في الکلام علي أصل الحديث و بيان درجته
إعلم ـ هدانا الله وإيّاک إلي صراطه المستقيم ومنهجه القويمِ ـ أنّ الجهابذة النقّاد من أئمّة الحديث لم يعتمدوا علي هذا الحديث المنحول إلي الرسول صلي الله عليه وآله وسلم ولم يقيموا له وزناً، بل أجمعوا علي ضعفه، وأطبقوا علي ترکه ـ وإنْ تأوّله بعضهم بما لا ينجع ـ فذِکره مُغنٍ عن بيان رتبته وحاله، لکن لا بأس بإيراد طرفٍ من کلامهم فيه.
قال أبو بکر بن زياد: هذا الحديث غريب.
وقال القرطبي في التذکرة وکذا الطيبي ـ کما في المرقاة ـ: الاَحاديث عن النبيّ صلي الله عليه وآله وسلم في التنصيص علي خروج المهديّ من عترته من وُلْد فاطمة، ثابتةٌ أصحّ من هذا الحديث، فالحکم لها دونه. [1] انتهي.
وقال العلاّمة الحافظ شمس الدين الذهبي بترجمة محمّـد بن خالد الجَنَديّ من ميزان الاعتدال: في حديثه «لا مهديّ إلاّ عيسي بن مريم» وهو خـبر منکـر أخرجـه ابـن ماجـة، ووقع لنا موافقةً من حديث يونس بن عبـد الاَعلي ـ وهو ثقة ـ تفرّد به عن الشافعي، فقال في روايتنا: «عن» هکذا بلفظ «عن الشافعي» [2] .
وقال في جزءٍ عتيق بمرّة عندي من حديث يونس بن عبد الاَعلي
[ صفحه 13]
قال: «حُدِّثْتُ عن الشافعي» فهو علي هذا منقطع.
علي أنّ جماعة رووه عن يونس، قال: «حدّثنا الشافعيّ» والصحيح أنّه لم يسمعه منه.
قال: وأبان بن صالح صدوق وما علمت به بأساً، لکن قيل: إنّه لم يسمع من الحسن، ذکره ابن الصلاح في أماليه.
وذکر الشيخ تقيّ الدين ابن تيّميّة في منهاج السُنّة: أنّ هذا الحديث ضعيف [3] .
قال: وقد اعتمد أبو محمّـد ابن الوليد البغدادي وغيره عليه، وليس ممّا يُعتَمد عليه، ورواه ابن ماجة، عن يونس، عن الشافعي، والشافعي رواه عن رجلٍ من أهل اليمن يقال له محمّـد بن خالد الجَنَديّ، وهو ممّن لا يُحتجّ به، وليس في مسند الشافعي، وقد قيل: إنّ الشافعي لم يسمعه من الجَنَديّ، وإنّ يونس لم يسمعه من الشافعي. انتهي.
وقال ابن قيّم الجوزيّة في کتابه المنار المنيف في الصحيح والضعيف: قد اختلف الناس في المهديّ علي أربعة أقوال:
أحدها: أنّه المسيح بن مريم، وهو المهديّ علي الحقيقة، واحتجّ أصحاب هذا بحديث محمّـد بن خالد الجَنَدي المتقدّم، وقد بيّنّا حاله وأنّه لا يصحّ [4] .
وقال الاِمام الصغاني: موضوع، کما في الفوائد المجموعة
[ صفحه 14]
للشوکانيّ [5] .
وقال القاري في مرقاة المفاتيح: إعلم أنّ حديث «لا مهديّ إلاّ عيسي ابن مريم» ضعيف باتّفاق المحدِّثين کما صرَّح به الجزريّ [6] .
هذا، وجزم الاِمام المحدِّث العلاّمة أبو الفيض شهاب الدين أحمد بن الصدّيق الحسنيّ الغُماريّ المغربيّ في کتابه القيّم الموسوم بـ: إبراز الوهم المکنون بأنّ الحديث باطل موضوع، مختلَق مصنوع، لا أصل له من کلام النبيّ صلي الله عليه وآله وسلم، ولا من کلام أنس، ولا من کلام الحسن البصري [7] .
ثمّ خاض في تبيين ذلک وإيضاحه من ثمانية وجوهٍ، استوفي فيها الکلام علي هذا الحديث بأطرافه، بما لم يتکلّم فيه أحد بمثله، ولا تجده في کـتاب کـما صرّح هو بذلک، وحقٌّ ما قال وقد مرّ بيان بعضها، فلنذکر ما بقي منها، وهو وجهان:
الاَوّل: أنّ ممّا يدلّ علي بطلان هذا الخبر معارضته للمتواتر المفيد للقطع، فقد قرّر علماء الاَُصول أنّ من شرط قبول الخبر عدم مخالفته للنصّ القطعيّ علي وجهٍ لا يمکن الجمع بينهما بحالٍ.
وقد ذکروا للجمع بين هذا الخبر وبين أحاديث المهديّ أوجهاً ذکر بعضَها الطاعنُ ]يعني ابن خلدون[ وبعضَها غيرهُ کالقرطبيّ في التذکرة [8] .
[ صفحه 15]
والآبيّ في شرح مسلم، وابن حجر الهيتميّ في الصواعق المحرقة [9] وصاحب ينابيع المودّة وغيرهم، وکلّها بعيدة لا حاجة تلجئ إليها مع بطلان الخبر، إذ لا تعارض بين متواتر وباطل. [10] انتهي.
قلت:
وقد عقدنا الفصل الثالث لذِکر تلک الوجوه والجواب عنها تحذيراً للقاصر من الاغترار بها والرکون إليها، کما سيأتي قريباً إن شاء الله تعالي.
الثاني: أنّ ممّا يوجب القطع ببطلانه أيضاً کون ذکر المهديّ وخبره لم يرد إلاّ من جهة الشارع، فکيف يخبر بأمر أنّه سيقع ـ وهو الصادق الذي لا ينطق عن الهوي ـ ثمّ ينفيه؟!
والاَخبار لا يتصوّر وقوعها علي خلاف ما أخبر به الصادق، ونفي المهديّ يلزم منه وقوع الخبر علي خلاف ما أخبر به أوّلاً من وجوده، واللازم باطل، وهذا ممّا قرّروا به أنّ النسخ لا يدخل الاَخبار التي هي من هذا القبيل، وهذا متّفق عليه بين علماء الاَُصول.
قال الزرکشي: إنْ کان مدلول الخبر ممّا لا يمکن تغيّره، بأن لا يقع إلاّ علي وجه واحد کصفات الله تعالي وخبر ما کان من الاَنبياء والاَُمم وما يکون من الساعة وآياتها کخـروج الدجّـال، فلا يـجوز نسـخه بالاتّفاق کما قاله أبو إسحاق المروزي وابن برهان في الاَوسط؛ لاَنّه يفضي إلي الکذب.
[ صفحه 16]
قال ابن الصدّيق: والعجب ممّن أورد هذا الحديث من العلماء وأجاب عنه بأنواعٍ من طرق الجمع بين مختلف الآثار، کيف خفي عليه بطلانه من جهة ما قرّرناه إن خفي عليه ذلک من جهة الاِسناد وما فيه من العلل الظاهرة والخفيّة؟! فإنّ العقل قاطع ببطلانه کما عرفت ممّا قرّرناه لک [11] .
وإذا أمعن المنصف في کلام هذا الاِمام البحر العلم، لَعَلِم أنّه نطق بالحقّ وآثر الصدق، کيف لا؟! وهو الخبير الخرّيت في هذا العلم الشريف (ولا يُنَبِّئُکَ مِثلُ خَبير) [12] .
وقد حذا شيخ الاَزهر الشيخ محمّـد الخضر حسين المغـربي حذو هذا الاِمام فقال [13] : هذا حديث موضوع؛ ثمّ أورد کلام الحاکم وابن عبد البرّ والاَزدي في الجَنَدي المذکور وقال: آخُذُ في مثل هذا بقول ابن حزم: إذا کان في سند الحديث رجل مجروح بکذب أو غفلة أو مجهول الحال لا يحلّ عندنا القول به، ولا تصديقه، ولا الاَخذ بشيءٍ منه.
[ صفحه 17]
پاورقي
[1] التذکرة في أحوال الموتي وأُمور الآخرة 2: 617، مرقاة المفاتيح ـ المطبوع ضمن موسوعة الاِمام المهدي عليه السلام عند أهل السُنّة 1: 475 ـ 5: 186.
[2] ميزان الاعتدال 3: 535.
[3] منهاج السُنّة 4: 211.
[4] المـنار المـنيف في الصـحيح والضـعيف ـ المطـبوع ضمن موسـوعة الاِمام المهدي 7 عند أهل السُنّة 1: 289 ـ 148.
[5] الفوائد المجموعة: 510 ـ 511.
[6] مرقاة المفاتيح ـ المطبوع ضمن موسوعة الاِمام المهدي عليه السلام عند أهل السُنّة 1: 457 ـ 5: 186.
[7] إبراز الوهم المکنون من کلام ابن خلدون ـ المطبوع ضمن موسـوعة الاِمـام المهدي 7 عند أهل السُنّة 2: 376 ـ 584.
[8] التذکرة: 617.
[9] الصواعق المحرقة: 251.
[10] إبراز الوهم المکنون من کلام ابن خلدون ـ المطـبوع ضمن موسـوعة الاِمام المهدي عليه السلام عند أهل السُنّة 2: 380 ـ 558.
[11] انظر: إبراز الوهم المکنون من کلام ابن خلدون ـ المطبوع ضمن موسوعة الاِمام المهديّ عليه السلام عند أهل السُنّة 2: 380 ـ 381 ـ: 588 ـ 589.
[12] سورة فاطر 35: 14.
[13] في مقال تحت عنوان «نظرة في أحاديث المهدي»، مجلّة الهداية الاِسلاميّة (المحرّم سنة 1369) ومجلّة التمدّن الاَسلامي ـ المطبوعة ضمن موسوعة الاِمام المهدي عليه السلام عند أهل السُنّة 2: 213 ـ: الجزء 35 ـ 36 من المجلّد 16.