بازگشت

امامته


ولي أمر الإمامة بعد وفاة أبيه الإمام الحسن العسکري (عليه السلام) عام (260 هـ)، وهو ابن خمس سنين.

وهنا.. ربما يتساءل استغراباً:

کيف يجعل إماماً وهو في هذه السن من الطفولة المبکرة؟!

ويرتفع هذا النوع من الاستغراب حينما نعلم أن الإمامة هبة يمنحها الله تعالي من يشاء من عباده، ممن تتوافر فيه عناصر الإمامة وشروطها، شأنها في ذلک شأن النبوة.. وهو ما برهن عليه في مجاله من مدونات وکتب الإمامة عند الشيعة بما يربو علي التوفية.

يقول السيد صدر الدين الصدر: (إن المهدي المنتظر قام بالإمامة، وحاز هذا المنصب الجليل، وهو ابن خمس سنين، طفل لم يبلغ الحلم.. فهل يجوز ذلک؟! أم لابد في النبي والرسول والخليفة أن يکون بالغاً مبلغ الرجال؟!

هذه مسألة کلامية، ليس هنا محل تفصيلها، ولکن علي وجه الإجمال، نقول: - بناء علي ما هو الحق من أن أمر الرسالة والإمامة والنبوة والخلافة بيد الله سبحانه وتعالي، وليس لأحد من الناس فيها اختيار - يجوز ذلک عقلاً، ولا مانع منه مع دلالة الدليل عليه، لأن الله سبحانه وتعالي قادر أن يجمع في الصبي جميع شرائط الرسالة والإمامة). [1] .

علي أن إمامة الإمام المنتظر (عليه السلام)لم تکن الحدث الوحيد من نوعها، فقد أوتي النبي يحيي (عليه السلام) الحکم صبياً: (يا يحيي خذ الکتاب بقوة، وآتيناه الحکم صبياً) [2] ، وجعل عيسي بن مريم (عليه السلام) نبياً وهو في المهد رضيعاً: (فأشارت إليه قالوا کيف نکلم من کان في المهد صبياً قال إني عبد الله آتاني الکتاب وجعلني نبياً) [3] .. کما هو صريح القرآن الکريم.

وکان جده الإمام محمد الجواد (عليه السلام)، وجده الإمام علي الهادي (عليه السلام)، ولي کل منهما الإمامة وهو ابن ثماني سنوات،.. وکان أبوه الإمام الحسن العسکري (عليه السلام) وليها وهو ابن عشرين عاماً.

وواقع هؤلاء الأئمة (عليهم السلام) في علمهم بالشريعة، وتطبيقهم لأحکامها، في سلوکهم، ومختلف مجالات حياتهم الذي سجله التاريخ بإکبار - بالإضافة إلي الدليل العقائدي الذي أشرت إليه - يکفينا في رفع ذلکم النوع من الاستغراب... وبخاصة حينما نعلم أن الأئمة (عليهم السلام) کانوا (مصحرين بأفکارهم وسلوکهم وواقعهم تجاه السلطة وغيرها من خصومهم في الفکر.. والتاريخ حافل بمواقف السلطة منهم ومحاربتها لأفکارهم، وتعريضهم لمختلف وسائل الإغراء والاختيار، ومع ذلک فقد حفل التاريخ بنتائج اختباراتهم المشرفة وسجلها بإکبار.

ولقد حدث المؤرخون عن کثير من هذه المواقف المحرجة، وبخاصة مع الإمام الجواد، مستغلين صغر سنّه عند تولي الإمامة.

وحتي لو افترضنا سکوت التاريخ عن هذه الظاهرة، فان من غير الطبيعي أن لا يحدث أکثر من مرة تبعاً لتکرار الحاجة إليها، وبخاصة وأن المعارضة کانت علي أشدها في العصور العباسية.

وطريقة إعلان فضيحة الشيعة بإحراج أئمتهم فيما يدعونه من علم أو استقامة سلوک، وإبراز سخفهم لاحتضانهم أئمة بهذا السن وهذا المستوي - لو أمکن ذلک - أيسر بکثير من تعريض الأمة إلي حروب قد يکون الخليفة من ضحاياها أو تعريض هؤلاء الأئمة إلي السجون والمراقبة، والمجاملة أحياناً). [4] .

ولعل من روائع ما سجله التاريخ في هذا المجال: شهادة أحمد ابن عبيد الله بن خاقان، عامل المعتمد العباسي علي الخراج والضياع بکورة (قم)،.. وکان معروفاً بانحرافه عن أهل البيت (عليهم السلام)، في معرض حديثه مع جماعة حضروا مجلسه في شهر شعبان من سنة (278 هـ)، بعد وفاة الإمام الحسن العسکري (عليه السلام) بثماني عشرة سنة، وقد جري ذکر المقيمين من آل أبي طالب بسامراء، ومذاهبهم، وصلاحهم، وأقدارهم عند السلطان. [5] .

يقول: (ما رأيت ولا أعرف بسر من رأي رجلاً من العلوية مثل الحسن بن علي بن محمد بن الرضا، في هديه، وسکونه، وعفافه، ونبله، وکرمه عند أهل بيته والسلطان وبني هاشم کافة، وتقديمهم إيّاه علي ذوي السن منهم والخطر،.. وکذلک حاله عند القواد والوزراء والکتاب وعامة الناس.

کنت يوماً قائماً علي رأس أبي - وهو يوم مجلسه للناس - إذ دخل حجابه، فقالوا: أبو محمد بن الرضا بالباب.

فقال - بصوت عال -: ائذنوا له.

فتعجبت منه، ومنهم، من جسارتهم أن يکنّوا رجلاً بحضرة أبي، ولم يکنّ عنده إلاّ خليفة أو ولي عهد أو من أمر السلطان أن يکنّي.

فدخل رجل أسمر، أعين، حسن القامة، جميل الوجه، جيد البدن، حديث السن، له جلالة وهيئة حسنة.

فلما نظر إليه أبي، قام فمشي إليه خطوات.. ولا أعلمه فعل هذا بأحد من بني هاشم والقواد وأولياء العهد.

فلما دنا منه عانقه، وقبّل وجهه وصدره ومنکبيه، وأخذ بيده، وأجلسه علي مصلاه الذي کان عليه، وجلس إلي جنبه، مقبلاً عليه بوجهه... وجعل يکلمه، ويفديه بنفسه وأبويه، وأنا متعجب مما أري منه، إذ دخل الحاجب، فقال: جاء الموفق - وهو أخو المعتمد الخليفة العباسي -.

وکان الموفق إذا دخل علي أبي تقدمه حجابه، وخاصة قواده، فقاموا بين مجلس أبي وبين الدار سماطين، إلي أن يدخل ويخرج.

فلم يزل أبي مقبلاً علي أبي محمد، يحدثه، حتي نظر إلي غلمان الموفق، فقال له - حينئذ -: إذا شئت - جعلني الله فداک - أبا محمد...

ثم قال لحجابه: خذوا به خلف السماطين، لا يراه هذا (يعني الموفق).

فقام، وقام أبي، فعانقه، ومضي.

فقلت لحجاب أبي وغلمانه: ويحکم.. من هذا الذي کنيتموه بحضرة أبي، وفعل به أبي هذا الفعل؟!...

فقالوا: هذا علوي، يقال له: الحسن بن علي، يعرف بابن الرضا.

فازددت تعجباً، ولم أزل يومي ذلک قلقاً متفکراً في أمره، وأمر أبي، وما رأيته، منه، حتي کان الليل، وکانت عادته أن يصلي العتمة، ثم يجلس، فينظر فيما يحتاج إليه من المؤامرات، وما يدفعه إلي السلطان.

فلما صلي وجلس، جئت فجلست بين يديه، فقال: ألک حاجة؟

قلت: نعم.. فان أذنت سألتک عنها..

قال: قد أذنت..

قلت: من الرجل الذي رأيتک بالغداة فعلت به ما فعلت من الإجلال والکرامة، وفديته بنفسک وأبويک؟!

فقال: يا بني.. ذاک إمام الرافضة، الحسن بن علي، المعروف بابن الرضا..

وسکت ساعة..

ثم قال: لو زالت الإمامة عن خلفاء بني العباس، ما استحقها أحد من بني هاشم غيره، لفضله، وعفافه، وصيانته، وزهده، وعبادته، وجميل أخلاقه، وصلاحه.. ولو رأيت أباه، رأيت رجلاً جزلاً، نبيلاً، فاضلاً.

فازددت قلقاً، وتفکراً، وغيظاً علي أبي، وما سمعته منه فيه، ورأيته من فعله به.

فلم تکن لي همة بعد ذلک إلا السؤال عن خبره، والبحث عن أمره.

فما سألت أحداً من بني هاشم والقواد والکتاب والقضاة والفقهاء وسائر الناس، إلا وجدته عندهم في غاية الإجلال والإعظام، والمحل الرفيع، والقول الجميل، والتقديم له علي جميع أهل بيته ومشايخه..

فعظم قدره عندي، إذ لم أر له ولياً ولا عدواً، إلا وهو يحسن القول فيه والثناء عليه). [6] .

وکان الإمام المنتظر (عليه السلام) خاتم الأئمة الاثني عشر، أوصياء نبينا محمد (صلي الله عليه وآله).


پاورقي

[1] ص 107.

[2] الآية 12 من سورة مريم.

[3] الآيتان 29 و30 من سورة مريم.

[4] محمد تقي الحکيم، الأصول العامة للفة المقارن ص 183.

[5] يراجع: السيد محسن الأمين، ص 317.

[6] الشيخ المفيد، الإرشاد، ص 309 و310.