بازگشت

کيف اکتمل اعداد القائد المنتظر؟


السيد محمد باقر الصدر

و نأتي الآن علي السؤال الثالث القائل:کيف اکتمل إعداد القائد المنتظر مع أنه لم يعاصر أباه الإمام العسکري إلا خمس سنوات تقريبا؟و هي فترة الطفولة التي لا تکفي لإنضاج شخصية القائد،فما هي الظروف التي تکامل من خلالها؟

و الجواب:إن المهدي عليه السلام خلف أباه في إمامة المسلمين،و هذا يعني أنه کان إماما بکل ما في الإمامة من محتوي فکري و روحي في وقت مبکر جدا من حياته الشريفة.

و الإمامة المبکرة ظاهرة سبقه إليها عدد من آبائه عليهم السلام،فالإمام محمد بن علي الجواد عليه السلام تولي الإمامة و هو في الثامنة من عمره [1] و الإمام علي بن محمد الهادي تولي الإمامة و هو في التاسعة [2] من عمره،و الإمام أبو محمد الحسن العسکري [3] والد القائد المنتظر تولي الإمامة و هو في الثانية و العشرين من عمره،و يلاحظ أن ظاهرة الإمامة المبکرة بلغت ذروتها في الإمام المهدي و الإمام الجواد،و نحن نسميها ظاهرة لأنها کانت بالنسبة إلي عدد من آباء المهدي عليه السلام تشکل مدلولا حسيا عمليا عاشه المسلمون،و وعوه في تجربتهم مع الإمام بشکل و آخر،و لا يمکن أن نطالب بإثبات لظاهرة من الظواهر أوضح و أقوي من تجربة أمة. [4] و نوضح ذلک ضمن النقاط التالية:

أـلم تکن إمامة الإمام من أهل البيت مرکزا من مراکز السلطان و النفوذ التي تنتقل بالوراثة من الأب إلي الابن،و يدعمها النظام الحاکم کإمامة الخلفاء الفاطميين،و خلافة الخلفاء العباسيين،و إنما کانت تکتسب ولاء قواعدها الشعبية الواسعة عن طريق التغلغل الروحي،و الإقناع الفکري لتلک القواعد بجدارة هذه الإمامة لزعامة الإسلام،و قيادته علي أسس روحية و فکرية.

بـإن هذه القواعد الشعبية بنيت منذ صدر الإسلام،و ازدهرت و اتسعت علي عهد الإمامين الباقر و الصادق عليهما السلام،و أصبحت المدرسة التي رعاها هذان الإمامان في داخل هذه القواعد تشکل تيارا فکريا واسعا في العالم الإسلامي،يضم المئات من الفقهاء و المتکلمين و المفسرين و العلماء في مختلف ضروب المعرفة الإسلامية و البشرية المعروفة و قتئذ،حتي قال الحسن بن علي الوشا:إني دخلت مسجد الکوفة فرأيت فيه تسعمائة شيخ [5] کلهم يقولون حدثنا جعفر بن محمد.جـإن الشروط التي کانت هذه المدرسة و ما تمثله من قواعد شعبية في المجتمع الإسلامي،تؤمن بها و تتقيد بموجبها في تعيين الإمام و التعرف علي کفاءته للإمامة،شروط شديدة،لأنها تؤمن بأن الإمام لا يکون إماما إلا إذا کان أعلم علماء عصره. [6] .

دـإن المدرسة و قواعدها الشعبية کانت تقدم تضحيات کبيرة في سبيل الصمود علي عقيدتها في الإمامة،لأنها کانت في نظر الخلافة المعاصرة لها تشکل خطا عدائيا،و لو من الناحية الفکرية علي الأقل،الأمر الذي أدي إلي قيام السلطات وقتئذ و باستمرار تقريبا حملات من التصفية و التعذيب،فقتل من قتل،و سجن من سجن،و مات في ظلمات المعتقلات المئات.و هذا يعني أن الاعتقاد بإمامة أئمة أهل البيت کان يکلفهم غاليا، [7] و لم يکن له من الإغراءات سوي ما يحس به المعتقد أو يفترضه من التقرب إلي الله تعالي و الزلفي عنده.

هـإن الأئمة الذين دانت هذه القواعد لهم بالإمامة لم يکونوا معزولين عنها،و لا متقوقعين في بروج عالية شأن السلاطين مع شعوبهم،و لم يکونوا يحتجبون عنهم إلا أن تحجبهم السلطة الحاکمة بسجن أو نفي،و هذا ما نعرفه من خلال العدد الکبير من الرواة و المحدثين عن کل واحد من الأئمة الأحد عشر،و من خلال ما نقل من المکاتبات التي کانت تحصل بين الإمام و معاصريه،و ما کان الإمام يقوم به من أسفار من ناحية،و ما کان يبثه من وکلاء في مختلف أنحاء العالم الإسلامي من ناحية أخري،و ما کان قد اعتاده الشيعة من تفقد أئمتهم و زيارتهم في المدينة المنورة عند ما يؤمون الديار المقدسة من کل مکان لأداء فريضة الحج، [8] کل ذلک يفرض تفاعلا مستمرا بدرجة واضحة بين الإمام و قواعده الممتدة في أرجاء العالم الإسلامي بمختلف طبقاتها من العلماء و غيرهم.

وـإن الخلافة المعاصرة للأئمة عليهم السلام کانت تنظر إليهم و إلي زعامتهم الروحية و الإمامية بوصفها مصدر خطر کبير علي کيانها و مقدراتها،و علي هذا الأساس بذلت کل جهودها في سبيل تفتيت هذه الزعامة،و تحملت في سبيل ذلک کثيرا من السلبيات،و ظهرت أحيانا بمظاهر القسوة و الطغيان حينما اضطرها تأمين مواقعها إلي ذلک،و کانت حملات الاعتقال و المطاردة مستمرة للأئمة [9] أنفسهم علي الرغم مما يخلفه ذلک من شعور بالألم أو الاشمئزاز عند المسلمين و للناس الموالين علي اختلاف درجاتهم.إذا أخذنا هذه النقاط الست بعين الاعتبار،و هي حقائق تاريخية لا تقبل الشک،أمکن أن نخرج بنتيجة و هي:أن ظاهرة الإمامة المبکرة کانت ظاهرة واقعية و لم تکن وهما من الأوهام،لأن الإمام الذي يبرز علي المسرح و هو صغير فيعلن عن نفسه إماما روحيا و فکريا للمسلمين،و يدين له بالولاء و الإمامة کل ذلک التيار الواسع،لا بد أن يکون علي قدر واضح و ملحوظ بل و کبير من العلم و المعرفة وسعة الأفق و التمکن من الفقه و التفسير و العقائد،لأنه لو لم يکن کذلک لما أمکن أن تقتنع تلک القواعد الشعبية بإمامته،مع ما تقدم من أن الأئمة کانوا في مواقع تتيح لقواعدهم التفاعل معهم و للأضواء المختلفة أن تسلط علي حياتهم و موازين شخصيتهم.فهل تري أن صبيا يدعو إلي إمامة نفسه و ينصب منها علما للإسلام و هو علي مرأي و مسمع من جماهير قواعده الشعبية،فتؤمن به و تبذل في سبيل ذلک الغالي من أمنها و حياتها بدون أن تکلف نفسها اکتشاف حاله،و بدون أن تهزها ظاهرة هذه الإمامة المبکرة لاستطلاع حقيقة الموقف و تقييم هذا الصبي الإمام؟ [10] و هب أن الناس لم يتحرکوا لاستطلاع المواقف،فهل يمکن أن تمر المسألة أياما و شهورا بل أعواما دون أن تتکشف الحقيقة علي الرغم من التفاعل الطبيعي المستمر بين الصبي الإمام و سائر الناس؟و هل من المعقول أن يکون صبيا في فکره و علمه حقا ثم لا يبدو ذلک من خلال هذا التفاعل الطويل؟

و إذا افترضنا أن القواعد الشعبية لإمامة أهل البيت لم يتح لها أن تکتشف واقع الأمر،فلما ذا سکتت الخلافة القائمة و لم تعمل لکشف الحقيقة إذا کانت في صالحها؟و ما کان أيسر ذلک علي السلطة القائمة لو کان الإمام الصبي صبيا في فکره و ثقافته کما هو المعهود في الصبيان،و ما کان أنجحه من أسلوب أن تقدم هذا الصبي إلي شيعته و غير شيعته علي حقيقته،و تبرهن علي عدم کفاءته للإمامةو الزعامة الروحية و الفکرية.فلئن کان من الصعب الإقناع بعدم کفاءة شخص في الأربعين أو الخمسين قد أحاط بقدر کبير من ثقافة عصره لتسلم الإمامة،فليس هناک صعوبة في الإقناع بعدم کفاءة صبي اعتيادي مهما کان ذکيا و فطنا للإمامة بمعناها الذي يعرفه الشيعة الإماميون، [11] و کان هذا أسهل و أيسر من الطرق المعقدة و أساليب القمع و المجازفة التي انتهجتها السلطات و قتئذ.

إن التفسير الوحيد لسکوت الخلافة المعاصرة عن اللعب بهذه الورقة، [12] هو أنها أدرکت أن الإمامة المبکرة ظاهرة حقيقية و ليست شيئا مصطنعا.

و الحقيقة أنها أدرکت ذلک بالفعل بعد أن حاولت أن تلعب بتلک الورقة فلم تستطع،و التأريخ يحدثنا عن محاولات من هذا القبيل و فشلها، [13] بينما لم يحدثنا إطلاقا عن موقف تزعزعت فيه ظاهرة الإمامة المبکرة أو واجه فيه الصبي الإمام إجراحا يفوق قدرته أو يزعزع ثقة الناس فيه.

و هذا معني ما قلناه من أن الإمامة المبکرة ظاهرة واقعية في حياة أهل البيت و ليست مجرد افتراض،کما أن هذه الظاهرة الواقعية لها جذورها و حالاتها المماثلة في تراث السماء الذي امتد عبر الرسالات و الزعامات الربانية.

و يکفي مثالا لظاهرة الإمامة المبکرة في التراث الرباني لأهل البيت عليهم السلام يحيي عليه السلام إذ قال الله سبحانه و تعالي: يا يحيي خذ الکتاب بقوة و آتيناه الحکم صبيا سورة مريم:.12

و متي ثبت أن الإمامة المبکرة ظاهرة واقعية و متواجدة فعلا في حياة أهل البيت لم يعد هناک اعتراض فيما يخص إمامة المهدي عليه السلام و خلافته لأبيه و هو صغير. [14] .


پاورقي

[1] راجع:الفصول المهمة لابن الصباغ المالکي المکي(ت/855 ه).و راجع:الإرشاد/الشيخ المفيد:ص 316 و ما بعدها.

[2] راجع:التتمة في تواريخ الأئمة/السيد تاج الدين العاملي من أعلام القرن الحادي عشر الهجري،نشر مؤسسة البعثةـقم.و راجع:الصواعق المحرقة لابن حجر:ص 123ـ124،إذ ذکر طرفا من سيرة الإمام و کراماته.

[3] راجع:التتمة في تواريخ الأئمة/السيد تاج الدين العاملي من أعلام القرن الحادي عشر الهجري،نشر مؤسسة البعثةـقم.و راجع:الصواعق المحرقة لابن حجر:ص 123ـ124،إذ ذکر طرفا من سيرة الإمام و کراماته.

[4] راجع:الإرشاد/الشيخ المفيد:ص 319 و ما بعدها.

الصواعق المحرقة:ص 123ـ124.

فقد أوردا قصة المحاورة التي دارت بين الإمام الجواد عليه السلام و بين يحيي بن أکثم زمن المأمون،و کيف استطاع الإمام عليه السلام أن يثبت أعلميته و قدرته علي إفحام الخصم و هو في تلک السن المبکرة.

[5] راجع:المجالس السنية/السيد الأمين العاملي 5:209،و هذه قضية مشهورة تناقلها الخاص و العام.و راجع:صحاح الأخبار/محمد سراج الدين الرفاعي:ص 44،نقلا عن الإمام الصادق و المذاهب الأربعة/أسد حيدر 1:56.و قال ابن حجر في الصواعق المحرقة ص 120:«جعفر الصادق،نقل الناس عنه من العلوم ما سارت به الرکبان،و انتشر صيته في جميع البلدان،و روي عنه الأئمة الأکابر کيحيي بن سعيد و ابن جريج و مالک و السفيانين و أبي حنيفة و شعبة و أيوب السختياني...».

[6] کون الإمام أعلم أهل زمانه أمر متسالم عليه عند الإمامية.راجع:الباب الحادي عشر/العلامة الحلي،هذا و قد عرضوا لأکثر من اختبار صلوات الله و سلامه عليهم لإثبات هذا المدعي،و نحجوا فيه.

راجع:الصواعق المحرقة لابن حجر:ص 123،فقد نقل تفصيلا في هذه المسألة عن مسائل يحيي بن أکثم للإمام الجواد عليه السلام.

[7] إن الاعتقاد بإمامة الأئمة کلف أتباعهم غاليا،و هذا ثابت تاريخيا،و ليس إلي إنکاره من سبيل،و الشاهد يدل علي الغائب أيضا.راجع:مقاتل الطالبيين لأبي الفرج الأصفهاني.

[8] و قد أوصي الأئمة بذلک أتباعهم کما هو لسان الروايات الکثيرة.

راجع:أصول الکافي 1:322/کتاب الحجةـ باب 2«إن الواجب علي الناس بعد ما يقضون مناسکهم أن يأتوا الإمام فيسألونه عن معالم دينهم،و يعلمونه ولايتهم و مودتهم له».

[9] راجع في تاريخ الأئمة عليهم السلام،و تعرضهم للاضطهاد و المطاردة و السجن و القتل أحيانا:

أـالفصول المهمة لابن الصباغ المالکي.

بـمقاتل الطالبيين لأبي الفرج الأصفهاني.

جـالإرشاد للشيخ المفيد.

[10] إشارة إلي الإمام المهدي عليه السلام،و من قبل إلي الإمام الجواد مثلا.

[11] أي علي أنه يجب أن يکون أفضل الناس،و أعلم الناس کما هو معتقد الإمامية الاثني عشرية.

راجع:حق اليقين في معرفة أصول الدين للسيد عبد الله شبر(ت/1242 ه)1:141،المقصد الثالث.

[12] يقصد تقديم الإمام الصبي للاختبار أمام الملأ لإظهار حقيقة الأمر.

[13] قد فعل المأمون ذلک،و انکشف لدي الخاص من العلماء مدي ما يمتلکه الإمام الجواد عليه السلام من الفقه و العلم.راجع:الصواعق المحرقة لابن حجر:ص 123.

[14] و قد شاهد خاصة الشيعة الإمام المهدي و اتصلوا به،و أخذوا عنه،کما حصل عن طريق السفراء الأربعة.راجع:تبصرة الولي فيمن رأي القائم المهدي/البحراني،الإرشاد/الشيخ المفيد:ص 345،و راجع تفصيلا وافيا في دفاع عن الکافي/السيد ثامر العميدي 1:535 و ما بعدها.

بحث حول المهدي ص 93.