بازگشت

و أمّا لماذا تلتزم الشيعة بغيبة الإمام المهدي المنتظر


فلو زاول الباحث روح الانصاف في نفسه وحکّم عقله ووجدانه، وأراد أن يتعرّف علي حقائق عقيدة الشيعة في المهدي المنتظر وغيبته، من خلال أوثق المصادر والقناعات والأدلّة التي يعتمدها المسلمون عامّة والشيعة خاصّة، فلا بدّ أنْ يقرأهم ويسمع منهم وينظر إلي القضايا بعين غير السخط والکراهية، وبنَفَس وروح غير حبّ الفرقة والبغض، لا بالنفس الحاقدة، وروح الاتّهام، کما يفعله السلفيّة المغرضون، في مواقفهم تجاه المسلمين - الذين لا يوافقونهم - حيث يتّهمونهم بالشرک والکفر وو... کلّ ذلک بدعوي «الاصلاح» والتوحيد، وبعنوان: الدعوة الإسلامية، والإرشاد والهداية.

مع أنّ اللَّه تعالي يقول: «أُدع إلي سبيل ربّک بالحکمة والموعظة الحسنة».

فهم لا يسمحون لأحدٍ أن يتکلّم بحجّته ودليله وقوله، بدعوي انّه جدال، مع أنّ اللَّه أمر بالجدال فقال: «جادلهم بالتي هي أحسن».



[ صفحه 68]



ولکنّهم يعلمون أنّ أبسط الناس من عامة المسلمين يغلبهم لو جادلهم، ويقوي عليهم بالحجّة القاطعة لو ناقشهم.

ولقد رأيت موقفاً عظيماً في روضة الرسول صلي الله عليه وآله وسلم عند المقصورة الشريفة دلّ علي قوّة ما عليه أهل الإسلام من المعرفة بالحديث والاحتجاج به، علي السلفية الوهابية.

حيث أنّ بدوياً جِلْفاً کان متّکئاً بظهره علي شبّاک القبر النبوي الشريف، يمنع المسلمين من التقرّب إليه، مع شوقهم إلي النظر إلي داخل المقصورة، يمدّون القلوب مع الأعناق، والأرواح مع الأبصار، ليستشرفوا إلي داخل الشبّاک، ويتشرّفوا بنظرةٍ إلي قبر الحبيب المُصطفي صلي الله عليه وآله وسلم، وکلّهم طموح وآمال وأشواق، وقد طووا الأميال البعيدة، بکلّ الجهود المبذولة، لينالوا هذا الشرف العظيم، وليکملوا العدّة، بعد التوفيق للحجّ الکريم، بزيارة المرقد الشريف!

لکن البدويّ الأرعن کان يمنعهم، وينادي: «کفر، شرک» ويکرّرها، بلسانه البذيّ، ووجهه المشنوء، المحروق کأنّه حطب جهنّم!

وفي هذه الأجواء المليئة، بهيبة المقام، وحرارة الأشواق وانحباس الأنفاس في صدور الناس، والبدويّ يرطن بسبابه للمسلمين، مخالفاً بذلک قول الرسول صلي الله عليه وآله وسلم: «سباب المسلم فسوق».

فإذا برجل طويل القامة، بهيّ الطلعة، جميل الهندام، وهو واقف في وسط الحجّاج والزائرين، زمجر بأعلي صوته بعبارة فصيحة وعربيّة طليقة - فيها لهجة ترکيّة جميلة - فنادي: «الأعمال بالنيّات وإنّما لکلّ امرئٍ ما نوي».

وکانَ هذا الکلام کأنّه صاعقة صبّت علي ذلک البدويّ، فألقم حجراً، وانکفأ وتحجّم صِغَراً، وذلَّ وانزوي صَعَراً.

فيا سبحان اللَّه! وبارک اللَّه في المسلمين حبّ العلم، وحبّ الرسول صلي الله عليه وآله وسلم وسنّته.



[ صفحه 69]



فإتماماً للحجّة علي المدّعين للکتابة الذين يُحاولون أن يقلبوا الحقائق، وهم يظهرون الأکاذيب بصورة أنّها هي «العقائد الشيعية» ويتّخذونها أُصولاً ثابتة يبنون عليها نتائج کتاباتهم المزيّفة.

وکذلک تعريفاً لعقائد الشيعة، للذين يحبّون الاطلاع عليها ومعرفتها نقول:

إنّ المسلمين الشيعة ملتزمون بأصل الإمامة کأمر واجب دينيّ، قام علي وجوبه دليل العقل، وقد استوفوا الأدلّة عليه في کتب الإمامة، التي تبلغ عندهم العشرات.

وقد أثبتوا: انّ من أهمّ الواجبات الإلهيّة هي نصب الإمام وتعيينه من قبل الرسول صلي الله عليه وآله وسلم وبوحي من اللَّه تعالي، وأنّ هذا الواجب لطف من اللَّه تعالي علي العباد ليمکّنهم من أداء الطاعات، ويبعّدهم من ارتکاب القبائح والمعاصي، بإرشاد الإمام وهو خليفة للنبيّ صلي الله عليه وآله وسلم الذي کان إرساله أيضاً لطفاً من اللَّه تعالي علي الأُمّة، وواجباً لا يمکن خلوّ الدنيا منه.

وقد قام الرسول صلي الله عليه وآله وسلم بإبلاغ هذه المهمّة العظيمة وأدائها وأکّدت النصوص الشريفة هذا المهمّ العظيم، في مواقف عديدة وتاريخية مهمّة، منذ أيام البعثة الأُولي، وحتي أيام الهجرة والوداع الأخير عند الوفاة.

ولو جمعنا نصوص السنّة الشريفة المسندة إلي النبي صلي الله عليه وآله وسلم والثابتة بالتواتر والاجماع والشهرة المعلومة، لتألف من مجموعها «برهان قاطع» علي المطلوب.

فالأحاديث النبويّة الصحيحة المتّفق عليها بين علماء المسلمين کافّة، والمجمع عليها منهم، وردت بنصوص عديدة ودلّت علي لزوم «إمام» يعرفه المسلم حتي يموت علي الفطرة، وإن لم يعرفه، ولم يعتقد به إماماً، فميتته جاهلية.

منها قول الرسول صلي الله عليه وآله وسلم: «من مات ولم يعرف إمام زمانه فمات ميتة جاهلية».

رواه مسلم في صحيحه (107:8) ونقل عن الجمع بين الصحيحين



[ صفحه 70]



للحميدي وانظر شرح النووي لمسلم (240:13) والقاضي عبد الجبار في المغني (116:1:20) وشرح المقاصد (275:2) والجواهر المضيئة للملّا علي القاري الحنفي (509:2).

ومنها قول الرسول صلي الله عليه وآله وسلم: «من مات بغير إمام مات ميتة جاهلية».

رواه أبو داود الطيالسي في مسنده (نقله في کنز العمال) وأحمد في مسنده (96:4) والدارقطني في علله (63:7) وحلية الأولياء لأبي نعيم (224:3) وابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة (155:9) ومجمع الزوائد لنور الدين الهيثمي (218:5) وعن الطبراني في کنز العمال (103:1) رقم 464.

ومنها قول الرسول صلي الله عليه وآله وسلم: «من مات وليس له إمام مات ميتة جاهلية».

رواه ابن حبان في صحيحه کما في الاحسان (رقم 44) لاحظ (49:7) وبلفظ «ليس عليه إمام» في زوائد البزار (144:1) و (143:2) وکشف الأستار (252:2) ح1635 ومستدرک الحاکم (77:1 و117) ومجمع الزوائد للهيثمي (223:5) والمعجم الکبير للطبراني (350:10).

ومنها قول الرسول صلي الله عليه وآله وسلم: «من مات وليست عليه طاعة - أو لا طاعة عليه - مات ميتة جاهلية».

رواه علي بن الجعد الجوهري في مسنده (850:2) رقم 2375، ومصنّف ابن أبي شيبة (38:15) رقم 19047، ومسند أحمد (446:2) والأموال لابن زنجويه (82:1) والمعجم الکبير للطبراني (388:19) والکامل لابن عدي (1869:5) ومجمع الزوائد للهيثمي (223:5) والمطالب العالية لابن حجر الحافظ (228:2) رقم 2088 وکنز العمال (65:6) رقم 14861 عن ابن أبي شيبة، وابن حنبل، والطبراني، وسعيد بن منصور.

وبألفاظ ونصوص أُخري، قريبة من هذا المدلول.

فلا بُدَّ لأُمّة محمّد صلي الله عليه وآله وسلم من حين وفاته إلي يوم القيامة من وجود إمام في کلّ



[ صفحه 71]



عصر وزمان، يعتنقون إمامته، ويطيعونه وينقادون لحکمه وأمره ونهيه، وإلّا، فقد صرّح النبي بأنّهم لا يموتون علي ملّة الإسلام، فهذه النصوص تدلّ علي لزوم الاعتقاد بوجود إمام لکلّ عصر.

وهناک روايات حدّدت الأئمّة من بعد النبيّ صلي الله عليه وآله وسلم من بعد وفاته إلي يوم القيامة ب «إثني عشر» خليفة.

ففي حديث جابر بن سمرة، قال: سمعت النبي صلي الله عليه وآله وسلم يقول: «يکون اثنا عشر أميراً» فقال کلمة لم أسمعها، فقال أبي: انّه قال: «کلّهم من قريش».

رواه البخاري في الصحيح (168:4) طبع عام 1351 - کتاب الأحکام، باب الاستخلاف.

ورواه مسلم في صحيحه (ح6 ص3 من المجلد 3) طبع 1334 و (119:2) دار الفکر 1398 کتاب الإمارة، باب الناس تبع لقريش، والخلافة في قريش عن جابر بن سمرة، قال: دخلت مع أبي علي النبي صلي الله عليه وآله وسلم فسمعته يقول: «إنّ هذا الأمر لا ينقضي حتي يمضي فيهم اثنا عشر خليفة» قال: ثمّ تکلّم بکلامٍ خفي عليَّ، فقلت لأبي: ما قال؟ قال: «کلّهم من قريش»، وشرح النووي (201:12).

ومن ألفاظه التي رواها مسلم، قال: سمعت رسول اللَّه صلي الله عليه وآله وسلم يقول: «لا يزال الدين قائماً حتي تقوم الساعة أو يکون عليهم اثنا عشر خليفة کلّهم من قريش».

ورواه الترمذي في الجامع الصحيح (45:2) طبع دهلي 1342 باب ما جاء من الخلفاء، بلفظ البخاري.

ثمّ قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.

ورواه أبو داود السجستاني في صحيح سنن المصطفي (207:2) طبع 1348 والحاکم النيسابوري في المستدرک علي الصحيحين (618:3) بألفاظ قريبة.

وروي عن ابن مسعود بلفظ: «يکون لهذه الأُمّة اثنا عشر قيّماً لا يضرّهم من خذلهم کلّهم من قريش».



[ صفحه 72]



أخرجه الطبراني في الکبير کما في منتخب کنز العمال بهامش مسند أحمد (312:5) و (9:5 و93 و97 و100 و106 و107).

فهذه النصوص، تتّفق علي معني واحد، وهي أنّ الخلفاء من بعد النبي صلي الله عليه وآله وسلم ومنذ وفاته وحتي يوم القيامة، لا يتجاوزون في أُمّته الاثني عشر إماماً، وأنّهم لابدّ أن يکونوا من قريش.

إضافة إلي نصوص متواترة حصرت الخلافة عنه في أشخاص من عترته أهل بيته.

حيث قال في حديث الثقلين - المتواتر بين جميع المسلمين بلا نقاش سنداً، ومتنه قول النبي صلي الله عليه وآله وسلم: «إنّي مخلف فيکم الثقلين کتاب اللَّه، وعترتي أهل بيتي».

فمن مجموع هذه الأحاديث التزم الشيعة.

بأنّ الأئمة اثنا عشر، وبأنّ في کلّ عصر لا بُدّ من إمام خليفة لرسول اللَّه صلي الله عليه وآله وسلم، ولا يخلو الزمان من إمام قائم للَّه بحجّة.

وأنّ الأئمة الاثني عشر، لا يکونون من غير عترة الرسول وأهل بيته.

کلّ ذلک تطبيقاً للنصوص المذکورة، وابتعاداً عن الحکم بإجمالها، وعن تعطيلها عن التطبيق، والاکتفاء بالقول بأنّا لا نعرف لها معني؟

إذ يؤدّي ذلک:

أوّلاً: إلي اتّهام الرسول صلي الله عليه وآله وسلم بالتأکيد علي أُمور لا معني لها، ولم تستفد منها الأُمّة بحال.

وقبح هذا لا يخفي علي أيّ منصف فضلاً عن کلّ مسلم.

وثانياً: يؤدّي إلي تعطيل الأمر الوارد علي أساس تلک النصوص والتهديد الذي تضمّنته، والحثّ الذي ورد فيها.

وثالثاً: يؤدّي إلي إهمال أمر الإمامة العظيم والخطير، بالإعراض عن



[ صفحه 73]



النصوص، وعدم محاولة فهمها وحلّها بکلّ سهولة ودقّة.

إنّ الشيعة تربأ بالرسول وکلامه العظيم من أن يواجه بشي ء من الإجمال والتعطيل والإعراض، بل تحاول تطبيقه علي الحقّ الواقع، الذي أرشد إليه الرسول نفسه بأساليب عديدة قوليّة وفعليّة، بتعيين عليٍّ عليه السلام من أهل البيت إماماً، وجعله قريناً للقرآن، فقال: «عليّ مع القرآن والقرآن مع عليّ» ففسّر بذلک معني العترة في حديث الثقلين اللذين خلّفهما في أُمّته من بعده، لا يفترقان حتي قيام يوم الدين.

ثمّ عليٌّ أوصي من بعده إلي ابنه الحسن، ثمّ أوصي الحسن إلي أخيه الحسين، ثمّ أوصي کلّ من الأئمّة إلي ولده حتي بلغ الأمر إلي المهديّ محمّد بن الحسن العسکريّ عليهم السلام.

ولقد تمّ عدد الاثني عشر، بالمهديّ، وبعد أن ثبتت بالأدلّة اليقينيّة ولادته، ولم يثبت لأحد موته، فلا بُدّ من الالتزام بغيبته، لأنّها أمر منتظر حسب إعلان النبي والأئمة من آبائه وتصريحهم علي ذلک.

ولأنّ الالتزام بذلک هو الحلّ الوحيد للجمع بين تلک النصوص النبويّة الشريفة وتفسيرها وإبعادها عن الغموض والاجمال ومن التعطيل والإبطال.

مع أنّ أمر غيبته کان متوقّعاً، لإخبار آبائه بذلک.

فالتزمت الإمامية بإمامة الأئمة الاثني عشر، استناداً إلي تلک النصوص النبويّة الشريفة، والتزمت بالإمام المهديّ الغائب، حتي لا تبقي بغير إمام، أو ليس لها إمام، أو لا تعرف إمام زمانها، حتي لا تموت ميتةَ جاهلية.

أبَعد هذا، يحقّ لأحدٍ أن ينسب اعتقاد الإماميّة إلي يهود أو نصاري أو مجوس؟

إلّا أن يريد اتّهام النبيّ وکلامه بمثل ذلک، نعوذ باللَّه من ذلک، ونبرأ إلي اللَّه من فاعله!

ولو أنصف المنتقدون للشيعة من أجل هذا الالتزام، لما وجدوا في هذا



[ صفحه 74]



الالتزام مخالفة لأحد الأُصول الإسلامية، ولا وجدوا فيه منافاة لفرعٍ من فروع الشريعة، حتي تُهاجم بشکل مقرفٍ وسيّئ!

لکنّ الذين ملأوا أيّام التاريخ بدماء الأئمة وأصحابهم في عهد الظهور والحضور، ولاحقوا آثارهم بالإفناء والإحراق، وحبسوهم في المطامير، وکبسوا دورهم، وراقبوهم لأجل إطفاء نورهم، لمّا لم يجدوا في عصر الغيبة مَنْ يستمرّون في إيذائه وقتله وملاحقته، بدأوا إثارة الشبهات في وجه الاعتقاد بالإمام المهديّ، وغيبته، وطول عمره، وما إلي ذلک.

فملأوا صفحات الکتب بالاستنکار المجرّد عن کلّ دليل، والاستهزاء بالمؤمنين، والاستهجان لفکرة المهدي، وتقبيح الاعتقاد بالغيبة، وإمامة الغائب!