في حکاية جملة من فتاوي العلماء في من أنکر المهدي المنتظر
ونقتصر في هذا الباب علي ما وقفنا عليه علي العُجالة، فعسي الله أن يردع بذلک من صَبا إلي القول بإنکاره من أهل الجهالة والضلالة، ويکون بلاغاً ناهياً للزائغين، إنّه الهادي إلي سبيله.
فنقول:
اعلم ـ رحمک الله ـ أنّه لا ريب في أنّ أحاديث خروج المهديّ عليه الصلاة والسلام متواترة، بإجماع من يعتدّ به من أهل العلم وأئمّة الحديث، فإنکار هذا الاَمر المتواتر جرأة عظيمة في مقابل النصوص المستفيضة المشهورة البالغة إلي حـدّ التـواتر، کـما قـال القنوجي فـي الاِذاعة [1] .
وقد سُئل شيخ الاِسلام شهاب الدين أحمد بن حجر المکّيّ الشافعيّ عمّن أنکر المهدي الموعود به؛ فأجاب: أنّ ذلک إنْ کان لاِنکار السُنّة رأساً فهو کفر يُقضي علي قائله بسبب کفره وردّته فيقتل.
وإن لم يکن لاِنکار السُنّة وإنّما هو محض عناد لاَئمّة الاِسلام فهو
[ صفحه 23]
يقتضي التعزير البليغ والاِهانة بما يراه الحاکم لائقاً بعظيم هذه الجريمة، وقبح هذه الطريقة، وفساد هذه العقيدة، من حبس وضرب وصَفْعٍ وغيرها من الزواجر عن هذه القبائح، ويرجعه إلي الحقّ راغماً علي أنفه، ويردّه إلي اعتقاد ما ورد به الشرع ردعاً عن کفره. انتهي.
وقد ذکر المتّقي الهنديّ في أواخر کتابه البرهان [2] هذه الفتوي بعين ألفاظها، وأوردها المفتي ابن حجر مختصرةً في الفتاوي الحديثية [3] له.
وکذلک أفتي الشيخ العلاّمة يحيي بن محمّـد الحنبليّ بکفر من أنکر المهديّ عليه السلام فقال: وأمّا من کذّب بالمهديّ الموعود به فقد أخبر عليه الصلاة والسلام بکفره [4] .
وقد وقفت علي فتويً لشيخ الاِسـلام محمّـد بهاء الدين العاملي رحمه الله تعالي في هذه المسألة، قال ـ في جواب من سأله عن خروج المهديّ بقول مطلق، هل هو من ضروريّات الدين فمنکره مرتدّ، أم ليس من ضروريّاته، لِما يُحکي من خلاف بعض المخالفين فيه، وأنّ الذي يخرج إنّما هو عيسي عليه السلام، وهل يکون خلافهم مانعاً من ضروريّته؟ ـ:
الاَظـهر أنّه مـن ضـروريّات الـدين، لاَنّه مـمّا انـعقد علـيه إجـماع المسلمين، ولـم يخـالف فيـه إلاّ شـرذمة شـاذّة لا يـعبأ بهم، لا يعتمد عليهم ولا بخـلافهم، ولا يقدح خروج أمثال هـؤلاء من ربـقة الاِجماع في حجّيّته، فلا مجال للتوقّف في کفرهم إن لم تکن لهم شبهة محتملة. إنتهي.
[ صفحه 24]
قلت:
إکفار المنکِر عند الفريقين يدور علي أحد أمرين:
أوّلهما: ما أشار إليه شيخ الاِسلام ابن حجر في الفتاوي الحديثيّة وهو ما أخرجه أبو بکر الاِسکاف في فوائد الاَخبار عن محمّـد بن المنکدر، عن جابر بن عبـد الله الاَنصاري رضي الله عنه، عنه، قال: قال رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم: من کذّب بالدجّال فقد کفر، ومن کذّب بالمهديّ فقد کفر [5] .
قال ابن حجر في القول المختصر ـ کما في البرهان ـ: أي حقيقةً، کما هو المتبادر من اللفظ، لکن إن کان تکذيبه من السُنّة، أو لاستهتاره بها، أو للرغبة عنها، فقد قال أئمّتنا وغيرهم: لو قيل لاِنسانٍ قصَّ أظفارک فإنّه من السُنّة، فقال: لا أفعله وإن کان سُنّة رغبةً عنها فقد کفر، فکذا يقال بمثله [6] .
قلت:
حديث جابر أخرجه أبو القاسم السهيلي في شرح السيرة له.
وأبو بکر ابن أبي خيثمة في جمعه للاَحاديث الواردة في المهديّ.
والحافظ السيوطيّ الشافعيّ في العَرف الوردي [7] .
[ صفحه 25]
وشيخ الاِسلام إبراهيم بن محمّد الجوينيّ الشافعيّ في فرائد السمطين [8] .
والحافظ القندوزيّ الحنفيّ في ينابيع المودّة [9] .
واعتمده بعض أهل العلم کابن حجر الشافعيّ، ويحيي بن محمّـد الحنبليّ وأفتيا بمدلوله، کما مرّ آنفاً.
وکذا الشيخ العلاّمة محمّد بن أحمد السفارينيّ الحنبليّ في لوائح الاَنوار البهيّة [10] فإنّه قال: قد روي الاِمام الحافظ ابن الاِسکافي بسندٍ مرضيّ إلي جابر بن عبـد الله رضي الله عنه إلي آخره، وأورده البرزنجيّ الشافعيّ في الاِشاعة [11] .
فظهر بذلک ما في دعوي بعضهم من الحکم بوضع الحديث ورمي ابن الاِسکافي به، والله المستعان.
وثانيهما: إجماع أهل الاِسلام قاطبة، واتّفاقهم علي مرّ الاَعصار والاَعوام علي خروج المهديّ المنتظر عليه الصلاة والسلام، حتّي عُدّ ذلک من ضروريّات الدين ـ کما صرّح به شيخ الاِسلام البهائي؛ ـ وهو اتّفاق قطعيّ مـنهم، لا يشـوبه شـکّ ولا يـعتريه ريـب، اللّهمّ إلاّ مـن شـذّ، ممّن لا يُعتدّ بخلافه، ولايلتفت إليه، ولا تکون مخالفته قادحة في حجّيّة
[ صفحه 26]
الاِجماع، ولا قائمة لنا بالمعذرة عن العمل به، مضافاً إلي تواتر أحاديث المهديّ عليه الصلاة والسلام تواتراً قطعيّاً.
وظاهر أنّ من أنکر المتواتر من أُمور الشرع والغيب بعد ما ـ ثبت عنده ثبوتاً يقينيّاً ـ فإنّه کافر، لردّه ما قطع بصـدوره وتحقّق ثبوته عـنه صلي الله عليه وآله وسلم، ولا شبهة في کفر من ارتکب ذلک بإجماع المسلمين، لاَنّ الرادّ عليه صلي الله عليه وآله وسلم کالرادّ علي الله تعالي، والرادّ علي الله کافر باتّفاق أهل الملّة، وإجماع أهل القبلة.
ودعوي التواتر صحيحة ثابتة کما صرّح بذلک جمهور أهل العلم من الفريقين، ولا نعلم رادّاً لها إلاّ بعض مَن امتطي مطيّة الجهل، واتّخذ إلهه هواه، وکابر الحقّ، فکان حقيقاً بالاِعراض عنه.
ونحن نقتصر في هذا المختصر علي نقل کلام جماعة من محقّقي العلماء في تحقّق التواتر لتتبيّن لک جليّة الحال.
قال الشيخ أبو الحسين الآبري في کتاب مناقب الشافعيّ: قد تواترت الاَخبار واستفاضت بکثرة رواتها عن رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم بذکر المهديّ، وأنّه من أهل بيته، وأنّه يملک سبع سنين، وأنّه يملاَ الاَرض عدلاً، وأنّ عيسي يخرج فيساعده علي قتل الدجّال، وأنّه يؤمّ هذه الاَُمّة ويصلّي عيسي بن مريم خلفه. [12] انتهي.
وفي بعض فتاوي شيخ الاِسلام ابن حجر المکّي، أنّ الاَحاديث في ذلک مستفيضة متواترة.
[ صفحه 27]
وقال في الصواعق: الاَحاديث التي جاء فيها ذکر ظهور المهديّ کثيرة متواترة.
وقال الشيخ العلاّمة محمّـد بن أحمد السفاريني الحنبليّ في اللوائح [13] : الصواب الذي عليه أهل الحقّ أن المهديّ غير عيسي، وأنّه يخرج قبل نزول عيسي عليه السلام.
قال: وقد کثرت بخروجه الروايات حتّي بلغت حدّ التواتر المعنويّ، فلا معني لاِنکارها [14] .
ومثله في شرح الشرقاوي علي ورد البکري کما في مشارق الاَنوار للحمزاوي [15] .
وقال قاضي القضاة أبو عبـد الله محمّـد بن علي الشوکانيّ في کتابه التوضيح في تواتر ما جاء في المهديّ المنتظر والدجّال والمسيح: الاَحاديث الواردة في المهديّ التي أمکن الوقوف عليها منها خمسون حديثاً فيها الصحيح والحسن والضعيف والمنجبر.
قال: وهي متواترة بلا شکّ ولا شبهة، بل يصدق وصف التواتر علي ما هو دونها علي جميع الاصطلاحات المحرّرة في الاَُصول.
قال: وأمّا الآثار عن الصحابة المصرّحة بالمهديّ فهي کثيرة أيضاً، لها
[ صفحه 28]
حکم الرفع، إذ لا مجال للاجتهاد في مثل ذلک [16] .
وقال السويديّ البغداديّ في کتابه سبائک الذهب: الذي اتّفق عليه العلماء أنّ المهديّ هو القائم في آخر الوقت، وأنّه يملاَ الاَرض عدلاً، والاَحاديث في ظهوره کثيرة [17] .
وقال الشيخ أبو عبـد الله جعفر بن محمّـد الاِدريسي الحسني الکتّاني في کتابه نظم المتناثر من الحديث المتواتر [18] : قد نقل غير واحد عن الحافظ السخاوي أنّها متواترة ـ يعني أحاديث المهديّ عليه السلام ـ، والسخاوي ذکر ذلک في فتح المغيث.
قال: وفي تأليفٍ لاَبي العلاء إدريس بن محمّـد بن إدريس الحسنيّ العراقيّ في المهديّ هذا، أنّ أحاديثه متواترة أو کادت، وجزم بالاَوّل غير واحدٍ من الحفّاظ النقّاد.
وبالجملة: فإنکار المهديّ وإنکار خروجه أمر عظيم لا ينبغي التفوّه به، بل ربّما أفضي بصاحبه إلي الکفر والخـروج عن الملّة والعياذ بالله تعالي.
وقال الشيخ عبـد العزيز بن عبـد الله بن باز، شيخ علماء نجد والحجاز في هذا العصر، ومعتمدهم في علوم الشرع المطهّر: أمّا من أنکر ذلک ـ يعني نزول عيسي وخروج الدجّال والمهديّ ـ وزعم أنّ نزول المسيح بن مريم ووجود المهديّ إشارة إلي ظهور الخير، وأنّ وجود
[ صفحه 29]
الدجّال ويأجوج ومأجوج وما أشبه ذلک إشارة إلي ظهور الشرّ، فهذه أقوال فاسدة، بل باطلة في الحقيقة، لا ينبغي أن تذکر، فأهلها قد حادوا عن الصواب، وقالوا أمراً منکراً وأمراً خطيراً لا وجه له في الشرع، ولا وجه له في الاَثر ولا في النظر.
قال: والواجب تلقّي ما قاله الرسول صلي الله عليه وآله وسلم بالقبول، والاِيمان التامّ به والتسليم، فمتي صحّ الخبر عن رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم فلا يجوز لاَحدٍ أن يعارضه برأيه واجتهاده، بل يجب التسليم کما قال الله عزّوجلّ: (فلا وربّک لا يؤمنون حتّي يحکّموک فيما شجر بينهم ثمّ لا يجدوا في أنفسهم حَرَجَاً ممّا قضيت ويسلّموا تسليماً) [19] وقد أخبر صلي الله عليه وآله وسلم بهذا الاَمـر عن الدجّال، وعن المهـديّ، وعـن عيسـي بن مريم، ووجـب تلقّي ما قاله بالقبول والاِيمان بذلک، والحذر من تحکيم الرأي والتقليد الاَعمي الذي يضرّ صاحبه ولا ينفعه لا في الدنيا ولا في الآخرة [20] .
ولا يسع المقام لاستقصاء کلام الاَئمّة والعلماء في تواتر أحاديث المهديّ المنتظر عليه الصلاة والسلام، والتحـذير مـن إنکـار شأنه، لکن في ما حکينا لک مقنع وکفاية إن شاء الله تعالي، والله الهادي إلي سواء السبيل.
پاورقي
[1] راجع: الاِذاعة لما کان وما يکون ـ المطبوع ضمن موسوعة الاِمام المهدي عليه السلام عند أهل السُنّة 2: 104 ـ: 146.
[2] البرهان: 178 ـ 179.
[3] الفتاوي الحديثية: 37.
[4] البرهان: 182.
[5] الفتاوي الحديثيّة ـ المطبوع ضمن موسوعة الاِمام المهدي عليه السلام عند أهل السُنّة 1: 432 ـ: 37، الاِشاعة في إشراط الساعة ـ المطبوع ضمن موسوعة الاِمـام المهدي عليه السلام عند أهل السُنّة 1: 505 ـ 112.
[6] البرهان: 170 ـ 171.
[7] العرف الوردي في أخبار المهدي ـ المطبوع ضمن موسوعة الاِمام المهدي عليه السلام عند أهل السُنّة 1: 392 ـ 487.
[8] فرائد السمطين 2: 334 ح 585.
[9] ينابيع المودّة 3: 295 ح 1 وص 383 ح 1، وفيه «أنکر» بدل «کذّب»، الحاوي للفتاوي، المطبوع ضمن موسوعة الاِمام المهدي عليه السلام عند أهل السُنّة 1: 392.
[10] انظر: لوائح الاَنوار البهيّة وسواطع الاَسرار الالهية المطبوع ضمن موسوعة الاِمام المهدي عليه السلام عند أهل السُنّة 2: 21.
[11] الاِشاعة في إشراط الساعة ـ المطبوع ضمن موسوعة الاِمام المهدي عليه السلام عند أهل السُنّة 1: 505 ـ 112.
[12] انظر: العطر الوردي ـ المطبوع ضمن موسوعة الاِمام المهدي عليه السلام عند أهل السُنّة 2: 118 ـ 45.
[13] انظر: لوائح الاَنوار البهيّة وسواطع الاَسرار الاِلهيّة، المطبوع ضمن موسوعة الاِمام المهدي عليه السلام عند أهل السُنّة 2 :20.
[14] انظر: لوائح الاَنوار البهيّة وسواطع الاَسرار الاِلهيّة، المطبوع ضمن موسوعة الاِمام المهدي عليه السلام عند أهل السُنّة 2 :20.
[15] انظر: مشارق الاَنوار ـ المطبوع ضمن موسوعة الاِمام المهدي عيله السلام عند أهل السُنّة 2 :62 ـ 115.
[16] راجع: الاِذاعة لما کان وما يکون بين يدي الساعة ـ المطبوع ضمن موسوعة الاِمام المهدي عليه السلام عند أهل السُنّة 2 :71 ـ 72 ـ: 113 ـ 114.
[17] سبائک الذهب: 78.
[18] انظر: نظـم المتناثر مـن الحـديث المتواتر ـ المطبوع ضمن موسوعة الاِمام المهدي عليه السلام عند أهل السُنّة 2 :194 ـ 144 ـ 145.
[19] سورة النساء 4: 65.
[20] مجلّة الجامعة الإسلامية ـ المطبوعة ضمن موسوعة الإمام المهدي عليه السلام عند أهل السُنة 2: 435 ـ، العدد الثالث من السنة الأولي، ذو العقدة 1388هـ.