المناهج التفسيرية الطارئة و اثرها في الدراسات القرآنية
لا سبيل الي رقي الاُمة وتحقيق کمالها إلّا بالرجوع للقرآن والعترة، ولا سبيل لاستنطاق القرآن وجعله حاکماً في حياة الاُمة وحرکتها إلّا عن طريق التمسک بالعناصر والأدوات الکفيلة باستنطاقه وبيان مقاصده ومراميه، إلّا أن الذي عطّل القرآن عن العطاء وأقصاه من الحياة ورمي برکام الضبابية والتشويش علي حقائقه ومعانيه بغية الحؤول دون حاکميته مناهج التضليل المبتدعة التي أوجدتها السياسة بعد أن أزاحت خط العصمة - العارف بمقاصد القرآن وتأويله - عن الخلافة والمرجعية.
فإقصاء القرآن عن حياة الاُمة والأخذ منه بقدر محدود أو بقدرما تريده الأهداف السياسية والمصالح الدنيوية يؤدي بطبيعة الحال وبما لا يقبل الشک الي تخلف الاُمة وتراجعها.
فحين نزل القرآن کانت له علاقة وجدانية مع الاُمة - بحيث لا يمکن التفکيک بين مسيرتها وبين القرآن، وکانت الثلة الصالحة القريبة من رسول اللَّه صلي الله عليه وآله - قد تفاعلت مع القرآن ومفاهيمه حتي اختلط بمشاعرهم وعقولهم، فالمتتبع للظواهر السلوکية والفکرية التي سجلها التاريخ لهم يجد القرآن فيها حاضراً بروحه ومفاهيمه.
وحقيقة اُخري فإن فهم الصحابة للقرآن في الصدر الأوّل والمستوي الاستيعابي لمعارفه، کان يرجع الي التفاوت في مدارکهم الإيمانية سعة وضيقاً، فکلما اقترب الإنسان من الرسالة واندک مع أوامر صاحبها فهماً وسلوکاً، کان لتلک العلاقة انکعاساتها في ابداعات الصحابي ومواقفه، کما أن لها الأثر في فهم ذلک الصحابي للقرآن.
ولم يکن المستوي الإيماني هو العامل الوحيد دون الأخذ الواعي من القرآن بل کان للعامل السياسي والمتغيرات التي حصلت بعد النبي الأثر السلبي في علاقة المسلم مع القرآن حيث أفتقدت تلک المرحلة شيئاً کبيراً من نقاء القرآن وصفائه.
وتنامي الابتعاد عن القرآن فبفعل بروز انحرافات جديدة شملت حقول الاجتماع والمعرفة مما زاد في المسافة بين المسلم وقرآنه، ففي مجال العقيدة مثلاً دخلت فکرة التجسيم والتشبيه الغريبة عن العقيدة حيث استطاعت هذه الفکرة أن تمتد الي القرآن بغية استخدام آياته کشاهد ومؤيد لصحتها مثل قوله تعالي:«يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ » [1] وقوله تعالي:«وَيَبْقَي وَجْهُ رَبِّکَ ذُو الْجَلاَلِ وَالإِکْرَامِ» [2] وقالوا إن للَّه وجه ويد ورجل وانّه ينزل الي السماء الدنيا في کل جمعة، وانّه يظهر لأهل الجنة کالقمر، وان المؤمنين يصافحونه وهکذا... وقد طغت فکرة الجبر التي أدّت خدمات کبيرة لأصحاب السياسة حيث ساهمت في تبرير انحرافاتهم واضطهادهم للاُمة، فقالت: إن الإنسان مسلوب الإرادة وأن اللَّه هو الفاعل لأفعال العباد واستشهدوا بقوله تعالي:« وَاللَّهُ خَلَقَکُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ» [3] .
کما تناولت السياسة وخصوصاً في العصر الاُموي عقيدة النبوة من أجل الحطّ من قيمتها وتنزيل النبي الي مستوي الإنسان العادي الذي لا يؤهله سلوکه في أن يکون قدوة للناس کل ذلک من أجل تبرير انحرافاتهم الخطيرة عن طريق هذا الخلط واللعب بالمفاهيم التي لا تميز بين سلوک وسلوک، فقالوا بجواز صدور المعاصي والذنوب من الأنبياء اعتماداً علي نصوص وجّهوها فيما بعد مثل قوله تعالي:«وَعَصَي آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَي» [4] وقوله:« وَوَجَدَکَ ضَالّاً فَهَدَي» [5] ، وقوله:«وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلاَ أَن رَأي بُرْهَانَ رَبِّهِ» [6] .
بعد ذلک دخل تفسير القرآن بالرأي الذي لا يعتمد الأحاديث والروايات الصحيحة الصادرة عن النبي أو أحد الأئمة المعصومين عليهم السلام، ولا علي الظهور اللفظي الثابت في لغة العرب، ولا علي الأحکام العقلية الفطرية الأولية، وبهذا أشار النبي الي خطورة هذه المسألة بوقت سابق ولحقه أئمة أهل البيت عليهم السلام حيث قال صلي الله عليه وآله:«من فسّر القرآن برأيه فليتبوّء مقعده من النار».
ثم دفعت السياسة وأهل الاعتقادات الفاسدة بأصحابها أن يعتمدوا الروايات الإسرائيلية في تفسير القرآن، بدل الحديث الصحيح.
ذکر القرطبي في تفسير سورة غافر عن خالد بن معان عن کعب أنه قال: لما خلق اللَّه العرش قال:
لم يخلق اللَّه أعظم مني واهتزّ تعاظماً، فطوقه اللَّه تعالي بحية لها سبعون ألف جناح، في کل جناح سبعون ألف ريشة، في کل ريشة سبعون ألف وجه، في کل وجه سبعون ألف فم، في کل فم سبعون ألف لسان، يخرج من أفواهها کل يوم من التسبيح عدد قطر المطر، وعدد ورق الشجر، وعدد الحصي والثري، وعدد أيام الدنيا، وعدد الملائکة أجمعين، والتوَت الحية علي العرش، فالعرش الي نصف الحية وهي ملتوية عليه، فتواضع عند ذلک» [7] .
قال معاوية لکعب:
أنت تقول إنّ ذا القرنين کان يربط خيله بالثريا؟ فقال له کعب:
إن کنت قلت ذلک فإن اللَّه قال:
«وَآتَيْنَاهُ مِن کُلِّ شَيْ ءٍ سَبَباً» [8] .
وقال کعب:
الأرضين السبع علي صخرة، والصخرة في کف ملک، والملک علي جناح الحوت، والحوت في الماء، والماء علي الريح، والريح علي الهواء، ريح عقيم لا تلقح، وإن قرونها معلقة في العرش [9] .
عن وهب بن منبّه قال: أربعة أملاک يحملون العرش علي أکتافهم، فکل واحد منهم أربعة وجوه: وجه ثور، ووجه أسد، ووجه نسر، ووجه إنسان، ولکل واحد منهم أربعة أجنحة، أما جناحان فعلي وجهه ليحفظاه من أن ينظر الي العرش فيصعق فيهفو بهما...» [10] .
وأخيراً دخلت التأويلات الباطنية الفاسدة للقرآن الکريم التي تعتمد الصيغ المبتدعة، فقد توغل المتصوّفة في تأويلاتهم الباطنية للقرآن علي اُسس غير صحيحة ولا تملک الحجة ولا الدليل.
فقد أوّلوا مثلاً قوله تعالي:«فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَي فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُکَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَي قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ» [11] .
إنّ إبراهيم هو العقل، وأن إسماعيل هو النفس وأنّ العقل هنا کان ينوي قتل النفس [12] .
کما أوّلوا قوله تعالي:« إِنَّ الَّذِينَ کَفَرُوا بِآيَاتِنَا » [13] .
أي حجبوا عن تجليات صفاتنا وأفعالنا إذ مطلع الآية کونه متجلياً بالعلم والحکمة والملک في آل إبراهيم(سوف نصليهم ناراً)، نار شوق الکمال لاقتضاء غرائزهم وطبائعهم بحسب استعدادهم ذلک مع رسوخ الحجاب ولزومه أو نار قهر من تجليات صفات قهره تناسب أحوالهم، أو نار شره نفوسهم وحدّة شوقها وطلبها لما ضربت من کمالات صفاتها وشهواتها مع حراستها عنها«کُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُم» [14] رفعت حجبهم الجسمانية بانسلاخهم عنها«بَدَّلْنَاهُمْ»حجباً غيرها جديدة«لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ»نيران الحرمان [15] .
وهذه الصيغ التي اُعتمدت لفهم القرآن طارئة وغير أصيلة ولا تؤدي الي الفهم الصحيح.
نعم إن التأويل وارد في القرآن ويمکن اعتماده کطريق لفهم القرآن فيما لو التزم الأحاديث الواردة عن النبي صلي الله عليه وآله وآله عليهم السلام باعتبارهم العارفين بتأويل القرآن.
قال الإمام الباقرعليه السلام:
«أفضل الراسخين في العلم رسول اللَّه صلي الله عليه وآله قد علم جميع ما أنزل اللَّه في القرآن من التنزيل والتأويل، وما کان اللَّه لينزل عليه شيئاً لم يعلمه تأويله».
وقال الإمام الصادق عليه السلام:
«إنّ اللَّه علّم نبيّه التنزيل والتأويل فعلّم رسول اللَّه علياًعليه السلام وعلّمنا واللَّه».
وقال عليه السلام:
«نحن الراسخون في العلم فنحن نعلم تأويله» [16] .
ولما کان موضوع التأويل له مدخلية في الحديث عن مستقبل الاُمة ومصيرها ولما سوف تلاقيه من مصاعب وأحداث ينبغي الوعي والبصيرة في مآلها والتي تدور حول محور المهدوية ودور الاُمة في عصر الظهور وما قبله لذا کان من اللازم التطرق الي بيان معني التأويل ليمنحنا بالتالي معلومات ثرّة تبلور مسألة مفهوم المهدوية التي تمنح هي الاُخري أي تلک الآيات المؤوّلة بالمهدي وعياً بالأحداث المستقبلية ليکون موقف المسلم ازاءها موقفاً منسجماً مع القرآن.
پاورقي
[1] الفتح: 10.
[2] الرحمن: 27.
[3] الصافات: 96.
[4] طه: 121.
[5] الضحي: 7.
[6] يوسف: 24.
[7] الجامع الکبير لأحکام القرآن، القرطبي 282:15 ط القاهرة.
[8] الکهف: 84.
[9] تفسير القرآن العظيم، ابن کثير 106:3 ط بيروت.
[10] أضواء علي السنة المحمدية: 159 ،158 ط بيروت.
[11] الصافات: 102.
[12] تفسير القرآن، ابن عربي 166:2.
[13] النساء: 56.
[14] النساء: 56.
[15] تفسير القرآن، محيي الدين بن العربي 152:1.
[16] بحار الأنوار، المجلسي 182:43 ح 41.