الاثارات المشبوهة
فأوّل ما أثاروه: اختلاف الفرق الشيعيّة في أمر المهديّ:
بدعوي أنّ الفرق الشيعيّة قد تعدّدت بعد الإمام الحادي عشر الحسن العسکري عليه السلام في شأن الإمام من بعده، فکيف يکون هو الإمام؟
والجواب: لو جعل الاختلاف دليلاً علي البطلان، فهل اتّفق المسلمون علي أصل الإمامة والخلافة، حتي تثبت لأحد، مع أنّ إجماع الأُمّة قائمٌ علي ضرورتها وثبوتها، وإن اختلفوا في أشخاص الخلفاء، وکيفية استحقاقهم لها.
ولو اعتبر الاختلاف دليلاً علي الانکار والإبطال، لما سلم دينٌ علي وجه الأرض، ولاسلم أصل عقيدي، أو فرع شرعيّ، - غير المتّفق عليه - لوجود المخالفين في کلّ ذلک.
ثمّ، أليس الرسول صلي الله عليه وآله وسلم قد أخبر بنفسه عن افتراق الأُمّة إلي ثلاث وسبعين فرقة، ومع هذا فقد أثبت الحقّ في واحدة منها.
فالاستدلال بوجود الفرق المختلفة في أمر المهدي ليس فيه أدني دلالة علي
[ صفحه 75]
بطلانه، وليس مجوزاً لأحد في إنکاره ونفيه، بعد قيام أصحّ الأدلّة وأقواها، علي وجوده.
فکيف يدلّ وجود فرق شيعيّة سابقة تقول بمهدوية الأئمة السابقين علي بطلان «المهديّ المنتظر»؟
مع أنّ الفرق المزعومة تلک هي بائدة اليوم ولا وجود معروف لشي ء منها، إلّا ما يثيره بعض المغرضين، من متتبعة خوان کتب الفرق لاقتناص سقاطها.
وانحصار المذهب القائل بولادة المهدي وغيبته بالاستمرار في الساحة، دون سائر الفرق المزعومة أو الموهومة، حيث انقرضت وبادت وليس لها وجود وذکر، لهو دليل بُطلانها، وکون هذا المذهب هو الحقّ.
ثمّ إثارة أمر الولادة، والتشکيک فيها:
بالتساؤل عنها: متي؟ وکيف؟ ومن رآها؟ ومن حضرها؟
وکأنّ هذه الولادة بالخصوص - من بين الولادات کلّها - لا بُدّ أن تکون علنيّة وتعرض لجميع البشر، حتي يُصَدّق بها أهل القرن العشرين من بعد ألف ومائتي سنة! وإلّا فإنّ حضراتهم لا يعترفون بها!
هکذا يتظاهر أعداء أهل البيت اليوم، ويتعاملون مع القضية، مع أنّ أمر أيّة ولادة لا تحتاج إلّا إلي معرفة أهل المولود وذويه والقابلة، وأهل الخاصة به.
وهل لأحدِ هؤلاء البدويين من أهل القفار والبراري، إثبات علي ولاداتهم، فضلاً عن صحّتها، وکونها شرعية؟
ومن الغريب: أن أحداً من هؤلاء المشکّکين في ولادة المهدي بن الحسن العسکري عليهما السلام لا يعترف لأبيه، ولا لآبائه، بالإمامة ولا بالکرامة!
ومع هذا يريدون أن تثبت لهم - بالعيان - ولادة ابنه المهديّ؟!
لا، ولا کرامة.
فإنّ أهل البيت أدري بما في البيت، ولا حاجة لهم في أمر ولاداتهم إلي
[ صفحه 76]
أحکام أعدائهم، وعلي فرض الحاجة إلي شهود فلا يشهد مثل ذلک إلّا من کان مؤمناً تقيّاً، وإن کان بعيداً في النسب، ولا يشهده من کان فاسقاً أو عدوّاً ناصبيّاً، حتي لو کان قريب النسب کعمّه جعفر الکذّاب!
خصوصاً إنّ أمر الإمام المهدي له من الأهميّة، باعتبار تصريحات الرسول صلي الله عليه وآله وسلم في حقّه، وتصريحات آبائه الأئمة فيه، وانعقاد آمال الأُمّة عليه - ما لا يسمح للإعلان عنه، أکثر من اللّازم!
وکيف ينکر ولادته البعيد عنه سَبَباً وحسباً، واعتقاداً وديناً، مع أنّه قد أثبتها کلّ من أهمّه أمره، وتخصّص في فنّه من الخبراء:
فها هم أهل الدار من أبيه وعمّته القابلة، ونساء الدار.
وها هم شيعة أبيه الخلّص، بالعشرات.
وها هم النسّابون المهتمّون بالأنساب أثبتوا اسمه في مشجراتهم ومسطراتهم، کأبي نصر البخاري، وابن عِنَبة صاحب العمدة، وصاحب المجدي وروضة الألباب للصنعاني، وابن زهرة في زهرة المقول، والسويدي في سبائک الذهب.
ومن المؤرّخين: ابن خلکان في وفيات الأعيان، والذهبي في عبره وسير أعلام النبلاء له، وقد ترجم للمهدي، واعترف باستحقاق آبائه للإمامة وأولويتهم علي خلفاء عصورهم، وبفضلهم.
ومن المحدّثين الکنجي الشافعي، وابن الصباغ المالکي، وسبط ابن الجوزي الحنبلي وابن حجر الهيثمي في صواعقه المحرقة.
وخلق کثير، من المتقدّمين والمتأخّرين، اعترفوا - بملئ أفواههم - بولادة المهدي محمّد من أبيه العسکري عليه السلام.
فمن أين للزعانف الأذناب للمستشرقين اليهود والنصاري، من السلفية، التشکيک في مثل هذا الأمر المقطوع به.
[ صفحه 77]
ومن مهازل تشبثاتهم التمسّک بمحاولات الحکومة، وعدم ثبوت ولادة المهدي لديها؟
مع أنّه: لم يحتو نصّ علي عدم ثبوت الولادة لدي الحاکمين، بل المذکور عدم عثور الدولة علي «المولود»؟
وکم فرق بين الأمرين، لو کانوا يعقلون؟
ومع أنّ هؤلاء النواصب يعرفون أنّ الإمام الحسن العسکري عليه السلام إنّما سُحبَ من المدينة إلي سامراء، ليحبس ويکون تحت الرقابة العسکرية، فهل يتوقّعون أن يخرج لهم «المهدي» المولود الصغير، لکي يذبحوه أمام عينيه؟! کما ذبحوا رضيع الحسين الشهيد عليه السلام في کربلاء.
وثمّ بعد کلّ هذا، فإذا صحّ التشکيک في ولادة أحد لمجرّد عدم رؤيته لبعض الناس، فإنّ ذلک يؤدّي إلي التشکيک في صحّة کلّ ولادة وفي انتساب کلّ ولد إلي أبيه، خصوصاً إذا تمّت الولادة في القفار والبراري، حيث أهل الغارة والسطو والاعتداء الأثيم!! فمن يؤمن أعراب البادية من التشکيک في ولاداتهم؟
مع أنّ من أبسط قواعد القضاء الشرعي، تقديم المثبت علي النافي في مثل هذه القضيّة، خصوصاً إذا کان النافي لا يمتّ إلي أهل الولد لا بنسب ولا حسب ولا شرف ولا دين ولا معتقد ولا مکان، ولا عصر، ولا... ولا....
فکيف لو کان مغرضاً، حاقداً، سلفيّاً ناصبيّاً يريد النکال والکيد بأهل البيت وشيعتهم، فکيف يقبل قول مثله في حقّ أُولئک الأشراف الأطهار؟!
وما قدر قيمة تشکيکات هؤلاء البعداء عن العلم والدين، في جنب دعوي أکبر علماء النسب وهو صاحب کتاب «المجدي في النسب» «بتواتر ولادة المهدي من الحسن العسکري عليه السلام» هذا الذي يفنّد مزاعم الزور والبهتان المنکرة.
مع أنّ التواتر متحقّق عند کلّ متتبّع للشهادات بولادة المهدي عليه السلام، والتي هي - رغم الظروف الصعبة - أکثر بکثير ممّا نحتاجه في العادة، حيث لا يمکن اتّهام
[ صفحه 78]
جميع أُولئک الشهود بالتواطؤ علي الکذب.
وإن احتمل الکذب والتواطؤ عليه في مثل هذا الخبر، فلا يبقي خبر علي وجه الأرض يصحّ الاعتماد عليه، والقول بتواتره، حتي أوضح الواضحات، لدخول احتمال السلفيةالکذب فيه، وحتي أوضح مدّعياتهم، ومنقولاتهم؟
وهل يلتزم عاقل بهذا الذي يؤدّي إلي فساد کلّ شي ء؟
أهکذا يريد أعداء المهدي، وأعداء الشيعة، أنْ يشکّکوا في کلّ ما يدّعي المسلمون التواتر عليه، من الحقائق المثبتة في التاريخ والسيرة.
وإذا شکّک السلفية في ذلک بهذه السهولة، فمن يصدّق بأنّهم لا شک في ولاداتهم؟
ولو سهل تشکيک السلفية في الواضحات، فلم لا يجوز للأشراف وکلّ المسلمين أن يشکّکوا فيما تدّعيه السلفية من الإسلام والعروبة والدين؟ وهي أُمور لا تعرف بمجرّد الدعوي؟!
إنّ سقوط السلفية إلي هذه الوهاد الدنيئة في المعاملة مع العقائد والأفکار عند الأُمم، لمن أسخف ما يلتزمون به عقيدة، ويعتبرونه أمراً بالمعروف، وجهاداً، ودعوة إسلاميّة.
وأمّا إثارة مسألة طول العمر:
فإنّ الشيعة يعتقدون بأنّ اللَّه تعالي علي کلّ شي ء قدير، وليس من المستحيلات الخارجية طول عمر الإنسان، بدليل ثبوت أمثال ذلک في التاريخ البشري عياناً، قديماً وفي العصور القريبة، فقد وُجِدَ وشوهد من الناس ذوي الأعمار الطويلة بالمئات، ممّا يدلّ علي إمکان البقاء عمراً أطول ممّا هو المتعارف، والممکن غير المستحيل مقدور.
بل ثبت علميّاً أنّ الإنسان الطبيعي - إذا لم تعترض طريق حياته الموانع التي تحدّدها وتقصرها - فهو قابل لطول العمر.
[ صفحه 79]
والعقيدة بقدرة اللَّه تعالي علي أمثال ذلک، هي مشترکة بين جميع المسلمين، وليست خاصّة بفرقةٍ، بل الاستغراب منها مناف لعقيدة الإسلام ونصّ القرآن علي «انّ اللَّه علي کلّ شي ء قدير».
وقد ثبت طول عمر أعداد من الأنبياء - وهم بشر طبيعيّون - وغير الأنبياء من المعمّرين، الذين تأخّرت آجالهم التي هي بيد اللَّه تعالي.
فمن الغريب أن يستهجن أحدٌ يدّعي الإسلام هذه القدرة، ويستهزئ بها.
وإذا قامت الأدلّة عند أحد علي أنّ المهديّ قد ولد سنة (255) ولم يثبت بأيّ وجهٍ أنّه مات في يوم من الأيّام، ووردت عشرات الأحاديث بأنّه سيطول عمره، ويبقي رغم السنين.
فهل الاعتقاد بذلک فيه مخالفة للقرآن أو السنّة، أو لحکم العقل، مادام طول العمر ممکناً وواقعاً؟
وإذا کان في الاعتقاد بالمهديّ مع طول عمره تطبيقاً لروايات الإمامة، وبياناً لها، وإبعاداً لها عن التعطيل، ونجاةً من أن يموت الانسان بغير إمام، ولا ميتة جاهلية.
أليس مثل هذا الاعتقاد مدعاة للاستحسان؟ بل القبول من أصحاب العقول؟
لکن السلفية جعلوا من ذلک مدعاة للتهکّم والاستهجان والسبّ والقذف للشيعة المؤمنين باللَّه وقدرته وبالرسول وما جاء به من أخبار المهديّ المنتظر.
ثمّ لو أعرضنا عن کلّ شي ء: فماذا يضرّ المنکرين لو کانت هناک فرقة تعتقد بوجود المهديّ طويل العمر، وتعتقد بإمامته؟ فهل في ذلک مخالفة لکتاب أو سنّة أو أمرٌ قام عليه إجماع أو مقتضي العقل؟
إلّا أنّ السلفية تخاف أن يکون للشيعة إمامٌ فتنجو من ما يترتّب علي عدم إمام يعتقدون به هم، ممّا يؤدّي أن تکون ميتة السلفية ميتة الجاهلية، ضلال وکفر.
فلو سُئلَتْ السلفية: مَن إمامُهم؟ فما هو الجواب عندهم؟
[ صفحه 80]
ولکنّهم بدلاً من أن يُحاسبوا أنفسهم، ويُحاولوا الإجابة عن ما يوجّه إليهم من الأسئلة؟ بدأوا بإثارة التساؤلات المتتالية، علي معتقدات الشيعة.
ومن الإثارات: ما فائدة وجود الإمام الغائب؟
وهذا ما وجّهه المتسائلون منذ القديم، وتصدّي الشيعة للإجابة عنه مرّات عديدة وبأشکال مختلفة، نذکر منها:
أوّلاً: إنّ من ثبتت إمامته، بالطرق المقرّرة وبالأدلّة المثبتة لذلک - فلا مجال للاعتراض علي تصرّفاته وأفعاله وليس الجهل بوجهِ تصرّفاته سبباً للإنکار عليه، فضلاً عن إنکار إمامته.
وإن کانَ کلّ عمل يقوم به الإمام فلا بدّ أن يوافق التدبير والحکمة، لما دلّ علي لزوم اتّصافه بالکمال والعصمة لکن، مع ثبوت الإمامة بالأدلة القاطعة لا يشک المؤمن بمجرّد عدم وضوح أمر له فيها.
وأمّا من لم تثبت عنده إمامة الإمام، فلا يفيده السؤال عن الغيبة ووجهها وطولها وقصرها، فإنّ السالبة عنده بانتفاء الموضوع.
وبعبارة أُخري: فإنّ مثل هذه الأسئلة مبتنية علي الاعتقاد بأصل الإمامة ومن شؤونها.
وأمّا غير المعتقد فلا يبحث معه إلّا في أصل إمامة الإمام.
وتدخّل من لم يعتقد بالإمامة، في هذه الشؤون واستهزاؤه بها، ومطالبته بوجهها، إنّما هو مثل تدخّل الکفّار ومن لم يعتقد بالإسلام في وجه قيام المسلمين بالعبادات الخاصّة من الصلاة والصيام والحجّ، واستهزاؤهم بها، حيث لا يعتقدون بها، ولا بمن جاء بها، فليس عندهم معني معقول لها، ولا تصوّر مقبول عنها، فهل يحقّ لهم مثل ذلک؟ وهل يُمکن إقناعهم ما لم يُفسّر لهم أصل عقيدة الايمان باللَّه وبالاسلام والتعبّد بوظائفه وواجباته.
وثانياً: إنّ السنوات التي عاشها الأئمة الأحد عشر، قبل عصر المهدي،
[ صفحه 81]
وطولها (250) سنة، کَفَتْ للدلالة علي مدي قابليّة الأُمّة للاستفادة من حضور هؤلاء الذين نصبهم اللَّه تعالي خلفاء عن الرسول صلي الله عليه وآله وسلم وکيف استفادوا منهم؟ ومقدار ما أدّوه من الواجبات تجاههم.
فقد وجدنا بالعيان: انّهم لم يکتفوا بالإعراض عنهم، وترکهم وإهمالهم، بل إنّما عمدوا إلي نصب العداء لهم، وإبادتهم بالقتل الذريع، والتبعيد والمطاردة، والسجن في المطامير المظلمة.
ألا تکفي مدّة (250) سنة من حضور الأئمة عليهم السلام بين الأُمّة، للدلالة علي أنّ الأُمّة سوف لن تستقبل آخر الأئمة (المهديّ) بأحسن ممّا استقبلوا السابقين، بينما هو معدّ للخلاص، وقد أصبح أمره واضحاً عند الأُمّة، من خلال الأخبار المتواترة عن الرسول صلي الله عليه وآله وسلم والأئمة الأطهار من آبائه، بأنّ علي يده تتحقّق إبادة الظالمين والانتقام لمظلومي التاريخ کلّه.
فهل يأمَنُ أن يظهر للأُمّة وحکّامها التي لا تأبي قتله کما قتلت من قبله من الصغار والکبار؟! وأن لا يصيبه ما أصابهم، إن لم يتصدّ الظالمون للأشدّ من ذلک عليه؟
وفي تنقيب الدولة وحکّامها عن ولادته ومحاولة القضاء عليه وهو في المهد، الدلالة الواضحة علي مثل هذا التربّص والتصدّي؟ وطلبهم الحثيث له بعد وفاة أبيه علي الفور، دليل واضح علي مثل هذا الأمر؟
وحتي بحثهم عن الحمل؟ واستبراء الإماء؟ وأمثال هذه الأعمال التي لم يسبق لها مثيل في تاريخ الأئمة الأحد عشر من آبائه.
فهل مثل هذا الإمام تکون الفائدة في حضوره وظهوره، أو الحکمة تقتضي غيبته، وعمله في الخفاء؟!
وثالثاً: إنّ مَنْ ينعي علي الشيعة أنّهم في ظلّ غيبة الإمام قد فقدوا مَنْ يرشدهم إلي أحکام الدين، وأبطلوا العمل بجملة من أحکام الدين کالحدود،
[ صفحه 82]
واستحدثوا عقائد وأحکاماً من رأيهم - وهذا الذي اعتبره بعضهم إثارة مستقلّة مهمّة في نظره -.
فنقول: إنّ من ينعي علي الشيعة، ويسائلهم عن عملهم في حال غيبة الإمام، هل فکّر في أنّ الشيعة - مهما کان شأن عملهم واعتقادهم - فإنّهم يعتقدون بإمام - ولو غائب - ولم يبقوا بلا إمام وبغير إمام!
أمّا الآخرون، الذين لا يعتقدون بإمام لا حاضر ولا غائب، ويفتقدون مَنْ يعتقدون بإمامته، فقد بقوا بغير إمام، فهؤلاء: هل عملوا بکلّ الأحکام الشرعية وطبّقوها في مجتمعاتهم؟ أو أنّ قوانين البلدان الإسلامية کلّها مأخوذة من القوانين الوضعية المدنيّة الانکليزية والفرنسية!
وإذا کان الشيعة - المعتقدون بالإمام الغائب - يلتزمون حسب قناعاتهم بما دلّ عليه الکتاب والسنّة والعقل من العقائد، فهل إنّ الآخرين - ممّن لم يعتقد بإمام غائب ولا حاضر، في العالم الإسلامي - وقد التزموا بالقوميّة والبعثيّة، والاشتراکيّة، والوهابيّة، والعلمانيّة، هم ملتزمون بعقائد أذن اللَّه فيها وأحبّها؟
وإذا کان المسلمون الشيعة، لا يقيمون الجمعة في بعض البلاد، لعدم اجتماع الشرائط المعتبرة فقهياً عندهم، فهل المسلمون - جميعاً - يقيمون الجمعة في شرق الأرض وغربها بلا استثناء؟
إنّ تصوير الشيعة - علي أثر اعتقادهم بالغيبة - أُمّةً عطّلت أحکام الدين والإسلام، وحسبان أنّ السنّة في العالم يقيمون أعمدة الدين والإسلام لأنّهم لا يعتقدون بأيّ إمام لا غائب ولا حاضر، لمن أسخف ما يکذبه الوجدان، والعيان.
أهکذا يريد أنْ يوحي أعداء الشيعة بسخافة الاعتقاد بالإمام؟
إنّ الجواب متروک للقارئ الکريم، حتي يزن الأُمور بموازين المنطق السليم، والوجدان الحرّ؟
ورابعاً: إنّ مهمّة الإمام، التي تعدّ أساسيّة في الإسلام، ليست خاصّةً بشعب
[ صفحه 83]
أو أرضٍ أو زمن أو حدود، وإنّما المهدي - کما تصرّح النصوص - يستهدف الأرض کلّها ليملأها عدلاً کما ملئت ظلماً وجوراً، فليست قضيّة المهديّ قضيّة خاصّة بالشيعة، ولا بالمسلمين، بل بکلّ شعوب الأرض.
ومثل هذه المهمّة العظيمة ادّخر اللَّه لها خاتم الأئمة المهديّ، فهي لا تتأدّي بوجود فريق صغير يعتقدون به، حتي لو شُکّلت دولة هنا أو هناک، وإنْ کان لوجود الدولة الموالية للمهديّ أثرها الواضح في إبلاغ صوته والتمهيد له، ونشر اسمه وأهدافه، والدعوة إليه، وتعريف العالم به، کما يفعل الشيعة في العالم اليوم، وغيرهم من علماء المسلمين والمؤمنين بسنّة الرسول صلي الله عليه وآله وسلم الذي بشّر بالمهديّ، ووعد به، وأعلن عن اسمه ووصفه، وکلّ الذين خلّدوا حديث المهدي في الکتب، وجمعوا أحاديث المهدي في المؤلّفات، حتي تستمرّ جذوته في قلوب المسلمين بالرسالة المحمديّة، إلي حين ظهوره وخروجه وأداء دوره العظيم في تحقيق الحقّ وإبطال الباطل.
والمهديّ وخروجه، هو من أشراط الساعة التي نبّأ بها الرسول صلي الله عليه وآله وسلم وهي لا تتوقّف علي إيمان قوم، أو کفر آخرين، ولا باستعجال قوم، أو استنکار آخرين، وإنّما علمها عند اللَّه، ولا يجلّيها لوقتها إلّا هو، ويحقّقها حيث يريد ويشاء.
فليس في کلّ الإثارات، وکلّ ما يعمله أعداء المهدي من نقد لحديثه وتضعيف لرواياته، واستنکار لأوصافه، واتّهام لشيعته ومنتظريه، أدني تأثير في قلب الحقائق، فالمهديّ حقّ لا ينکر في وجدان المسلمين، وفکرهم.
وظهوره ودولته، أمر لا بُدّ منه، يعتقده مَنْ يؤمن باللَّه ورسوله، ويلتزم بمدلول حديثه وسنّته.
فمهما استهزأ به الکفّار الأجانب، من اليهود والنصاري، وأذنابهم من السلفية والوهابية، والعلمانية الملحدة، وکلّ الحاقدين علي الإسلام المحمديّ، ممّن يريدون ليطفئوا نور أمل المهديّ في أعين المسلمين، ويقتلوا کلّ أمل ورجاء في
[ صفحه 84]
قلوب الذين آمنوا بهذا الوعد الإلهيّ، والذين يرجون هذا اليوم الموعود، من خلال الالتزام بضرورات فرضتها النصوص الواردة عن الرسول صلي الله عليه وآله وسلم والأئمةالأطهار من آله.
فإنّ ذلک لا يؤثّر في التزام الشيعة بهذه العقيدة، واللَّهُ تعالي يکفيها أمر المستهزئين!
لقيام الأدلّة القاطعة باليقين بلزوم وجود إمام لکلّ زمان وکلّ عصر، وعدم خلوّه عن حجّة للَّه علي خلقه، يتمّ تعيينه بواسطة الرسول صلي الله عليه وآله وسلم، وهو مفروض الطاعة علي الأُمّة، فلا بُدّ أنْ يکون أميناً، معصوماً، حتي يجوز الانقياد التامّ له، وإطاعته هي إطاعة الرسول وهي من إطاعة اللَّه تعالي.
ووجدت الأدلّة الصحيحة قائمة علي إمامة الأئمة الاثني عشر من أهل بيت الرسول، وآخرهم المهديّ، بالروايات المشهورة عن الرسول صلي الله عليه وآله وسلم وتصريح أهل البيت أنفسهم.
ووجدت في الاعتقاد بالإمام المهديّ نجاة من موت الجاهلية، لمن مات بغير إمام، يعرفه في زمانه وعصره، کما توعّدت به النصوص الموثوقة الصحيحة.
ووجدت في الاعتقاد بالإمام - ولو کان غائباً - الأمل الذي يحدوهم إلي الطاعة والخير، ويمنعهم من القبيح والمعصية، وذلک هو «اللّطف» الذي تبتني عليه حکمة الإمامة کالرسالة.
ولقد أصبحت الشيعة من أجل هذا الاعتقاد، تعمل جاهدة في سبيل تحکيم الإسلام، والتمهيد لظهور الإمام، وتنتظر أيّام دولته الکريمة بفارغ الصبر، وبکامل السعي والجدّ، وترفض من أجل الأمل الحيّ في قلوبها کلّ أشکال الظلم والسيطرة من دول الفساد.
وليس في شي ء من هذه الملتزمات نقص وشين، بل کلّ ذلک طاعة للَّه وقرب منه وسعي في سبيله وجهاد لتحکيم حکمه وإعلاء کلمته،
[ صفحه 85]
حتي يتحقّق وعد اللَّه الذي ذکره في قوله تعالي «ونريد أن نمنّ علي الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمّة ونجعلهم الوارثين».
في دولةٍ کريمة يعزّ اللَّه بها الإسلام وأهله ويذلّ النفاق وأهله، لنکون فيها من الدعاة إلي طاعته والقادة إلي سبيله، ويرزقنا بها کرامة الدنيا والآخرة، ممّن «دعواهم فيها سبحانک اللّهمّ وتحيّتهم فيها سلام ، وآخر دعواهم أن الحمد للَّه ربّ العالمين».
[ صفحه 86]