التأرجح بين الاجتهاد والتقليد في نقد الحديث
مع أنّ بعض الکتّاب يحاول أن يَظْهَر کمجتهد في نقد الحديث، ويسعي للتخلّص من هيمنة ما يُسمّي ب «المصادر المشهورة» ويحاول أن يجعل من البخاري ومسلم وابن حنبل - من أئمّة المحدّثين - «بشراً غير معصومين من الخطأ» [کما يقول]. [1] .
فمع ذلک کلّه يلاحظ «أمراً مهمّاً»:
هو «أنّ البخاري ومسلماً رحمهما اللَّه لم يُثبتا حديثاً واحداً من الأحاديث التي تبشّر بظهور المهديّ». [2] .
فمنْ ينعي علي الآخرين «الإصرار علي أيّ عملٍ بشريّ - مهما کان مؤلّفه - بأنّه خالٍ عن أيّ خطأ أو سهو» فهو ينفي عصمة البخاري ومسلم عن الخطأ.
فکيف يحقّ له أن يستند إلي مجرّد عدم إثباتهما لحديث معيّن في کتابيهما، ليجعل ذلک دليلاً علي بطلان ذلک الحديث حتي إذا رواه غيرهما؟ وصحّحه!
مع أنّ البخاريّ ومسلماً - خاصّة - لم يلتزما باستيعاب کلّ الأحاديث الصحيحة في کتابيهما.
بل، إنّما انتخبا ما رأياه لازماً وضروريّاً، واستوعبه جهدهما وتعلّق به غرضهما من الأحاديث.
وقد صرّحا بأنّ ما ترکاه من الأحاديث الصحيحة أکثر ممّا أورداه! [3] .
[ صفحه 8]
فکيف يکون عدم وجود حديث في کتابيهما دليلاً علي عدم صحّته؟!
مع أنّ الحديث الصحيح کما أنّه موجود في البخاريّ ومسلم، فهو کذلک موجود خارجهما، وفي الکتب المؤلّفة بعدهما، وخاصّة فيما استُدرک عليهما، ممّا فاتهما وهو علي شرطهما، ولم يورداه.
ذکر هذا الشيخ عبد المحسن العبّاد، وذکر من الکتب الجامعة للصحيح: الموطّأ، وصحيح ابن خزيمة، وابن حبّان، وجامع الترمذي، وسنن أبي داود، والنسائي، وابن ماجة، ومستدرک الحاکم، والدارقطني، والبيهقي، وغيرهم. [4] .
إنّ عملية «نقد الحديث» ليست سهلة ومتاحة لکلّ من يراجع کتب الرجال ويقلّبها فقط، وإنّما هي بحاجة إلي مَلَکة الاجتهاد في الفنّ، وانتخاب منهجٍ رجالي ثابت، واستيعاب قواعد النقد المتينة.
وإذا کان الناقد من أهل الاجتهاد في علم الرجال، وصحّ له أن يُبديَ رأيه في «نقد الحديث» فلا يجوز له أن يعود إلي حضيض التقليد في التزام حديث أو ردّه.
علي أنّ دعواه أنّ البخاريّ ومسلماً «لم يُثبتا حديثاً يُبشّر بالمهديّ».
دعوي باطلة.
فإنّ البخاري ومسلماً أوردا أحاديث ترتبط بخروج المهديّ:
قال الشيخ عبد المحسن العبّاد في الفصل الخامس من مقاله: ذکر بعض ما
[ صفحه 9]
ورد في الصحيحين [البخاري ومسلم]من الأحاديث التي لها تعلّق بشأن المهديّ:
فروي البخاري، في باب نزول عيسي، عن أبي هريرة: کيف أنتم إذا نزل ابن مريم فيکم، وإمامکم منکم. [5] .
وعن مسلم، في کتاب الإيمان، عن أبي هريرة، مثله. [6] .
وعن مسلم، عن جابر، لا تزال طائفة من أُمّتي يقاتلون علي الحقّ ظاهرين. [7] .
وقال العبّاد: وقد جاءت الأحاديث في السنن والمسانيد وغيرها مفسِّرةً لهذه الأحاديث، ودالّة علي أنّ ذلک الرجل الصالح يقال له: «المهديّ».
والسُنّة يفسّر بعضها بعضاً.
وروي مسلم عن جابر وأبي سعيد: يکون في آخر الزمان خليفة يحثو المال حثياً لا يعدّه عدّاً. [8] .
وبهذا يُعلم مدي بُعد مثل ذلک القائل عن المصادر الأصيلة التي اهتمّ بأمرها، والتي اعتمد عمل مؤلّفيها حجّة، إلي حدّ الاستدلال بمجرّد عدم ذکرهم لروايةٍ دليلاً علي ضعفها، بل وضعها!!
فقد وقع في أشدّ ممّا نعاه علي الآخرين من دعوي خلوّ الکتابين من الخطأ، حيث إنّه اعتمد علي حجّيّة ما لم يفعلاه! ونفي صحّة حديث بمجرّد دعوي أنّهما لم يورداه!
[ صفحه 10]
وتبيّن عدم اطّلاعه علي نفس هذين المصدرين الأساسيّين، وهو يُظهر أنّه مطّلع عليهما، بدعواه عدم إثباتهما شيئاً ممّا يرتبط بالمهديّ، مع أنّهما أثبتاه وأورداه!
إنّ کلّ هذا، قد حصل علي أثر التأرجُح بين الاجتهاد والتقليد في أمر «نقد الحديث».
[ صفحه 11]
پاورقي
[1] تراثنا وموازين النقد (ص179).
[2] تراثنا وموازين النقد (ص185).
[3] اُنظر: علوم الحديث، لابن الصلاح، ص19 فإنّه قال: لم يستوعبا [أي: البخاري ومسلم]الصحيح في صحيحيهما، ولا التزما ذلک.
طبعة دار الفکر، تحقيق نور الدين عتر، ط. الثالثة 1404 ه.
وانظر المستدرک علي الصحيحين للحاکم النيسابوري 1 / 2 فقد قال: لم يحکما [أي: البخاري ومسلم] ولا واحد منهما: أنّه لم يصحّ من الحديث غير ما أخرجاه.
طبعة دار الفکر، بيروت 1398 ه.
[4] الشيخ عبد المحسن العبّاد، المدرّس بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنوّرة، کتب في مجلّة الجامعة، مقالين حول أحاديث المهديّ، وسيأتي ذکر کلامه فيهما.
اُنظر: الرقم 5، في العدد 45 من المجلّة، والرقم 38 في العدد 46.
[5] صحيح البخاري 358:6.
[6] صحيح مسلم - بشرح النووي - 193:2، ورواه أحمد في المسند 336:1.
[7] صحيح مسلم 193:2، وأورده أحمد في المسند 384:3.
[8] صحيح مسلم برقمي 2913 و 2914 في کتاب الفتن، باب لا تقوم الساعة...
وانظر مسند أحمد 38:3 و313 و 317.
ونقل الحديث عن مسلم في التاج الجامع للأُصول 342:5.
وانظر مقال «نظرة في أحاديث المهديّ» في مجلّة التمدّن الإسلامي، الصادرة في دمشق.