بازگشت

احاديث المهدي بين الأصل و التفاصيل


إنّ من الواضح لدي أهل العلم: أنّ أصلَ أمرٍ ما قد يکون ثابتاً ومتيقّناً، لکن تکون خصوصيّاته مشکوکةً ومختلَفاً فيها.

ولا يختلف الأمر في ذلک بين أن يکون من المنقولات أو المعقولات.

فقد يتّفق الناقلون علي مجي ء زيد - مثلاً - لکن يختلفون في مجيئه راکباً، أو ماشياً.

فيترکّب کلّ خبر من عنصرين: «أصل الشي ء» و «حالة الشي ء»، والأوّل ربّما يکون متّفَقاً عليه، والثاني يکون مشکوکاً فيه.

وإذا ترتّب حکمٌ من تکليف أو اعتقاد، أو أثر، علي الأصل، التزم به، لعدم الخلاف فيه، وأمّا الحالة فلا دليل علي ثبوتها، ولا يترتّب عليها أحکام الأصل، کما أنّ اختلافها لا يؤثّر في ثبوت الأصل.

ومثل هذا واقع في کثير من الملتزَمات الدينيّة، سواء العمليّة، أم الاعتقادية.

فالحجّ مثلاً، واجب شرعيّ، ولا خلاف في أصل وجوبه ومهمّات أعماله کالإحرام والطواف والسعي، بين الأُمّة الإسلاميّة، لکنّ الخلاف في جزئيات کلّ ذلک واقع لا محالة، من دون أن يؤثّر في أصل الوجوب.

وفي مقام العمل يلتزم العامل بما يترجّح عنده من أوجه العمل، أو يتخيّر بين الأفعال والوجوه المتعدّدة.

ومن المعلوم أنّ الخلاف الواسع بين الفقهاء في المذاهب المختلفة، وحتي فقهاء المذهب الواحد، غير مؤثّر في أحکام أُصول الواجبات والمحرّمات، المسلَّمة، ولا يسري التشکيک من الجزئيّات والتفاصيل، إلي الکلّيّات



[ صفحه 31]



والمسلَّمات.

وکذلک في المعتقدات: فإنّ من أُصول الدين الإسلاميّ وأُسسه الاعتقاد بالمعاد، وبما فيه من الحساب والميزان والصراط والجنّة والنار، لقيام الأدلّة علي أنّ کلّ ذلک حقّ لا ريب فيه، جاءت بذلک الآيات والأحاديث المتواترة، حتي أصبح من ضروريات الدين الإسلاميّ.

مع أنّ الخلاف واسع في تفاصيل کلّ ذلک، وليست الجزئيّات التي ورد بها بعض الروايات بتلک المثابة من الوضوح والمسلَّميّة والثبوت.

لکنّ الخلاف في الجزئيّات غير مؤثّر في اليقين بالکلّيّات، والاتّفاق عليها إلي حدّ عدّها من الضروريات.

وکذلک مسألة المهديّ المنتظر، فإنّ أصل خبرها يقينيّ أجمع المسلمون علي الالتزام به، لورود الأخبار المتضافرة به، أمّا تفاصيلها وخصوصيّات أحوال المهديّ وشؤون مجيئه، ومدّة بقائه، وکيفيّة حکمه، وحتي شؤونه الشخصيّة من اسمه، وحليته، وغير ذلک، فإنّ کلّ ذلک ليس بمنزلة الأصل، ولم ترد بها إلّا أخبار آحاد، فيُبني الاعتماد فيها علي حجّيّة الأخبار المنقولة تلک، وهي قابلة للنقد حسب المناهج المختلفة، إن سنداً، أو متناً، أو قياساً إلي الأدلّة الأُخري، وبالمقارنة بسائر الأخبار، والترجيح بينها، أو عقلاً للتأمّل في مدلولاتها ومضامينها.

وإذا أدّي النقد إلي عدم اعتبار شي ء من التفاصيل، فإنّ ذلک لا يؤثّر في ثبوت أصل حديث المهديّ، وخبره المجمع عليه بين المسلمين، والذي جاءت به الأخبار الصحيحة، وتواترت به، وهو «مجي ء رجلٍ من أهل بيت الرسول يُسمّي المهديّ، في آخر الزمان ليجدّد الدين، ويملأ الدنيا عدلاً» فهذا أمر لم يختلف فيه اثنان من المسلمين، وهذا الأصل هو المعني المدّعي «تواتره» وثبوته، من مجموع الأخبار والأحاديث الواردة في باب «المهديّ».

فمهما کانت التفاصيل باطلةً أو فاسدةً وغير ثابتة، فإنّ ذلک لا يمسّ ثبوت



[ صفحه 32]



«أصل حديث المهديّ» بشي ء.

ألم يکن من الأفضل أن يفرّق العاقل في سطر واحد بين الأصل والتفاصيل فيقول:

إنّ وجود إمام باسم المهديّ وردت بخروجه في آخر الزمان أخبار وروايات کثيرة، وکتبت من أجله آلاف الصحائف، ورويت حوله عشراتُ الروايات بمئات الأسانيد هو حقيقة ثابتة، وعليها اتّفاق جمهور المسلمين علي اختلاف طوائفهم.

فلو کانت تفاصيلها غير قابلة للقبول، حسب عقل أحَدٍ! أو ضعيفة السند، لم تقم الحجّةُ به، أو غير متّفق عليها حسب المعروف من مذاهب المسلمين! فهذا هو الذي ينبغي أن يکون منشأً للبحث والجدل؟!

أمّا عرض بعض التفاصيل، غير المقبولة، حسب عقل شخص واحد، وجعلها ملاکاً للحکم علي کلّ القضيّة وحتي أصلها الثابت، ووصفها بالوضع والبطلان، وجعل ذلک دليلاً للتهجّم علي أصل الحديث، فهذا خارج عن مناهج نقد الحديث، بل خارج عن أبسط قواعد المنطق، وهو قياسٌ مع أکثر من فارق!

وقد صرّح المحدِّث الصدّيق الغماريّ بما قلناه، وجعل المراد ب «التواتر المعنويّ»: القدر المشترک من مجموع الأحاديث، وقال: کلّ قضيّة منها باعتبار إسنادها لم يتواتر، والقدر المشترک فيها وهو «وجود الخليفة المهديّ آخر الزمان» تواتر باعتبار المجموع. [1] .

والأجنبيّ عن علوم الحديث لم يفهم هذا الاصطلاح، يقف يتساءل مستنکراً:

ما هو معني التواتر؟

هذه الأحاديث لا تتّفق علي شي ء!



[ صفحه 33]



أقول: کيف لاتتّفق علي شي ء، وقد اتّفقت علي القدر المشترک وهو «وجود شخص من آل الرسول صلي الله عليه وآله وسلم يظهر في آخر الزمان»؟!

أليس هذا المعني، قد أجمعت عليه أحاديث المهديّ؟!

لکن الجاهل يحاول تسفيه «التواتر» ويقول - بسخريّة الجُهّال -: إنّ المؤمنين بصحة السند فقط، لا تعنيهم هذه الأسئلة؟!

إنّه خروج عن حدود الأدب اللّازم توفّره في من يرتبط بالکتب، والقلم، وليس مقبولاً في المحاضرات العلميّة.

وهو أُسلوب استفزازيّ، يثير النفوس.

فهل العلماء والجهابذة الّذين نقلنا أقوالهم واعترافاتهم بتواتر أحاديث المهديّ في «الأصل المشترک» منها بالخصوص، يُخاطَبُون بمثل هذا الکلام السخيف؟!

مع أنّ الأحاديث المشتملة علي الشؤون الخاصّة، لم تدخل في دعوي التواتر المعنويّ، حتي يُستدلّ ببطلانها علي بُطلان أصل القضيّة!



[ صفحه 34]




پاورقي

[1] إبراز الوهم المکنون، للصدّيق، الفصل الأوّل.