الامامة المبکّرة ظاهرة واقعية
إن الإمام الذي يبرز علي المسرح وهو صغير فيعلن عن نفسه إماماً روحيّاً وفکرياً للمسلمين، ويدين له بالولاء والإمامة کلُّ ذلک التيار الواسع، لابد أن يکون علي قدر واضح وملحوظ - بل وکبير - من العلم والمعرفة، وسعة الأفق، والتمکن من الفقه، والتفسير، والعقائد، لأنه لو لم يکن کذلک لما أمکن أن تقتنع تلک القواعد الشعبية بإمامته.
مع أنَّ الأئمة کانوا في مواقع تتيح لقواعدهم التفاعل معهم، وللأضواء المختلفة أن تُسلّط علي حياتهم وموازين شخصيتهم.
فهل من المعقول أن صبيّاً يدعو إلي إمامة نفسه وينصب منها علماً للإسلام وهو علي مرأيً ومسمع من جماهير قواعده الشعبية، فتؤمن به وتبذل في سبيل ذلک الغالي، من أمنها وحياتها، بدون أن تکلِّف نفسها اکتشاف حاله، وبدون أن تهزّها ظاهرة هذه الإمامة المبکرة لاستطلاع حقيقة الموقف وتقويم هذا الصبيِّ الإمام؟.
ولو فرضنا أنَّ الناس لم يتحرکوا لاستطلاع المواقف، فهل يمکن أن تمرَّ المسألة أياماً وشهوراً، بل أعواماً دون أن تتکشَّف الحقيقة، علي الرغم من التفاعل الطبيعي المستمر بين الصبي الإمام وسائر الناس؟.
وهل من المعقول أن يکون صبياً في فکره وعلمه حقّاً، ثم لا يبدو ذلک من خلال هذا التفاعل الطويل؟.
وإذا افترضنا أن القواعد الشعبية لإمامة أهل البيت (عليهم السلام) لم يُتح لها أن تکتشف واقع الأمر، فلماذا سکتت الخلافة القائمة ولم تعمل لکشف الحقيقة إذا کانت في صالحها؟.
وما کان أيسر ذلک علي السلطة القائمة لو کان الإمام الصبي صبياً في فکره وثقافته کما هو المعهود في الصبيان، وما کان أنجحه من أسلوب أن تقدم هذا الصبي إلي شيعته وغير شيعته علي حقيقته، وتبرهن علي عدم کفاءته للإمامة والزعامة الروحية والفکرية.
فلئن کان من الصعب الإقناع بعدم کفاءة شخص في الأربعين أو الخمسين قد أحاط بقدر کبير من ثقافة عصره لِتَسَلُّم الإمامة، فليس هناک صعوبة في الإقناع بعدم کفاءة صبيٍّ اعتيادي مهما کان ذکيّاً وفطناً للإمامة بمعناها الذي يعرفه الشيعة الإماميون.
وکان هذا أسهل وأيسر من الطرق المعقّدة وأساليب القمع، والمجازفة التي انتهجتها السلطات وقتئذٍ.
إن التفسير الوحيد لسکوت الخلافة المعاصرة عن اللعب بهذه الورقة، هو أنها أدرکت أن الإمامة المبکرة ظاهرة حقيقية وليست شيئاً مصطنعاً.
وهذا معني ما قلناه من أنَّ الإمامة المبکِّرة ظاهرة واقعية في حياة أهل البيت (عليهم السلام) وليست مجرَّد افتراض.
کما أنَّ هذه الظاهرة الواقعية لها جذورها وحالاتها المماثلة في تراث السماء الذي امتدّ عبر الرسالات والزعامات الربانية.
ويکفي مثالاً لظاهرة الإمامة المبکِّرة في التراث الرباني لأهل البيت (عليهم السلام) النبي يحيي (عليه السلام)، إذ قال الله سبحانه وتعالي:
(يَا يَحْيَي خُذِ الْکِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُکْمَ صَبِيًّا) مريم: 12.
ومتي ثبت أن الإمامة المبکرة ظاهرة واقعية ومتواجدة فعلاً في حياة أهل البيت (عليهم السلام) لم يعد هناک اعتراض فيما يخصُّ إمامة المهدي (عليهم السلام) وخلافته لأبيه وهو صغير.