خلقنا للبقاء
ولو تدبَّرنا النفس وحالاتها وتجرُّدها لعرفنا أنَّه تعالي لم يخلقها لأن تعيش سنوات ثمَّ تهلک بالمرَّة لأنَّ ذلک خلاف الحکمة الإلهيَّة وخلاف عدالته ومن هنا نشاهد الکثير من الأحاديث تؤکِّد علي ذلک:
(عن الحميري عن هارون عن ابن زياد قال قال رجل لجعفر بن محمد عليه السلام يا أبا عبد الله انا خلقنا للعجب قال: وما ذاک؟ اللّه أنت! قال:خلقنا للفناء. فقال: مَه يا بن أخ خلقنا للبقاء وکيف تفني جنةٌ لا تبيد ونار لا تخمد ولکن قل إنما نتحول من دار إلي دار) [1] .
أقول: الباقي ليس هو إلاّ وجه الله سبحانه لصريح قوله تعالي:
(کل من عليها فان ويبقي وجه ربک ذو الجلال والإکرام) [2] .
فکيف يمکن أن يبقي الإنسان وتبقي الجنَّة والنار؟ وليس ذلک إلاّ لأنَّ الآخرة إنَّما هو وجه الربِّ سواء کان ذلک جلال الرب وغضبه أو جماله ورحمته وإکرامه ومن هنا ذکرت الصفتان(ذو الجلال والإکرام) فالنار والجنَّة منطلقهما هو الصفتان أعني الجلال والإکرام، فجلاله تعالي ظهر في النار کما أنَّ إکرامه ظهر في الجنَّة حيث أنَّها ليست هي إلاّ دار کرامته تعالي وجميع نعمها أيضاً تنطلق من تلک الصفة العظيمة، لا کنعم الدنيا فليست النعم تلک إلاّ ظهوراً لرحمانيته تعالي ومن هنا نلاحظ البونٌ البعيد بين فواکه الدنيا وفواکه الآخرة حيث قال تعالي:
(أولئک لهم رزق معلوم فواکه وهم مکرمون في جنات النعيم علي سرر متقابلين) [3] .
فالرزق المعلوم المختصّ للمخلصين من العباد ليس هو الفاکهة بما هي فاکهة حيث لا قيمة لها مادام قد سخَّرها الله ومنحها للخلق أجمعين في الدنيا الدنيَّة فتأکلها الحيوانات بل حتَّي الکفّار والمشرکين،بل الأهميَّة لتلک الصفة الإلهيَّة أعني الإکرام التِّي صبغت تلک الفاکهة صبغةً روحانيَّة فهي ليست متاع کما هو المشاهد في فواکه الدنيا.
ثمَّ إنَّ الآية التالية أيضاً تدلُّ علي ما نحن بصدد إثباته
(ولا تدع مع الله إلها آخر لا إله إلا هو کل شيء هالک إلاّ وجهه له الحکم وإليه ترجعون) [4] .
وهاهنا يجب التأمُّل في قوله وإليه تُرجعون لنعلم معني بقاء الإنسان وعدم فنائه بالمرَّة لأنَّه سوف يرجع إليه تعالي:
(إنَّ إلي ربک الرجعي) [5] .
ولو لم نقل برجوع الإنسان إلي ربِّه لما أمکننا أن نتصوَّر بقائه في الجنَّة أو النار خالداً وقد شرحنا هذا الأمر فلا نکرر.
ثمَّ إنَّه من المفروض أن يبقي الإنسان خالداً في جوار رحمة الله لا غضبه ولأجل ذلک خُلق الإنسان وقد صرَّحت الآية التالية بذلک:
(إلا من رحم ربک ولذلک خلقهم وتمت کلمة ربک لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين) [6] .
والرحمة لها مراتب عديدة من أعلي مراتبها رضوان الله تعالي کما في الحديث التالي:
(علل الشرايع الطالقاني عن عبد العزيز بن يحيي الجلودي عن محمد بن زکريا الجوهري عن جعفر بن محمد بن عمارة عن أبيه قال سألت الصادق جعفر بن محمد عليه السلام فقلت له لم خلق الله الخلق فقال إن الله تبارک وتعالي لم يخلق خلقه عبثا ولم يترکهم سدي بل خلقهم لإظهار قدرته وليکلفهم طاعته فيستوجبوا بذلک رضوانه وما خلقهم ليجلب منهم منفعة ولا ليدفع بهم مضرة بل خلقهم لينفعهم ويوصلهم إلي نعيم الأبد) [7] (يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم) [8] (وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساکن طيبة في جنات عدن ورضوان من الله أکبر ذلک هو الفوز العظيم) [9] .
فالرضوان الإلهي أکبر بنحو مطلق وليست هناک منزلة أعلي وأرقي منه وذلک هو الفوز العظيم.
پاورقي
[1] بحار الأنوار ج 5 ص 313 رواية 3 باب 15.
[2] الرحمن 26-27.
[3] الصافات 41-44.
[4] القصص 89.
[5] العلق 8.
[6] هود 119.
[7] بحار الأنوار ج 5 ص 313 رواية 2 باب 15.
[8] التوبة 21.
[9] التوبة 72.