بازگشت

السنن الالهية في مرحلة الانتظار


فإذا کانت الفقرة السابقة تکفلت ببيان طبيعة الظواهر التي هي من سمات مرحلة الانتظار، إذاً فما هي السنن الإلهية والقوانين الحاکمة التي تضمن لنا تحقيق الهدف الإلهي ودفع عجلة التاريخ الي الأمام حتي قيام دولة الحق بقيادة المعصوم؟ هذا ما سنتناوله في هذا الفصل ضمن عدد من الآيات:

1 -«وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَي الرَّسُولِ وَإِلَي أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ» [1] .

إرسال الأنبياء وتعيين الأوصياء کهداية للناس من السنن الإلهية الثابتة وتقريب الاستدلال علي أن خط الهداية مستمر من خلال سلسلة المعصومين وآخرهم المهدي المنتظر يتم بالشکل التالي:

المتأمل في الآية يلاحظ فيها عدة اُمور منها: إنّه سبحانه جعل الردّ هنا الي الرسول والي اُولي الأمر مباشرة، من غير أن يکون للَّه ثم الي الرسول، کما في قوله تعالي:«فان تنازعتم في شي ء فردّوه الي اللَّه والرسول»والفرق بينهما أي بين الردّين واضح تبعاً لطبيعة الغاية.

فالردّ المذکور في التنازع هو ردّ الحکم الشرعي المتنازع فيه الذي يکون البت فيه للَّه ولرسوله لا الي الناس.

أما الرد المذکور في الآية موضع البحث فهو ردّ الخبر الشائع بين الناس سواء خبر الأمن أو الخوف ولا مبرر لردّه الي اللَّه وکتابه. لأن موضوع الردّ هنا الظواهر الاجتماعية المتحرکة وما يشوبها من ملابسات فينبغي أن يکون الردّ فيها آنيّاً وظرفياً کالملابسات التي تحدث في المعارک أثناء الکر والفر، کما أنه حکم علي الظاهرة المتجددة وکشف عن خباياها، وهذا من مختصات الرسول واُولي الأمر من بعده، فلو ردّ الأمر إليهم لأمکنهم أن يستنبطوا الجواب ويذکروا للسائلين صحة الأمر أو القول بضعفه أو کذبه أو صدقه.

والرسول واُولي الأمر قد حصلوا علي العلم الممنوح منه سبحانه والعلم بهذا المعني يستطيع المعصوم بواسطته أن يميز بين الحق والباطل والصدق من الکذب«ليعلم اللَّه من يخافه بالغيب»وبه يحيط المعصوم علي الموضوعات فهو علمٌ ليس بکسبي ليتأثر بالبيئة ومتغيراتها ثم لهؤلاء الموهوبين القدرة في أن يستنبطوا القول ويستخرجوا من حال الإبهام الي مرحلة الوضوح والتمييز وهؤلاء هم أهل البيت عليهم السلام.

وعليه فان الاُمة التي تجعل أئمة أهل البيت مرجعاً لمعرفة شؤون حياتها ستحصل بالنتيجة علي الهداية ثم علي الحقائق التي تتلبس بها الظواهر فتشوش علي الاُمة ماهو المقصود منها.

أما إذا تخلت الاُمة عن أهل البيت واعتمدت علي إمکانياتها وقابلياتها وخيراتها فلا تحصل علي شي ء من الخارج وإنّما ستحصل علي شي ء هو من عندها.

وبما أنها اُمة تحتاج الي من يهديها، إذاً فلا تحصل علي الهداية بنفسها وتبقي رهن الفتن والضلالات.

هذا إذا قلنا وکما هو ثابت بأن اُولي الأمر هم أهل البيت عليهم السلام.

أما القول بأن اُولي الأمر هم اُمراء السرايا، فإن هؤلاء لم يکن لهم شأن إلّا الإمارة علي سرية في واقعة خاصة لا تتجاوزها خبرتهم ودائرة عملهم، وأمثال ما هو مورد الآية، وهو الإخلال بالأمن، وإيجاد الخوف والوحشة العامة، التي کان يتوسل إليها المشرکون ببعث العيون وإرسال الرسل السرية الذين يذيعون من الأخبار ما يخذلون به المؤمنين، فلا شأن لاُمراء السرايا في ذلک حتي يمکنهم أن يبيّنوا وجه الحق فيه للناس إذا سألوهم عن أمثال تلک الأخبار.

وأما القول بأن اُولي الأمر هم العلماء فعدم مناسبته للآية لا يحتاج الي مزيد من العناء، إذ العلماء - وهم يومئذٍ المحدثون والفقهاء والقرّاء والمتکلمون في اُصول الدين - وتختص خبرتهم في الفقه والحديث ونحو ذلک، أما مورد قوله تعالي:«وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف»، فهو مورد الأخبار التي لها جذور سياسية وترتبط بمعادلات مختلفة، فقد يؤدي قبولها أو ردّها أو إهمالها الي مفاسد اجتماعية أو سياسية بالغة من العسير أن تصلح وقد يکون رأي هؤلاء ممّا يؤدي الي انحراف الاُمة وبطلان مساعيها فالعلماء المحدثون بهذه الدول أو قراء لا خبرة لهم خارج تلک العلوم فلا يمکن أن يأمر اللَّه بارجاع الاُمة حين نصبها المشاکل الي ناس لا علم لهم بها.

وأما القول بأن اُولي الأمر هم الخلفاء الراشدون أعني أبا بکر، وعمر، وعثمان وعلياً، فمع کونه لا دليل عليه من کتاب أو سنّة قطعية، يرد عليه أن حکم الآية إما مختص بزمان النبي صلي الله عليه وآله أو عام يشمله وما بعده، وعلي الأوّل کان من اللازم أن يکونوا معروفين بهذا الشأن بما أنهم هؤلاء الأربعة من بين الناس ومن بين الصحابة خاصة، والحديث والتاريخ لا يضبطان لهم بخصوصهم شأناً من هذا القبيل، وعلي الثاني کان لازمه انقطاع حکم الآية بانقطاع زمان حياتهم، وکان لازمه أن تتصدي الآية لبيان ذلک، کما في جميع الأحکام الخاصة بشطر من الزمان المذکورة في القرآن کالأحکام الخاصة بالنبي صلي الله عليه وآله منهم.

کما يؤاخذ علي هذا الرأي أيضاً أن النبي صلي الله عليه وآله کان يجمع في مشاورته المؤمنين والمنافقين کعبد اللَّه بن اُبي وأصحابه، وحديث مشاورته يوم اُحد معروف، وکيف يمکن أن يأمر اللَّه سبحانه بالرد الي أمثاله.

وهذه الاّيات المسرودة في ذمّ ضعفاء المؤمنين وتعييرهم علي ما وقع منهم إنما ابتدأت به وبأصحابه أعني قوله تعالي:«ألم تر الي الذين قيل لهم کفوا... الآيات».

وإذ کان الأمر علي هذه الوتيرة، فکيف يمکن أن يؤمر في الآية بإرجاع الأمر وردّه الي مثل هؤلاء؟

فلا يبقي إلّا القول بأن اُولي الأمر هم ما رجّح في قوله تعالي:«أطيعوا اللَّه وأطيعوا الرسول واُولي الأمر منکم...».

وإذا ثبت أن اُولي الأمر هم المقصودون في الآية المذکورة يتعيّن أن مرجعيتهم في شون الحياة ثابتة بعد الرسول، ولما کان القرآن يخاطب الاُمة علي طول التاريخ فتکون عملية الردّ مستمرة مازالت الاُمة باقية.

ولا تکون مستمرة إلّا بوجود المعصوم حياً بين الناس وهذا ينطبق مع معتقدنا بأن المهدي هو آخر الأئمة المعصومين الحجةبن الحسن العسکري وهو حيٌّ يرزق ويمارس نشاطه في هداية الناس، ويستمر في الحياة حتي ظهور وإقامة الحق علي يديه.

2 -«فَإِن يَکْفُرْ بِهَا هؤُلاَءِ فَقَدْ وَکَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَيْسُوا بِهَا بِکَافِرِينَ» [2] .

فان يکفر بها أي بالهداية أو النبوّة أو الطريقة، وهؤلاء الکافرين هم قوم النبي الذين کفروا بالدعوة الإسلامية.

فسوف يوکّل اللَّه بها قوماً من صفاتهم أنّهم لم يکفروا بالطريقة والهداية التي جاء بها النبي صلي الله عليه وآله ولما ذکرهم القرآن بلفظ نکرة(قوماً)دلالة علي أن مهمتهم کبيرة وخطرهم عظيم؛ ولذا اختلف فيهم المفسرون فمن قال إنّهم الأنبياء ويُردّ علي هذا القول: إنّ سياق اللفظ لا يلائمه إذا ظاهر قوله ليسوا بها بکافرين نفي الحال أو الاستمرار في النفي، والمذکورون من الأنبياءعليهم السلام لم يکونوا موجودين في حال الخطاب، ولو کان المراد منهم الأنبياء المذکورون لکان المتعبون أن يقال:(لم يکونوا بها بکافرين وليس رسول اللَّه معدوداً منهم بحسب العناية، وإن کان هو منهم بل وأفضلهم وذلک لأن اللَّه قد أفرده عنهم، إذ قال:«اُولئِکَ الّذين هَدي اللَّه فَبِهُداهم اقتده».

وأما القول بأنهم الملائکة فالسياق لا يناسبه أيضاً إذ السياق کان نوعاً من التسلية للنبي، ولا معني لتسليته حين يکفر قومه بإيمان الملائکة.

وأما القول بأنهم المؤمنون عند نزول السورة في مکة أو مطلق المهاجرين، وهذا ليس بصحيح، لأن بعض هؤلاء قد ارتدّ بعد الإيمان، وقال سأنزل مثل ما أنزل اللَّه وفيهم المنافق وفيهم من آذي النبي صلي الله عليه وآله.

إذاً فلا ينطبق علي قوله تعالي:«لَيْسُوا بِها بکافرينَ».

ومنهم من يذهب الي أن المراد بالقوم هم المؤمنون من اُمة محمدصلي الله عليه وآله أو المؤمنون من جميع الاُمم. وفيه: إنه يرد عليه ما أورد علي ما قبله من الوجوه. نعم يمکن أن يوجّه بأن المراد بهم نفوس من هذه الاُمة أو من جميع الاُمم يؤمن باللَّه إيماناً لا يعقبه کفر مادامت تعيش في الدنيا فهؤلاء قوم مؤمنون وليسوا بها بکافرين وإن لم يمتنع الکفر عليهم لکن دوامهم علي الإيمان بدعوة التوحيد من غير کفر أو نفاق يستدعي صدق قوله:«قوماً ليسوا بها بکافرين»عليهم ويتم به معني الآية في أنها مسوقة لتسلية النبي صلي الله عليه وآله وتطيبب قلبه الشريف إذ کان يحزنه کفر المشرکين من قومه واستکبارهم عن إجابة دعوة الحق والإيمان باللَّه وآياته، وفي أنها دالة علي اعتزازه تعالي بحفظ هدايته وطريقته التي أکرم بها عباده المکرمين وأنبياءه المقربين.

لکن يتوجه الي أ بناء هذا الوجه علي قضية اتفاقية وهي إيمان المؤمنين بها إيماناً يتفق أن يبقي سليماً من الزوال من غير ضامن يضمن بقاءه، ولا يلائمه قوله تعالي:«وَکّلنا بها»فإن التوکيل يفيد معني الاعتماد ويتضمن معني الحفظ والکلاءة، ولا وجه للاعتزاز والمباهاة بأمر لا ضامن لثباته ولا حافظ لاستقراره وبقاءه.

علي أن اللَّه سبحانه يذم کثيراً من الإيمان إذ يقول:«وَمَا يُؤمن أکثرهم باللَّه إلّا وهم مشرکون» [3] وهذه الآيات إنما تصف التوحيد الفطري المحض والهداية الإلهية الطاهرة النقية الخالية عن شوب الشرک والظلم، التي أکرم اللَّه بها خليله إبراهيم ومن قبله وبعده من الأنبياء المکرمين عليهم السلام، کما يذکره إبراهيم عليه السلام في قوله علي ما يحکيه اللَّه سبحانه عنه:«الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم اُولئک لهم الأمن وهم مهتدون» [4] ، فالهداية الي هذا شأنها لا يعد کل لبس بالإيمان حافظاً لها موکلاً بها من اللَّه يحفظها اللَّه به من الضيعة والفساد وفيهم الطغاة والبغاة والفراعنة والمستکبرون والجفاة الظلمة وأهل البدع متوغلون في الفجور وأنواع الفحشاء والفسق.

والذي ينبغي أن يقال في معني الآية أعني قوله:«فإن يکفر بها هؤلاء فقد وکّلنا بها قوماً ليسوا بها بکافرين»إن الآيات لما کانت تصف التوحيد الفطري بالهداية الإلهية الطاهرة من شوب الشرک باللَّه سبحانه، وتذکر أن اللَّه سبحانه أراد بهذه الهداية سلسلة متصلة متحدة من أنبيائه واصطفاهم بها ذرية بعضها من بعض واجتباهم وهداهم الي صراط مستقيم لا ضلال فيه وآتاهم الکتاب والحکم والنبوة.

ثم فرع علي ذلک قوله تعالي:«فإن يکفر بها هؤلاء فقد وکّلنا بها قوماً ليسوا بها بکافرين»وسياقه سياق اعتزاز منه تعالي تسلية للنبي صلي الله عليه وآله وتطييب لنفسه لئلا يصيبها الحزن ويفسخ عزيمته في الدعوة الدينية ما يشاهده من کفر قومه واستکبارهم وعمههم في طغيانهم فمعناه أن لا تحزن بما تراه من کفرهم بهذه الهداية الإلهية والطريقة التي تشتمل عليها الکتاب والحکم والنبوة التي آتيناها هؤلاء المهديين من الأنبياء الکرام فإنا قد وکّلنا بها قوماً ليسوا بها بکافرين فلا تتعرض للضيعة والزوال الي هذه الهداية الإلهية لأنا وکّلناهم بها واعتمدنا عليهم فلابد أن يکونوا غير کافرين بها البتة.

فهؤلاء قوم لا يتصوّر في حقّهم کفر ولا يدخل في قلوبهم شرک لأن اللَّه اعتمد عليهم فيها، وحفظها بهم ولو جاز عليهم الشرک وأمکن فيهم لکان الاعتماد عليهم فيها خطأ وضلالاً واللَّه سبحانه لا يضل ولا ينسي.

فالآية تدل - واللَّه أعلم - علي أنّ للَّه سبحانه في کل زمان عبداً أو عباداً موکلين بالهداية الإلهية والطريقة المستقيمة التي يتضمنها ما آتاه أنبياءه من الکتاب والحکم والنبوة يحفظ اللَّه بهم دينه عن الزوال وهدايته عن الانقراض، لا سبيل للشرک والظلم إليهم لاعتصامهم بعصمة إلهية فهم أهل العصمة من الأنبياء الکرام وأوصياؤهم عليهم السلام.

فالآية خاصة بأهل العصمة وقصاري ما يمکن أن يتوسع به أن يلحق بهم الصالحون من المؤمنين ممن اعتصم بعصمة التقوي والصلاح ومحض الإيمان عن الشرک والظلم، وخرج بذلک عن ولاية الشيطان، قال تعالي:«إنّه ليسَ لَهُ سلطان علي الذين آمنوا وعلي ربّهم يتوکلون» [5] إنّ صدق عليهم أنّ اللَّه وکّلهم بها واعتمد عليهم فيها.

وبهذا تثبت الآية بأنّ خطّ التوحيد والحق والإسلام دائم ومستمر وفقاً لهذه الحتمية التي تستلزم دوام خط العصمة الذي لا يشوبه کفرٌ ولا طغيان ولا دنس وبه يحقق اللَّه المجتمع الفاضل الذي تسوده العدالة في ظل قيادة المعصوم وممّن يلتحق به من المؤمنين الصالحين.

3 -«وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ ا لْکَافِرِينَ» [6] .

ومعرفة معناها يتوقف علي معرفة بعض ألفاظها، فمردة التمحيص تعني تخليص الشي ء من الشوائب الخارجة، ومعني المحق إنفاذ الشي ء تدريجياً وإزالته شيئاً فشيئاً.

بعد أن إتّضح معني التمحيص والمحق، نقول أنّ التمحيص يؤدي الي تمييز المؤمن من الکافر ثم الي تخليص الإيمان من شوائب الکفر والنفاق.

من هنا نجد أنّ المحق اختص بالکافرين والتمحيص اختص بالمؤمنين.

فاللَّه سبحانه عن طريق سنّة التمحيص الذي يحدث بحکم تداول الأيام تسقط وتزول شوائب الکفر والظلم من المؤمن شيئاً فشيئاً حتي لا يبقي مع الإيمان کفر قط، فيکون خالصاً للَّه.

وقد يتخد بعداً اجتماعياً أيضاً(حتي تکون الاُمة سفساطين: سفساط إيمان لا کفر فيه، وسفساط کفر لا إيمان فيه).

ثم يبدأ اللَّه سبحانه عبر المحق إزالة أجزاء الکفر والشرک من الکافر شيئاً فشيئاً حتي لا يبقي منه شي ء بمعني يتلاشي ويذوب.

وهذه العملية القانونية أو قل السنّة التي يتعرض لها خط الإيمان وخط الکفر علي حد سواء تتم عبر تداول الأيام أي مرة نجد الدولة بيد الظالمين ثم تتنقل لتکون بيد المؤمنين.

قال الإمام الصادق عليه السلام:«للحق دولة وللباطل دولة وکلاهما ذليل في دولة صاحبه»حتي يتلاشي الکفر وتنتصر دولة الحق، وهذه الآية يمکن تطبيقها فتکون المقصودة هي دولة الإمام المهدي وأصحابه بيد الإمام المهدي عليه السلام وأصحابه آخر الزمان.

عن ابن عباس قال: قال رسول اللَّه صلي الله عليه وآله:«إنّ علي بن أبي طالب-عليه السلام- إمام اُمتي وخليفتي عليها من بعدي، ومن ولده القائم المنتظر الذي يملأ اللَّه به الأرض عدلاً وقسطاً کما ملئت جوراً وظلماً، والذي بعثني بالحق بشيراً إن الثابتين علي القول به في زمان غيبته لأعزّ من الکبريت الأحمر، فقام إليه جابربن عبداللَّه الأنصاري فقال: يا رسول اللَّه وللقائم من ولدک غيبة؟ قال: إي وربّي:«وليمحّص اللَّه الذين آمنوا ويمحق الکافرين»، يا جابر! إنّ هذا الأمر [أمر] من أمر اللَّه وسرّ من سرّ اللَّه، مطويّ عن عباد اللَّه، فإياک والشک فيه فإنّ الشک في أمر اللَّه عزّ وجل کفر» [7] .

4 -«يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنکُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يأَتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَي ا لْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَي ا لْکَفِرِينَ يُجَهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَايَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائمٍ...» [8] .

الآية تشير الي أمر خطير سيحدث في المستقبل والإخبار به شأن الإخبارات الاُخري التي تتحدث عنها الروايات في آخر الزمان مثل الاختلاف، والفرقة، ستختلف اُمتي الي... ثم تبنّيها الحکم بغير ما أنزل اللَّه وارتباطها مع الکفار وأهل الکتاب، هکذا يأتي الإخبار عن الارتداد - الذي يعني الرجوع عن الدين وموالاة أعداء اللَّه لا الردّة بمعناها المصطلح - الذي لم يتحقق في عصر النزول وأنبأت به الآية فهو إذاً يخص مرحلة ما قبل الظهور وتمکين أهل الحق ووراثتهم الأرض، کما أن حدث الارتداد ليس من الأحداث الطارئة الشبيهة بالحوادث الکونية کالتي تتحدث عنها علامات الظهور مثل الخسف بالبيداء والصيحة في السماء، وإنّما هذا الأمر من الأحداث التي تخضع لسير المجتمع ودور السنن الإلهية فيه الخاصة بالظواهر الاجتماعية التي لا تتشکل إلّا بعد وجود مقدماتها وتحققها فاذا حدث الارتداد في حياة الاُمة فهذا يعني أن شروط الارتداد قد تحققت.

ومفهوم الآية يشير الي أخلاق القوم المرتدين بأنهم لا يحبون اللَّه وهم أذلّاء للکفار وأعزّة علي المؤمنين، وتتحکم بهم الظروف وتلونها، وليس لهم قيم ثابتة لذا يتأثرون بکلام الناس ويتخوفون لائمتهم ويقدمونها علي القيم الإسلامية الثابتة، ويُفهم من الآية أن الارتداد في حياة الاُمة يکون طارئاً لا دوام له ولا استمرار بسبب کونه يعارض الهدف والغاية الحتمية التي خلق من أجلها الإنسان والشي ء المهم أن هذه السنة تقرر بأن الحق مستمر وبمجرد حدوث الارتداد سيعقبه الاستبدال فقوله تعالي من يرتد منکم عن دينه... إشارة الي سنة الاستبدال التي لا تتبدل وهي من الثوابت - ولن تجد لسنّة اللَّه تبديلا -.

إذاً فلا زوال ولا اضمحلال لهذه السنة ثم أنها لا تتحقق بوجود أفراد متفرقين هنا وهناک بل لابد أن يشکل الارتداد ظاهرة اجتماعية في حياة الاُمة، ويستفاد من الآية أيضاً بأن الأصالة والحتمية والبقاء لهؤلاء القوم الذين يقاتلون في الصف الإلهي وأن الغلبة والنصر سيکون لصالحهم في نهاية المسيرة البشرية کما ينبغي الالتفات الي مسألة وهي أن استمرارية الحق يصدق بوجود أفراد يحملون الرسالة ويجاهدون من أجلها هذا من جهة ومن جهة اخري أن الاستبدال لا ينحصر بالاطار الفردي ليرتد هذا الفرد مثلاً فيستبدله اللَّه بفرد آخر، وإنما الآية تتحدث باطار القوم والجماعة وبتعبير آخر الآية بصدد بيان السنن الاجتماعية لا السنن الفردية، ولما لم ترتد الاُمة کاُمة عن إسلامها أثناء عصر النزول ولا أقصد کما قلت کأفراد وإنّما کجماعة فلابد أن ترتد في وقت لاحق.

بالإضافة الي أن الآيات والروايات تشير الي أن الاستخلاف والتمکين للمؤمنين سيکون آخر الزمان فعليه فإنّ الآية لا تتحدث عن عصر النزول ولا عن عصر ما قبل التمکين وإنما تخبر عن ظاهرة ستقع ما بين العصرين ولما کان الحديث ينصب علي حياة الاُمة لا حياة الأفراد فقد يبدأ الارتداد ما بعد النبي صلي الله عليه وآله صغيراً ثم يتضاعف تدريجياً حتي يستحکم آخر الأمر فيکون مطلقاً قبل الظهور بفترة وهذا لا يلغي وجود أفراد بين الاُمة قد تمسکوا بالحق وان کانوا قليل، والمسألة تجري مجري قوله تعالي:«وقال الرّسول يارب إن قومي اتّخذوا هذا القرآن مهجوراً»فلا يفهم منه بأن الاُمة الإسلامية قد هجرت القرآن حين نزوله.

وأخيراً فإن سنة الاستبدال حافظة للاُمة من الذوبان والسقوط الکامل وتقوم من جهة بتزويد الاُمة بالوعي لأجل أن تتدارک ما يصيبها من انحراف عن طريق هذا التشبيه السنني وإيجاد علاقة مع اللَّه قائمة علي المحبة والتضحية من أجل القيم التي تقرب العبد الي محبوبه.

والمولي يعطي الرسالة نهاية الأمر لهؤلاء الذي توفرت فيهم الشروط فإن يکفر بها هؤلاء المؤمنون فيما بعد فسوف يوکّلها اللَّه لقوم غيرهم وهؤلاء الوارثين لم يدخل الکفر في حياتهم«فان يکفر بها هؤلاء فقد وکّلنا بها قوماً ليسوا بها بکافرين».

وإذا أردنا تطبيق الآية علي مصداقها يمکن الاستفادة من قول الإمام الصادق:«إن لصاحب هذا الأمر - يقصد المهدي المنتظر - محفوظ له لو ذهب الناس جميعاً أتي اللَّه بأصحابه».

وهم القوم الذين يحبهم اللَّه ويحبّونه.

وقال عليه السلام:«وهم الذين قال اللَّه عزّ وجل:«فان يکفر بها هؤلاء فقد وکّلنا بها قوماً ليسوا بها بکافرين».

عن سليمان بن هارون قال: قلت له: إنّ بعض هذه العجلة يزعمون أنّ سيف رسول اللَّه صلي الله عليه وآله عند عبداللَّه بن الحسن، فقال:«واللَّه ما رآه هؤلاء ولا أبوه بواحدة من عينيه، إلّا أن يکون أراه أبوه عند الحسين عليه السلام، وان صاحب هذا الأمر محفوظ له، فلا تذهبنّ يميناً وشمالاً، فإن الأمر واللَّه واضح، واللَّه لو أن أهل السماء والأرض اجتمعوا علي أن يحوّلوا هذا الأمر من مواضعه الذي وضعه اللَّه فيه ما استطاعوا، ولو أنّ الناس کفروا جميعاً حتي لا يبقي أحد لجاء اللَّه لهذا الأمر بأهل يکونون من أهله، ثم قال: أما تسمع ا يقول:«يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنکُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يأَتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَي ا لْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَي ا لْکَافِرِينَ» [9] .

حتي فرغ من الآية وقال في آية اُخري:«فانّ يکفر بها هؤلاء فقد وکّلنا بها قوماً ليسوا بها بکافرين»ثم قال: إنّ هذه الآية هم أهل تلک الآية» [10] .


پاورقي

[1] النساء: 83.

[2] الأنعام: 89.

[3] النساء: 133.

[4] الأنعام: 82.

[5] النحل: 99.

[6] آل عمران: 141.

[7] کمال الدين 287:1 ح7، ينابيع المودة 387:3، ح18، تفسير نور الثقلين.

[8] المائدة: 54.

[9] المائدة: 54.

[10] تفسير العياشي 326:1، بحار الأنوار 49:27، باب 17 حديث 1، وفيه العجيلة يقولون.