عوامل الغيبة الصغري
فيما أخاله أن أهم عامل في غيبة الإمام المنتظر (عليه السلام)، وفي اختفائه منذ الولادة، هو موقف الحکام العباسيين الموقف المعادي منه،.. ويتلخص بالآتي:
اعتقاد وإيمان الشيعة - آنذاک - بأن الإمام المنتظر الذي بشرت جميع الأديان الإلهية بفکرته الإصلاحية [1] ، وبشرت بدولته العالمية، والقاضية علي کل حکم قائم آن انبثاقها، هو الإمام محمد بن الحسن العسکري (عليه السلام).
وشيوع الروايات الواردة عن النبي (صلي الله عليه وآله) في تجسيد فکرة المصلح المنتظر بالإمام محمد بن الحسن (عليه السلام)، وتطبيق شخصية المصلح المنتظر عليه، بين علماء المسلمين في حينه: عقيديين وفقهاء ومحدثين، بما تضمنته من دلائل وإشارات، وبما احتوته من تصريحات باسمه وأوصافه الخاصة المميزة.
وربما کان أهمها: الروايات الحاصرة للأئمة في اثني عشر خليفة کلهم من قريش، والتي تدور علي ألسنة المحدثين والمؤرخين آنذاک.
کالتي رواها البخاري - المعاصر للإمام الحسن العسکري -:
عن (جابر بن سمرة، قال: سمعت النبي (صلي الله عليه وآله) يقول: يکون اثنا عشر أميراً.. فقال کلمة لم أسمعها، فقال أبي: إنه قال: کلهم من قريش) [2] .
وفي رواية الإمام أحمد بن حنبل: (أن جابر قال: سمعت رسول الله (صلي الله عليه وآله(يقول: يکون لهذه الأمة اثنا عشر خليفة) [3] .
وکالتي رواها مسلم (عن جابر عن النبي (صلي الله عليه وآله (أنه قال: لا يزال الدين قائماً، حتي تقوم الساعة، ويکون عليهم اثنا عشر خليفة کلهم من قريش) [4] .
وکالتي رواها الحمويني الشافعي في فرائد السمطين عن (ابن عباس، قال: قال رسول الله (صلي الله عليه وآله): أنا سيد النبيين، وعلي بن أبي طالب سيد الوصيين، وان أوصيائي بعدي اثنا عشر: أولهم علي ابن أبي طالب، وآخرهم القائم المهدي) [5] .
وعنه أيضاً (قال: قال رسول الله (صلي الله عليه وآله): إن خلفائي وأوصيائي حجج الله علي الخلق بعدي اثنا عشر) [6] .
(وقد تواتر مضمون الخبرين (الأولين) في کتب الخاصة والعامة، أما بهذا اللفظ أو قريب منه، وقد جمع بعض المعاصرين هذه الأخبار فکانت 271، وقد رواها أکابر حفاظ أهل السنة) [7] .
متي أضفنا إليها: أن العباسيين کانوا يعلمون أن الإمام الذي يخلف الإمام الحسن العسکري (عليه السلام) هو الإمام الثاني عشر الذي يملاً الأرض قسطاً وعدلاً، لعلمهم بأن الإمام العسکري (عليه السلام) هو الإمام الحادي عشر.
وربما کانت هذه الروايات وأمثالها من الأحاديث المثيرة لقلق الحکام واضطرابهم باعثاً إلي أبعد من هذا، وهو تتبع أل الرسول (صلي الله عليه وآله)، وإبادة نسله، طمعاً منهم في الوصول إلي قتل الإمام المنتظر (عليه السلام).
وإننا لنلمس هذا المعني في بعض ما ورد عن الأئمة (عليهم السلام).. ففي حديث للإمام الصادق (عليه السلام) يقول فيه: (.. أما مولد موسي (عليه السلام)، فإن فرعون لما وقف علي أن زوال ملکه علي يده، أمر بإحضار الکهنة، فدلوه علي نسبه، وأنه يکون من بني اسرائيل، حتي قتل في طلبه نيفاً وعشرين ألف مولد، وتعذر إليه الوصول إلي قتل موسي (عليه السلام) بحفظ الله تبارک وتعالي إياه، کذلک بنو أمية وبنو العباس لما وقفوا علي أن زوال ملک الأمراء والجبابرة منهم علي يد القائم منا، ناصبونا العداوة، ووضعوا سيوفهم في قتل أل الرسول (صلي الله عليه وآله)، وإبادة نسله، طمعاً منهم في الوصول إلي القائم، ويأبي الله - عز وجل أن يکشف أمره لواحد من الظلمة إلا أن يتم نوره ولو کره المشرکون) [8] .
وفي حديث أخر عن الإمام الرضا (عليه السلام): (قد وضع بنو أمية وبنو العباس سيوفهم علينا لعلتين:
إحداهما: أنهم کانوا يعلمون ليس لهم في الخلافة حق، فيخافون من ادعائنا إيٌاها، وتستقر في مرکزها.
وثانيتهما: انهم قد وقفوا من الأخبار المتواترة، علي أن زوال ملک الجبابرة والظلمة علي يد القائم منا، وکانوا لا يشکون أنهم من الجبابرة والظلمة، فسعوا في قتل أهل بيت رسول الله (صلي الله عليه وآله)، وإبادة نسله، طمعاً منهم في الوصول إلي منع تولد القائم (عليه السلام)، أو قتله، فأبي الله أن يکشف أمره لواحد منهم، إلا أن يتم نوره ولو کره المشرکون) [9] .
کل ذلکم وأمثاله، کان يربک الحکومة العباسية حول مستقبلها عند ظهور الإمام محمد بن الحسن (عليه السلام)، إذ ربما تمثلت فيه عقيدة الشيعة، وصدقت فيه أحاديث جده النبي محمد (صلي الله عليه وآله)، وما روي عنه فيه.
فکانت تعد ما في إمکانياتها من العدة للعثور عليه، والوقوف علي أمره، لتطمئن علي مستقبلها السياسي، وبخاصة وان حرکات الشيعة أيام جده الإمام علي الهادي (عليه السلام)، وأبيه الإمام الحسن العسکري (عليه السلام)، ضد الحکومة العباسية، کانت في زيادة مدها النضالي، ووفرة نشاطها السياسي، لقلب نظام الحکم العباسي والإطاحة به، بما کان يقلق الحکومة العباسية، ويتعبها إلي حد، في إخمادها، أو إيقافها علي الأقل.
فعلي الأقل: ربما تمخضت الحرکة الشيعية عن الثورة المبيدة للحکم العباسي علي يد الإمام محمد بن الحسن (عليه السلام).
فوضع الحکام العباسيون - فيما يحدث المؤرخون - مختلف العيون والجواسيس أيام حياة الإمام الحسن العسکري (عليه السلام) بغية معرفة الإمام من بعده، وبخاصة ابنه الذي نوٌهت به وأشارت إليه تعريفات المصلح المنتظر.
يقول السيد الأمين: (وقد تضافرت الروايات علي أن السلطان طلبه - يعني الإمام المنتظر - وفتش عليه أشد الطلب والتفتيش ليقتله، لما شاع من قول الإمامة فيه، وانتظارهم له، ولما سبق من آبائه من وصية السابق إلي اللاحق) [10] .
وقال الصدوق: (وبعث السلطان إلي داره (أي دار الإمام العسکري) من يفتشها، وختم علي جميع ما فيها، وطلبوا أثر ولده، وجاءوا بنساء لهن معرفة بالحبل، فدخلن علي جواريه، فنظر إليهن، فذکر بعضهن: أن هناک جارية بها حمل، فأمر بها فجعلت في حجرة، ووکل (نحرير) الخادم وأصحابه ونسوة معهم..
ثم قال: فلما دفن (أي الإمام العسکري)، وتفرق الناس، اضطرب السلطان وأصحابه في طلب ولده، وکثر التفتيش في المنازل والدور، وتوقفوا عن قسمة ميراثه.
ولم يزل الذين وکلوا بحفظ الجارية التي توهّموا فيها الحبل ملازمين لها سنتين أو أکثر، حتي تبين لهم بطلان الحبل.. فقسم ميراثه بين أمه وأخيه،.. وادعت أمه وصيته، وثبت ذلک عند القاضي..
والسلطان علي ذلک يطلب أثر ولده،.. وهو لا يجد إلي ذلک سبيلاً) [11] .
وقال الشيخ المفيد: (وخلّف (يعني الإمام العسکري) ابنه المنتظر لدولة الحق، وکان قد أخفي مولده، وستر أمره، لصعوبة الوقت، وشدة طلب سلطان الزمان له، واجتهاده في البحث عن أمره، ولما شاع من مذهب الشيعة الإمامية فيه، وعرف من انتظارهم له، فلم يظهر ولده (عليه السلام) في حياته، ولا عرفه الجمهور بعد وفاته، وتولي جعفر بن علي - أخو أبي محمد - أخذ ترکته، وسعي في حبس جواري أبي محمد (عليه السلام)، واعتقال حلائله، وشنّع علي أصحابه بانتظارهم ولده، وقطعهم بوجوده، والقول بإمامته، وأغري بالقوم حتي أخافهم وشردهم.
وجري علي مخلفي أبي محمد (عليه السلام) بسبب ذلک کل عظيمة، من اعتقال، وحبس، وتهديد، وتصغير، واستخفاف، وذل.. ولم يظفر السلطان منهم بطائل.
وحاز جعفر - ظاهراً ترکة أبي محمد (عليه السلام)، واجتهد في القيام عند الشيعة مقامه، ولم يقبل أحد منهم ذلک، ولا اعتقده فيه) [12] .
وهذا النص الأخير - وهو لکبير من أعلام علماء الشيعة - يلمسنا واقع الغيبة، في أنها بدأت بولادة الإمام المنتظر (عليه السلام)، حيث أخفي خبر الولادة عن الجمهور، وستر أمر الإمام المنتظر (عليه السلام) إلا علي المخلصين من أصحاب أبيه (عليه السلام) للعامل السياسي الذي أشرت إليه.
وحينما يکون هذا هو واقع الغيبة، يجدر بنا أن نسائل أولئکم الحانقين والمغفلين عن موقع السرداب المزعوم من حوادث القصة!!..
وأبعد من هذا.. فقد وضع الحکام العباسيون علي ألسنة بعض المحدثين أحاديث نسبوها إلي النبي (صلي الله عليه وآله) وضمّنوها: أن المهدي المنتظر من أل العباس، بغية صرف العامة عن انتظاره في أل علي: أمثال:
1- المهدي من ولد العباس عمي [13] .
2- يا عباس، إن الله فتح هذا الأمر بي، وسيختمه بغلام من ولدک، يملؤها عدلاً، کما ملئت جوراً، وهو الذي يصلي بعيسي [14] .
3- ألا أبشرک يا أبا الفضل، إن الله - عز وجل - افتتح بي هذا الأمر، وبذريتک يختمه [15] .
4- قال رسول الله (صلي الله عليه وآله): إذا رأيتم الرايات السود قد جاءت من قبل خراسان، فأتوها، فان فيها خليفة الله المهدي [16] .
ولکي نقف علي قيمة هذه الأحاديث، وعلي واقعها، وهو أنها موضوعة، علينا أن نقرأ ما يقوله علماء الحديث والناقدون حولها:
فحول الحديث الأول، يقول الدار قطني: (غريب، تفرد به محمد بن الوليد مولي بني هاشم) [17] .
ويعلق عليه الألباني - بعد عده الحديث في سلسلة الموضوعات - بقوله: (قلت: وهو (يعني محمد بن الوليد) متهم بالکذب. قال ابن عدي: (کان يضع الحديث)، وقال أبو عروبة: (کذاب)، وبهذا أعلّه المناوي في (الفيض)، نقلاً عن ابن الجوزي، وبه تبين خطاْ السيوطي في إيراده لهذا الحديث في (الجامع الصغير)..
قلت: ومما يدل علي کذب هذا الحديث انه مخالف لقوله (صلي الله عليه وآله): (المهدي من عترتي من ولد فاطمة).. أخرجه أبو داود (2/207 - 208)، وابن ماجة (2/519)، والحاکم (4/557)، وأبو عمر والداني في (السنن الواردة في الفتن) (99 - 100)، وکذا العقيلي (139 و300) من طريق زياد بن بيان عن علي بن نفيل عن سعيد بن المسيب عن أم سلمة مرفوعاً.
وهذا سند جيد، رجاله کلهم ثقات، وله شواهد کثيرة، فهو دليل واضح علي رد حديث (المهدي من ولد العباس) [18] .
وحول الحديث الثاني يقول الألباني - بعد أن عده في الموضوعات أيضاً-: (أخرجه الخطيب في (تاريخ بغداد) (4/117) في ترجمة أحمد بن الحجاج بن الصلت قال: حدثنا سعيد ابن سليمان حدثنا خلف بن خليفة عن مغيرة عن إبراهيم عن علقمة عن عمار بن ياسر مرفوعاً.
قلت: وهذا سند رجاله کلهم ثقات، معروفون، من رجال مسلم، غير أحمد بن الحجاج هذا، ولم يذکر فيه الخطيب جرحاً ولا تعديلاً وقد اتهمه الذهبي بهذا الحديث فقال: (رواه بإسناد الصحاح مرفوعاً، فهو أفته!.. والعجيب أن الخطيب ذکره في تاريخه ولم يضعفه، وکأنه سکت عنه لانتهاک حاله)، ووافقه الحافظ في (لسان الميزان).
والحديث أورده ابن الجوزي في (الموضوعات) من حديث ابن عباس ونحوه، وقال: (موضوع. المتهم به الغلابي) [19] .
ويقول - أعني الألباني - حول الحديث الثالث - (موضوع. أخرجه أبو نعيم في (الحلية) (1/135) من طريق لاهز بن جعفر التيمي.. وقال: (تفرد به لاهز بن جعفر، وهو حديث عزيز).
قلت: وهو متهم، قال فيه ابن عدي: (بغدادي، مجهول، يحدث عن الثقات بالمناکر) [20] .
ويقول أيضاً - تعليقاً علي الحديثين الأخيرين -: (إذا علمت حال هذا الحديث والذي قبله، فلا يليق نصب الخلاف بينهما وبين الحديث الصحيح المتقدم قريباً: (المهدي من ولد فاطمة) لصحته وشدة ضعف مخالفه) [21] .
وحول الحديث الرابع يقول المودودي: (ذکر الرايات السود من قبل خراسان، مما يدل دلالة واضحة علي أن العباسيين ادخلوا في هذه الرواية من عند أنفسهم، ما يوافق أهواءهم وسياستهم، لأن اللون الأسود کان شعاراً للعباسيين، وکان أبو مسلم الخراساني هو الذي مهد الأرض للدولة العباسية) [22] .
پاورقي
[1] يقرأ: محمد أمين زين الدين، موضوع (المصلح المنتظر في أحاديث الأديان).
[2] محمد تقي الحکيم، ص 177.
[3] إسماعيل الصدر ص 150.
[4] م.ن.
[5] نجم الدين الشريف العسکري: علي والوصية، ص 196.
[6] صدر الدين الصدر، ص 232.
[7] إسماعيل الصدر، ص 150.. ويراجع المصدر نفسه لمعرفة من يرويها من أکابر حفاظ أهل السنة.
[8] لطف الله الصافي: منتخب الأثر في الإمام الثاني عشر (عليه السلام)، ص359، 360.
[9] المصدر السابق، ص 291.
[10] ص 335.
[11] السيد الأمين، ص 336.
[12] ص 316.
[13] محمد ناصر الدين الألباني، سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة، ص 93.
[14] م.ن.
[15] المصدر السابق، ص 94.
[16] المودودي، ص 161.
[17] الألباني، ص 93.
[18] م.ن.
[19] المصدر السابق، ص 93، 94.
[20] م.ن.
[21] م.ن.
[22] الشيخ المفيد، ص 332.