمّة محمّد صلي الله عليه وآله وسلم الذي أخبر بظهور المهديّ ووعد به وأمر بانتظاره والائتمام به!
فمع کلّ ذلک، ها هم الشيعة اليوم، يقفون في الصفّ الأوّل في کلّ الحرکات الثورية علي الظلمة والمعتدين، وهم يمهّدون للمهديّ ودولته بکلّ ما أُوتوا من حَوْل وطَوْل، ويُعِدُّون ما استطاعوا من قوّة ومن رباط الخيل، يُرهبون به عدوّ اللَّه، وأعداءهم الکافرين من اليهود والنصاري وأذنابهم من السلفية والعلمانية والبعثية، وأتباع الحکومات المستسلمة اسماً، والمستعمرة فکراً وعملاً.
وهم يعتقدون أنّ ما يقومون به هو «تمهيد» لسلطان المهديّ، وزعزعة للثقة عن قلوب الطغاة والظلمة، وهم الرافضون لکلّ أشکال التعنّت في الحکم، ما مضي منه وما هو قائمٌ باسم الإسلام، ويرفضون کلّ تعنّت وفساد واعوجاج في العقائد والعمل، ويلتزمون - ما أمکنهم - بتطبيق أحکام الإسلام وتحکيم قوانينه علي الأرض.
[ صفحه 44]
ولقد أصبح الشيعة رمزاً لکلّ ثائر مؤمنٍ متطلّعٍ إلي الحقّ والعدل، في کلّ الأرض الإسلاميّة، وحتي غير الإسلاميّة.
وأصبحت الحکومات الجائرة، إسلاميّة وغيرها، تتّهم کلّ مُطالب بالحريّة، ورافضٍ للظلم والجور، بأنّه شيعيّ، أو مرتبط بدولة الشيعة، أو مُتعاطف مع الشيعة، أو يستمدّ منهم مالاً وسلاحاً، وغير ذلک من التهم، التي لا واقع لها! فإنّ في المتحرّکين مَنْ لا يعترف بالشيعة ولا بدولة الشيعة!
إنّ هذا الواقع، أدلّ دليلٍ علي بُطلان ما يدّعيه القائل بسلبيّة عقيدة المهديّ المنتظر، بأنّها تؤدّي إلي الاستسلام للظلم.
وأمّا فلسفة الانتظار الذي تبتني عليه فکرة «المهديّ المنتظر» فقد شرحها واحد من کبار علماء الشيعة الإماميّة في القرن الرابع الهجريّ، وهو عليّ بن الحسين بن موسي، ابن بابَوَيْه، أبو الحسن، القُميّ (ت329) في مقدّمة کتاب «الإمامة والتبصرة من الحَيْرة» الذي ألّفه لمعالجة هذا الأمر بالخصوص، فإنّه ذکر عِللاً خمساً «للانتظار» هي من إيجابيّات «المهديّ المنتظر» فلنقرأها:
قال:
ولکنّ اللَّه - جلّ اسمه - جعله أمراً «منتظَراً» في کلّ حين وحالاً «مرجوّةً» عند کلّ أهل عصر:
1 - لئلّا تَقْسُوَ - بطول أجلٍ يضربه اللَّه - قلوبٌ.
2 - ولا تُسْتَبْطَأَ - في استعمال سيّئةٍ وفاحشةٍ - موعدةُ عقاب.
3 - وليکون کلُّ عاملٍ علي أُهْبَةٍ.
4 - ويکون من وراء أعمال الخيرات أُمنيّةٌ، ومن وراء أهل الخطايا والسيّئات خشيةٌ وردعة.
5 - وليدفع اللَّه بعضاً ببعض. [6] .
[ صفحه 45]
وقد وفّقني اللَّه للعثور علي ذلک الکتاب وتحقيقه منذ سنوات، وقد شرحت هذه القطعة من کلامه بما يُناسب إيراده هنا، فقلتُ:
هذه خمس عللٍ ذکرها المؤلّف «للغَيْبة» وهي أسرار «الانتظار» يمکننا أن نقف لشرحها علي صفحات کثيرة، لکنّنا نشير في هذا المجال إلي مختصر من القول:
الأمر الأوّل: أشار به إلي «الأمل» الذي تبعثه الغَيْبة في نفوس المستضعفين، وأنّ «الانتظار» لا يزرع في قلوبهم: القسوةَ، والخمودَ، واليأسَ، بل: يخلق في نفوسهم: النشاطَ، والوثبةَ، والبأسَ.
لأنّهم بالإيمان بالغَيْبة لا يجهلون المصير، کما يتخيّلُ المبطلون، بل هم علي موعدٍ إلهيّ، واثقون من التحرّر بقيادة حکيمةٍ مدعومةٍ بالنصر الإلهي.
والأمر الثاني: يُشير به إلي حساب الطواغيت المسيطرين علي رقاب الناس، فإنّ الغيبة تبعثُ في أعماقهم رُعْباً لا يهدأ، لأنّهم لا يعلمون متي يأتي وعْدُ اللَّه بعذابهم؟ «فإنّه آتيهم من حيث لا يشعرون».
إنّ جهلهم بالمصير، يُرْبکهم، ويجعلهم في ريبٍ ممّا يقومون به من الظلم والفحش، لأنّهم: «يحسبون کلّ صيحة عليهم».
والأمر الثالث: - وهو أهمّ الأُمور -: أنّ الغيبة تجعل الإنسان المؤمن، العامل في سبيل اللَّه، في حالة الإنذار القصوي، دائماً، وعلي استعداد تامٍّ، لکي يقوم بدوره في کلّ حين.
يَعُدُّ الأيام، بل الساعات، ليحين الحين، لکي ينطلق نحو الهدف.
إنّه لا بُدَّ أن يهيّئ حاله بکامل العُدَّة من الصلاح، والسلاح.
إنّ «الانتظار» علي هذا يعني عملية استنفار مستمرّة لجُند حزب اللَّه، العاملين.
فما أعظم ذلک من حکمةٍ!
[ صفحه 46]
والأمر الرابع: أنّ الوعد والوعيد، والتبشير والإنذار، لَمِمّا اعتادت النفوس علي الاهتمام بهما، والاعتماد عليهما في الحياة، بل إنّ مبني الناس في إقدامهم أو إحجامهم، علي الأمانيّ والآمال بما يبشّرهم، أو علي أساس الخوف والفزع ممّا يُنذرهم.
لهذا، فإنّ «الانتظار» يکون لعامل الخير أُمنيّةً يرجوها ويأملها، فيستمرّ علي عمل الخير.
ويکون لعامل الشرّ خوفاً کامناً يتبعه، ووحشة تلاحقُه، فتردعه عن شرّه، وتکفّه عن اتّباع سريرته الشِرّيرة السيّئة!
والأمر الخامس: إشارة إلي سُنّة الحياة، في التنازع علي البقاء، وأن تبقي بعض الأُمور مجهولة، کي تستمرّ عجلة الحياة في السير، ولا تخمد جمرة الوجود عن الإثارة، ولکي يبقي للإنسان الخيارُ في أن يختار الأفضل.
ولو کانت الحقائق - کلّها - واضحة مکشوفة، لَما کان في اختيار الحقّ ميزة للمحقّين، ولم يکن ابتعاد الإنسان عن الشرّ مدعاةً للفرح والسرور.
کما إنّ في ذلک إتماماً للحُجّة علي المعاندين، ممّن اختاروا طريق الفساد، والظلم، والشرّ، بينما الأخيار إلي جنبهم - أيضاً - يعيشون في هذه الحياة!
ولکن «لولا دَفْعُ اللَّهِ الناسَ بعضَهم ببعضٍ لَهُدِّمتْ صوامعُ وبِيَعٌ وصلواتٌ ومساجدُ يُذکر فيها اسمُ اللَّه». [7] .
إنّ «إيجابيّات الانتظار» هذه التي ذکرها القُمّي في القرن الرابع الهجري، هي مستلهَمة من واقع الحياة، وسُنّة اللَّه في خلقه، وهي منطبقة علي کلّ حالات «الانتظار» التي کانت من قبل، ومن بعد، إلي عصرنا الحاضر.
وها هم المظلومون في کلّ بُقعةٍ من الأرض، والمؤمنون في الأرض الإسلاميّة، تنطلق جموعهم المصدّقة بالنبيّ صلي الله عليه وآله وسلم وأخباره بخروج المهديّ
[ صفحه 47]
ودعوته للتمهيد له، وکلّهم في فوران وتوقّع لحکم کلمة اللَّه، يثورون ضدّ الحکومات الجائرة، والحکّام الطغاة الفاسدين من الملوک، والرؤساء والأُمراء والوزراء، وکلّ دجّال لئيم، يتّکئ علي أريکة الحکم والسلطة، بالباطل والزور، مُتقنّعاً باسم الإسلام!
والمسلمون - أجمعون - ينتظرون خروج المهديّ الموعود ليحقّق النصر الإلهيّ بتمکين المستضعفين في الأرض، بمنّه وکرمه.
[ صفحه 48]
پاورقي
[1] تراثنا وموازين النقد (ص185).
[2] تراثنا وموازين النقد (ص213-212).
[3] مجلّة التمدّن الإسلامي - الدمشقيّة، العدد 22.
[4] ضحي الإسلام، لأحمد أمين المصري، 244:3.
[5] الردّ علي من أنکر أحاديث المهديّ، مجلّة الجامعة الإسلاميّة - المدينة المنوّرة، العدد 45، السنة 12.
[6] الإمامة والتبصرة من الحيرة، لابن بابويه القمي (ت329) تحقيق السيّد محمّد رضا الحسينيّ الجلاليّ، ص144-143، نشر مؤسّسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث - بيروت 1408 ه.
[7] الإمامة والتبصرة من الحيرة، بتحقيقنا، المقدّمة، ص114-112.