بازگشت

مسألة المهدي بين السلبيّات والإيجابيّات


لقد حاول البعض الإيحاء ببطلان أحاديث المهديّ المنتظر بطرق شتّي:

فمن ناحية تضعيف أسانيدها، تارة.

وهذا ما لم يفلح فيه، لما عرفت من اتّفاق أهل الحديث من العلماء کافّةً علي صحّة قسم منها، بحيث لا يقبل الإنکار.

فلجأ إلي النغمة القديمة التي ضرب علي وترها المستشرقون الحاقدون علي الإسلام المحمّدي، وتبعهم أذنابهم المستغربون من أمثال أحمد أمين المصري، وهي: اتّهام الشيعة بوضع أحاديث المهديّ المنتظر.

وسيأتي منّا کلام حول تفنيد هذه المزعومة الباطلة.

فاعتمد علي عنصرين هما بيت القصيد في بحثه:

الأوّل: عدم معقولية مجموعة من الأحاديث المنقولة في شأن المهديّ، وهو ما يسمّيه بالنقد العقلي للحديث.

الثاني: استغلال مجموعة من أهل الدنيا والمشعوذين والخلفاء، لفکرة المهديّ المنتظر، لادّعائهم المهدوية، والتحايل علي الناس بذلک، ممّا لا تخفي أضراره وأخطاره علي الدين والأُمّة، ماضياً، ومستقبلاً.

وقد رکّز في خلال ذلک علي سلبيّات للقضيّة.

فنقول:

أمّا الأمر الثاني: فممّا لا ريب فيه أنّ مسألة المهديّ قد استغلّت من قبل الکثيرين في طول تاريخنا المديد، وحتي هذه الأيّام.

فادّعاها بعض المشعوذين ممّن يحاول السيطرة علي عقول الناس



[ صفحه 35]



وأفکارهم باستخدام هذا الاسم المقدّس الذي يأمل الناس في صاحبه: الهدي والخير والعدل.

کما قد أُلصقتْ صفة «المهديّ» ببعض الثوّار المصلحين، من قبل أنصارهم تفاؤلاً بأن يکون هو الموعود به علي لسان الرسول صلي الله عليه وآله وسلم.

إلّا أنّ هذا الاستغلال، ليس مَدعاةً لإنکار أصل حقيقة المهديّ الذي هو من الثوابت عند المسلمين علي طول التاريخ.

ووجود الخطأ في التطبيق، أو سوء النوايا في بعض الأحيان، وتعمّد البعض للدجل، لا تؤدّي إلي إنکار الحقيقة الثابتة.

وبهذا الصدد أجاب الشيخ محمّد الخضر حسين، فقال:

وإذا أساء الناس فهم حديث نبويّ، أو لم يُحسنوا تطبيقه علي وجهه الصحيح، حتي وقعت وراء ذلک مفاسد، فلا ينبغي أن يکون داعياً إلي الشکّ في صحّة الحديث، والمبادرة إلي إنکاره.

فإنّ النبوّة حقيقة واقعة بلا شبهة، وقد ادّعاها أُناس کِذباً وافتراءاً، وأضلّوا بدعواهم کثيراً من الناس، مثل ما تفعله طائفة القاديانية، اليوم.

فليس من الصواب إنکار الحقّ من أجل ما لصق به من باطل. [1] .

وکذلک الخلافة عن الرسول، منصب حقّ، لکن لا يمکن إنکارها باعتبار استيلاء مجموعة من الجهلة والقتلة والظلمة والفسقة، علي أريکتها، وتسمية الواحد منهم نفسه «أمير المؤمنين!».

وقال ناصر الدين الألباني: إنّ کثيراً من الأُمور الحقّة يستغلّها مَنْ ليس أهلاً لها.

فالعلم - مثلاً - يدّعيه بعض الأدعياء، وهو في الواقع من الجهلاء.

فهل يليق بعاقلٍ أن ينکر العلم بسبب هذا الاستغلال؟!



[ صفحه 36]



فکذلک فلنعالج عقيدة المهديّ، فنؤمن بها کما جاءت في الأحاديث الصحيحة، ونُبعد عنها ما أُلصق بها بسبب أحاديث ضعيفة [أو أعمال أُناس جاهلين أو مغرضين].

وبذلک نکون قد جمعنا بين إثبات ما ورد به الشرع وبين الإذعان لما يعترف به العقل السليم. [2] .

وقال العبّاد: إنّ وجود مُتَمَهْدِين من المجانين وأشباه المجانين، يخرجون في بعض الأزمان، ويحصل بسببهم علي المسلمين أضرار کثيرة، لا يؤثّر في التصديق بمَنْ عناه الرسول صلي الله عليه وآله وسلم في الأحاديث الصحيحة، وهو «المهديّ الذي يصلّي عيسي بن مريم عليه السلام خلفه».

وما ثبت عن رسول اللَّه صلي الله عليه وآله وسلم يجب التصديق به، ويجب القضاء علي کلّ مُتَمَهْدٍ، أو غير مُتَمَهْدٍ يُريد أن يشقّ عصا المسلمين ويفرّق جماعتهم.

والواجب قبول الحقّ وردّ الباطل، لا أن يُردَّ الحقّ ويُکذَّبَ بالنصوص، من أجل أنّه ادّعي مقتضاها مدّعون مُبطلون دجّالون. [3] .

وها هم المسلمون - کافّة - يتصدّون لکلّ ادّعاء مزيّف بالمهدويّة من قبل الدجّالين.

وها هم الشيعة الإماميّة، وهم أکثر الطوائف دعوةً ودعاءاً للمهديّ المنتظر باعتباره إماماً لهم، وينادون باسمه علناً، يقفون ضدّ کلّ دعاوي المهدوية بالباطل، مثل موقفهم المشرّف ضدّ البابية التي تزعّمها «علي محمّد الشيرازي» في القرن الماضي.

وقد أفتي علماؤهم بوجوب قتله، فأُعدم.

وکذلک هم بالمرصاد لکلّ من تُسوّل له نفسه مثل تلک الدعوي من



[ صفحه 37]



المبطلين!

إلّا أنهم، مثل سائر المسلمين، ينتظرون المهديّ الموعود الذي «يملؤ الأرض عدلاً بعدما مُلئت ظلماً وجوراً» ويميّزونه بما ثبت عندهم من علامات الظهور، ووضوح برهان ذلک النور.

وأوّل کلّ أدلّته وعلاماته إجماع المسلمين علي قبوله، واستقبال دعوته والدخول في رايته وحزبه.

وأمّا دعوي عدم معقوليّة ما جاء في أحاديث المهديّ: فإنّما مثّل لذلک ببعض الأحاديث المشتملة علي تفاصيل الحديث عن شؤون المهديّ.

وسواءً کان المعترض محقّاً في دعواه عدم المعقولية، أم کان مبطلاً؟ فإنّ تلک الأحاديث، إنّما هي آحاد جاءت من طريق الأفراد فهي - صحّت أو ضعفت - لا تشکّل حجّة شرعيّة، وليست هي معتمد العلماء، ولا تدخل في البحث عندهم، لأنّها لا تفيد علماً، ولا عملاً.

وليست هي إلّا کسائر الأحاديث الواردة في قصص الأنبياء الماضين، وأحاديث سيرة النبيّ صلي الله عليه وآله وسلم والصحابة، وأخبار التاريخ وحوادثه، وغير ذلک من الأُمور التي يعتمد اعتبارها والالتزام بها علي عرضها ومقارنتها وغربلتها وتمييزها سنداً، ومتناً، ثمّ الترجيح بينها، واختيار الأوفق للأدلّة منها.

فليس ما عرض في هذا المجال خاصّاً بأحاديث تتحدّث عن المستقبل فقط، بل أحاديث الماضي - وحتي الحال - تحتاج إلي مثل هذا النقد، المستلهَم أساساً من مزاولات العرف، وقرائن الحال والمقال.

والملاک في الجميع - الماضي والحال والمستقبل - واحد، وهو کونها جميعاً من «الغيب» الذي لا يُعلم إلّا عن طريق المخبر الصادق، والعارف.

وبما أنّه من المنقول ويعتمد علي السماع، فالملجأ الوحيد هي الأخبار والأحاديث الراوية لذلک، لا غير.



[ صفحه 38]



ولکنّ الأمر بالنسبة إلي المؤمنين بالنصوص الدينيّة مختلف، فلو جاء القرآن الکريم، الذي هو «الوحي المعجز» أو جاء به الحديث الشريف، الذي هو «وحيٌ غير معجز» فإنّهم يؤمنون بذلک اعتماداً علي الإيمان باللَّه والرسول.

والسرّ في ذلک: أنّ اللَّه تبارک وتعالي، وإن کلّفنا بالاستمداد من العقل وتحکيمه، إلّا أنّ ذلک متصوّر فيما طريقه العقل فقط، وأمّا ما لا طريق للعقل في الحکم فيه فإنّه تعالي کلّفنا باتّباع الرسل، والأخذ منهم، والاعتماد علي ما ينقلونه من أخبار الشرع وغيره، واتّباعهم فيما يفعلونه والتزام ما يقرّرونه.

فالشرائع السماوية تعتمد علي عنصر «التبليغ» ويتقرّر الواجب علي المسلم عند «البلوغ».

ومهمّة الرسل هو إيصال الأحکام والحقائق والمعارف إلي البشر، وإتمام حجّة البلوغ عليهم.

أمّا المؤمنون فهم مکلّفون بالتزام ما وصل إليهم وبلغهم من کلام الرسل.

قال اللَّه تعالي: «وما آتاکم الرسولُ فخذوه، وما نهاکم عنه فانتهوا». [4] .

ولمّا کانت الشريعة الإسلامية تعتمد عنصر النقل والبلوغ، فقد قرّر علماء الدراية والمصطلح، قواعد محکمة متينة لضبط أُمور الرواية والنقل، وهي قواعد لم تسبقهم الأُمم في کلّ الحضارات إلي ذلک، سواء في ذلک الإلهيّة أم غيرها.

وقد أصبح النصّ الإسلامي علي أثر ذلک من أحکم النصوص المعتمدة علي أُسس من العرف والوجدان والعقل، في تحديد الطرق المأمونة في «توثيق النصوص».

وهذا من فضل اللَّه علي هذه الأُمّة المحمّدية، إذ وُفِّق علماؤهم لبذل الجهود الکريمة لحفظ هذا الدين وهذا التراث، وصيانة أُصوله وفروعه من التحريف والتصحيف، والحمد للَّه ربّ العالمين.



[ صفحه 39]



ومن هنا، فإنّ الحديث الشريف إذا صدر من النبيّ صلي الله عليه وآله وسلم، وثبت نقله، وصحّ طريقه، وسلم متنه، وبلغ الإنسان نصّه، فهو مُلزم باعتقاد صدقه تصديقاً للنبيّ صلي الله عليه وآله وسلم، والتزاماً بالقواعد المقرّرة، والأُصول المقبولة.

وإذا کان مضمون الحديث ممّا لا يُعرف إلّا من الغيب، کأُمور الماضي وحوادثه، والمستقبل وتوقّعاته، فإنّ طريق معرفته ليس إلّا النقل والسماع والأخبار.

فإن أمکن العقل إدراک ذلک، بأدلّته وأساليبه وأدواته، کان النقل مؤکّداً، والمنقول مرشداً إلي المعقول.

ولو تخالف المنقول مع المعقول، لزم تأويل المنقول ليوافق ما يقوله العقل ويؤکّده، وإلّا ضرب به عرض الجدار، إلّا أنّ مثل هذا شاذّ في الأخبار، لا يعمل به.

وأمّا ما لا يدخل في مجال درک العقل، وتقف أدواته وأدلّته دونه، فلا معني للاستناد إلي عدم فهم العقل له للردّ عليه وإنکاره.

وفي خصوص هذا المورد يجب علي المؤمن أن يصدّق بما يصله بالطرق المأمونة، ويستفيد من متنه حسب الموازين المتعارفة بين أهل اللغة، وحسب المقدور من الأعمال، وبما لا يخالف دليلاً آخر من أدلّة الشرع المسلّمة.

وأحاديث المهديّ المنتظر، من هذا القبيل: فإنّها من أخبار المستقبل الغيبيّة، وليست ممّا للعقل إلي نفيه أو إثباته سبيل، إذ هو أمر خاصّ، والعقل إنّما يحکم في الکلّيّات ويدرکها، وليس في الالتزام بما تدلّ عليه الأحاديث ما يؤدّي إلي المحالات العقلية، أو مخالفة للمسلَّمات العقلية.

بل العقل إنّما يذر هذا الأمر في بُقعة الإمکان، ما لم يقع علي امتناعه برهان، وليس علي اللَّه بمستبعد أن يدّخر لهذه الأُمّة المؤمنة المجاهدة شخصاً «مهديّاً» يهديهم إلي الفلاح وهو يقول: «والّذين جاهدوا فينا لنهدينّهم سبلنا». [5] .



[ صفحه 40]



وقد صحّت الأحاديث والروايات التي بلّغ فيها الرسول صلي الله عليه وآله وسلم هذا الوعد إلي الأُمّة، بأنّ اللَّه سيبعث في آخر الزمان رجلاً من أهل البيت اسمه «المهديّ».

فما المانع من تصديقها؟!

وأيّ دليل عقليّ يمنعه؟!

وأمّا الجزئيّات والتفاصيل، فقد أکّدنا مراراً علي أنّها ليست بمثابة «الأصل المذکور» في التواتر والثبوت، وإنّما جاءت بها الأخبار الآحاد المتفرّقة، ولم تتمّ بها الحجّة القاطعة.

ولو صحّ طريقها وسندها:

فلو عارضها دليل آخر، من نقل مقطوع، أو عقل جازم ولم يمکن تأويلها بما يوافق ذلک، لزم رفضها، وعدم الالتزام بها.

لکن ذلک لا يعني - إطلاقاً - إنکار أصل مسألة المهديّ المنتظر، الثابت بالأخبار الکثيرة، والمجمع عليه بين طوائف المسلمين.

وقد ذکر العبّاد في ردّه علي بعض منکري المهديّ ما نصّه: إنّ خروج المهديّ في آخر الزمان من الأُمور الغيبيّة التي يتوقّف التصديق بها علي ثبوت النصّ فيها عن رسول اللَّه صلي الله عليه وآله وسلم، وقد ثبتت النصوصُ في خروج المهديّ عن رسول اللَّه صلي الله عليه وآله وسلم في آخر الزمان، وأنّ عيسي بن مريم عليه السلام يصلّي خلفه.

والّذين قالوا بثبوتها هم العلماء المحقّقون وجهابذة النقّاد من أهل الحديث.

والواجب تصديق الرسول صلي الله عليه وآله وسلم فيما يُخبر به من أخبار، سواء کانت عن أُمور ماضية، أو مستقبلة، أو موجودة غائبة عنّا. [6] .



[ صفحه 41]




پاورقي

[1] نظرة في أحاديث المهديّ المنشور في مجلّة «التمدّن الإسلامي» الدمشقيّة.

[2] مقال حول المهديّ، في مجلّة التمدّن الإسلامي - الدمشقيّة.

[3] الردّ علي من أنکر المهديّ، المنشور في مجلّة الجامعة الإسلاميّة - المدينة المنوّرة، العدد 45.

[4] الحشر 7: 59.

[5] العنکبوت 69: 29.

[6] الردّ علي من أنکر أحاديث المهديّ، المنشور في مجلّة الجامعة الإسلاميّة - المدينة المنوّرة، العدد 45، سنة 1400 ه.