دولة الامام المهدي و رسالات الانبياء
الشيخ محسن الأراکي
حينما نطالع القرآن الکريم ونتأمّل، نجد هنالک حقيقة مُسلمة يؤکد عليها القرآن وهي ان الرُسل جميعاً جاؤوا من أجل اقامة حکومة عادلة يعمها القسط والعدل وان الامامة کانت دائماً علي مدي التاريخ جزءاً من مهمة الرُسل، وجزءاً من رسالات الأنبياء، وان کل رسالة کانت تتضمن امامة، وان کل رسالة کانت تصحبها إمامة ضمنها، إمامة لإقامة القسط والعدل في مجتمع الانسان. قال الله تعالي في کتابه الکريم (لقد أرسلنا رُسلنا بالبيّنات وأنزلنا معهم الکتاب والميزان ليقوم النّاس بالسقط) هذه الآية تؤکد بصراحة ان جميع الرُسل بُعثوا من أجل أن يقوم الناس بالقسط، فقيام مجتمع القسط في العالم کلّه هو الغاية التي کان يدعو لها الأنبياء والرّسل علي مدي التاريخ، وإذا طالعنا سائر آيات الکتاب الکريم وجدنا ان الرسالة تتضمن مسؤولية اقامة المجتمع العادل علي وجه الأرض ولعلّ فرقها الأساس عن النبوة المحضة يتمثّل في أنّ النبوّة المحضة هي عبارة عن ابلاغ أمر الله ونهيه.
أمّا الرسالة فليست هي مجرد ابلاغ الأمر والنهي وإنما هي ابلاغ الأمر والنهي مع تنفيد وتطبيق الشريعة الإلهية علي وجه الأرض في صورة اقامة مجتمع عادل تحکمه الفضيلة والتقوي.
عندما نطالع آيات سورة الشعراء نجد أن القرآن الکريم يحکي عن لسان الأنبياء جميعاً أنهم دعوا الناس إلي تقوي الله وإلي اطاعتهم (إنّا أرسنا نوحاً... إنّا أرسلنا هوداً... إنّا أرسلنا صالحاً... إنّا أرسلنا شعيباً...) وعلي مدي التاريخ فماذا کانت دعوة هؤلاء الأنبياء جميعاً؟
کانت دعوتهم تتلخص بکلمتين اتقوا الله وأطيعوني أنا القائد الذي بُعثت إليکم من قبل الله سبحانه وتعالي، بُعثت إليکم لأقودکم من أجل اقامة مجتمع القسط والعدل، بُعثت من قبل الله لأقيم حکومة العدل والقسط فأطيعوني في الدعوة إلي تقوي الله وإلي اطاعة الرسول بما هو حاکم وقائد وولي للأمر، الذي يشهد لهذا المفهوم الذي يشهد ان المراد من «أطيعوني» هو اطاعة الرسول بما هو قائد سياسي يدعو إلي اقامة الحکومة العادلة وإلي اقامة مجتمع القسط الذي يدل علي ذلک قرائن کثيرة في هذه الآيات، منها:
إنّ الطاعة هنا نُسبت إلي النبي نفسه (اتّقوا الله وأطيعون) ولم تقل الآية اتقوا الله وأطيعوهُ وإن کانت طاعة النبي والرسول طاعة لله سبحانه لکن في نسبة هذه الطاعة إلي الرسول دلالة علي ان هذه الاطاعة هي اطاعة الحکم اطاعة للرسول بما هو حاکم وليست اطاعة للرسول فقط بما هو مُبلغ لأمر الله ونهيه، والقرينة الأخري التي تدل علي ان هذه الاطاعة هي اطاعة للرسول بما هو حاکم قوله تعالي في ضمن هذه الآيات نفسها في سورة الشعراء حينما يحکي رسالة صالح (ع) ماذا يقول صالح لقومه (اتّقوا الله وأطيعوني ولا تطيعوا أمر المسرفين الّذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون) هذه التقابل الذي تقيمه هذه الآيات بين اطاعة الرسول وبين اطاعة المسرفين الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون والتي تدل علي ان الرسول کانت مهمته تتلخص في ان يرفض طاعة المفسدين وان يدعو الناس والجماهير إلي رفض طاعة المُسرفين والمفسدين والدعوة إلي طاعته هو کحاکم عادل يدعو إلي اقامة مجتمع القسط والعدل، هذه الآيات کالصريحة في ان دعوة الأنبياء إلي طاعتهم إنما کانت دعوة إلي طاعتهم بما هم حُکّام سياسيين يدعون إلي قيادة سياسية تطبق العدل والقسط في مجتمع الانسان، يقول تعالي: (فاتّقوا الله وأطيعوني ولا تطيعوا أمر المسرفين الّذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون).
وحينما نطالع الآيات القرآنية الکثيرة الأخري نجدها جميعاً تؤکد علي هذا المفهوم، بل لو دقّقنا في آيات القرآن وتأملنا لوجدنا ان القرآن الکريم کلما دعا إلي التوحيد وکلما دعا إلي عبادة الله الواحد إنما أراد من التوحيد ما يشمل توحيد الطاعة أيضاً فحينما يقول الأنبياء (اعبدوا الله ما لکم من إله غيره) يقصدون بذلک اعبدوهُ في کل سکناتکم وفي کل حرکاتکم والعبادة التي نفهمها من قرآننا معناها الذي نفهمه من القرآن الکريم ومن آيات الکتاب ان العبادة تعني التسليم لله سبحانه وتعالي في کل فعل اختياري يقوم به الانسان عن شعور ووعي. معني العبادة أن يکون الانسان مطيعاً لله سبحانه وتعالي في کل فعل اختياري يقوم به عن ارادة ووعي، ومضي التوحيد في العبادة بمعني التسليم لله سبحانه وتعالي واطاعته ورفض اطاعة غيره، فکل اطاعة لغير الله سبحانه إذا لم تنته إلي طاعة الله فهي طاعة للطاغوت بتصريح الآيات القرآنية وبصراحة في الروايات الکثيرة التي وردت عن المعصومين سلام الله تعالي عليهم کل طاعة في الأمور الاختيارية، کل تعبد بأمر انسان ما لو يکن هذا التعبد ولم تکن هذه الطاعة بإذن من الله سبحانه وتعالي وبسماح له لو لم تکن هذه الطاعة تنتهي إلي طاعة الله سبحانه وتعالي فهي خارجة عن عبودية الله سبحانه وتعالي هذا المفهوم يمکن أن نفهمه من آيات الکتاب بوضوح. کل هذا وغير ذلک يدلنا علي ان الرُسل جميعاً جاؤوا من أجل اقامة مجتمع لا يُطيع غير الله سبحانه، مجتمع لا تکون القوة والقدرة للأمر والنهي فيه إلاّ لله سبحانه وتعالي، يقول عزّ وجلّ: (ولله الحمد في الاُولي والآخرة وله الحکم وإليه ترجعون) فلله الحکم هو الذي يحکم ويأمر وينهي، هو الذي يُطاع وليس غيره.
هذا المفهوم نفهمه من مجمل آيات الکتاب الکريم، فإذا عرفنا ان الرسالات کلّها جاءت لتقيم مجتمع القسط والعدل فإذا وصلنا في سلسلة هذه الرسالات إلي الرسالة الخاتمة وهي رسالة نبينا محمّد (ص) هذه الرسالة الخاتمة هي الرسالة التي علي عُهدتها ان تقيم المجتمع القسط الذي يستمر إلي أبد الدهر، مجتمع القسط الذي يحکم إلي النهاية لأن الرسالة رسالة خاتمة ليست هذه الرسالة رسالة تنتظر رسالة أخري بعدها تُکملها أو تقوم بدورها أو تحل محلها، فهي رسالة خاتمة ومعني الرسالة الخاتمة يعني أنها الرسالة التي تقيم مجتمع القسط الذي دعا إليه الأنبياء وبه تتحقق أهداف الأنبياء وبه تتحقق الغاية التي بُعث من أجلها الأنبياء.
لابدّ لهذا المجتمع الذي يقيمه الرسول (ص) والذي جاء لتحقيقه الرسول أن يکون المجتمع الذي به وإلي ساحله ترشو سُفن المجتمع البشري إلي نهاية الحياة، هذا هو المفهوم الذي نفهمه من قرآننا ونفهمه من سنة النبي (ص) مما لا مجال فيه للشک والريب.
إذن فلا بدّ للامامة التي تتضمنها هذه الرسالة ان تکون امامة مستمرة إلي قيام هذا المجتمع الذي سوف يستقر استقراراً نهائياً علي وجه هذه الأرض، لابدّ لهذه الامامة من أن تکون امامة يتحقق علي يديها هذا الحکم، وهذه الغاية الکبري التي بُعثت من أجلها الأنبياء (ع) علي مدي التاريخ ولذلک کان لابد للامامة التي تتضمنها رسالة النبي (ص) أن تکون امامة مستمرة من بعده وتشير إلي نقطة وهي ان الآية الکريمة أکدت ان الامامة أمر منزل من الله سبحانه وتعالي، يقول عزّ وجلّ: (لقد أرسلنا رُسلنا بالبيّنات وأنزلنا معهم الکتاب والميزان) الکتاب هو التشريع ولکن الميزان هو قوة الامامة يشهد لهذا کثير من آيات القرآن الکريم، فالانسان الذي يتتبّع آيات القرآن ويتتبع أحاديث النبي (ص) يعرف ان المقصود بالميزان هو قوة الامامة وهي تلک القوة التي بها يُصبح انسان ما فِعله وقوله وحرکاته وسکناته ميزاناً لرضا الله سبحانه وتعالي، ميزاناً للحق والعدل، «عليٌّ مع الحق والحق مع عليّ، يدور معه حيثما دار» هذه هي حقيقة الميزانية التي تمثلت في أمير المؤمنين سلام الله تعالي عليه بعد الرسول وهذه الحقيقة کانت متمثلة في سُلوک الرُسل، الذين کانوا هم الموازين وفي روايتنا الکثير مما يدل علي انه المقصود بالموازين والميزان هم الأنبياء والأوصياء.
الإمامة هي الميزان، الامامة حينما کانت هناک رسالة الامامة ضمن الرسالة کان الرسول (ص) رسولاً اماماً في وقت واحد، کان قد أُنزل عليه الکتاب وقد أُنزل عليه الميزان ولکن الکتاب خُتم بنبينا محمّد (ص)، أما الميزان فالمجتمع البشري بحاجة إلي الميزان علي مدي الدهر، ولأن المجتمع البشري بحاجة إلي تطبيق العدل علي مدي الدهر ولأن المجتمع البشري بحاجة إلي اقامة القسط علي مدي الدهر واقامة القسط والعدل، لذا فهو بحاجة إلي إمامة مستمرّة وإلي ميزان قائم علي مدي الدهر، هذا الميزان هو الذي يتمثل في الأئمة المعصومين (ع) وهذا الذي يتمثل في الإمام المهدي صاحب العصر صلوات الله تعالي عليه ولذلک جاءت الروايات تؤکد علي انه لو لم يبق من عمر هذه الدنيا إلاّ يوم واحد لطوّل الله ذلک اليوم حتي يظهر ذلک الذي يملأ الله به الأرض قسطاً وعدلاً کما مُلئت ظلماً وجوراً، لأنه لو لم يظهر هذا الذي وعد الله به، لو لم يظهر هذا الإمام الذي وعدنا الله سبحانه وتعالي به لأنتفت النتيجة والغاية التي بُعثت الأنبياء والرّسل من أجلها وهي إقامة المجتمع العادل ومجتمع القسط علي وجه هذه الأرض، يقول عزّ وجلّ: (انّا أرسلنا رسلنا بالبيّنات وأنزلنا معهم الکتاب والميزان) أرسلنا کل هؤلاء ليقوم الناس بالقسط، هذه هي الغاية التي بُعث من أجلها الرُسل والأنبياء فلا بدّ لهذا الإمام الذي هو الميزان الذي به يُوزن الحق وبه يُوزن العدل وبه وبسلوکه وبهدايته وبقيادته وبامامته يُطبق العدل الصريح والعدل المحض علي وجه هذه الأرض ولابدّ من ظهور هذا الإمام لکي تتحقق الغاية التي وعدنا الله سبحانه وتعالي بها. نسأل الله سبحانه وتعالي أن يُعجِّل في فرجه وأن يجعلنا من أنصاره وأعوانه، إنّه سميع مجيب.